رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: أحمد الشحات 7 يوليو، 2022 0 تعليق

مشاهد وعبر من سورة الكهف – قصة صاحب الجنتين (الأخيرة) المشهد الثالث: حقائق الكون وأهوال يوم القيامة

قصة صاحب الجنتين هي إحدى قصص سورة الكهف يعرض لنا ربنا -سبحانه وتعالى- فيها الصراع بين الحق والباطل، وطرفا الصراع هنا رجلان: أحدهما كافر: وهو الذي نعته القرآن بـ(صاحب الجنتين)، والطرف الآخر: مؤمن، وهو الذي يمثِّل جانب الحق، والخير والصلاح، وقد احتوت هذه القصة على ثلاثة مشاهد المشهد الأول: العطية الإلهية والحوار الكاشف، والمشهد الثاني: البوار الكامل، واليوم نستكمل الحديث عن رسائل المشهد الثالث:

 

الرسالة السادسة: القرآن كتاب الهداية والنجاة

       قال الله -تعالى-: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا}: جعل الله بين المعبودين وبين عُبَّادِهم مهلكة لا يجتازونها؛ هذه المهلكة هي النار والعياذ بالله، فإذا تطلع المجرمون إلى هذه النار العظيمة، امتلأت قلوبهم بالخوف والرعب، وهم يتوقعون في كل لحظة أن يقعوا فيها، وقد أيقنوا أنه لا نجاة منها، ولا مصرف عنها، ثم يوبخهم القرآن ويذكرهم بأنه كان لهم عنها مصرف، لو أنهم صرفوا قلوبهم في الدنيا للقرآن، ولم يجادلوا في الحق الذي جاء به.

عظمة القرآن وجلالته وعمومه

        قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: «يخبر الله -تعالى- عن عظمة القرآن وجلالته وعمومه، وأنه صرَّف فيه مِن كل مثل، أي: مِن كل طريق موصل إلى العلوم النافعة، والسعادة الأبدية، وكل طريق يعصم من الشر والهلاك، ففيه أمثال الحلال والحرام، وجزاء الأعمال، والترغيب والترهيب، والأخبار الصادقة النافعة للقلوب؛ اعتقادًا، وطمأنينة، ونورًا، وهذا مما يوجب التسليم لهذا القرآن وتلقيه بالانقياد والطاعة، وعدم المنازعة له في أمر من الأمور، ومع ذلك، كان كثير من الناس يجادلون في الحق بعد ما تبين، ويجادلون بالباطل».

الرسالة السابعة: وظيفة الرسل

       قال الله -تعالى-: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا}: أرسل الله -عز وجل- الرسل لكي يدعوا الناس إلى كل خير، وينهوهم عن كل شر، ويبشروهم على امتثال ذلك بالثواب العاجل والآجل، وينذروهم على معصية ذلك بالعقاب العاجل والآجل، فقامت بذلك حجة الله على العباد، ومع ذلك يأبى الظالمون الكافرون إلا المجادلة بالباطل، ليدحضوا به الحق، فسعوا في نصر الباطل ما أمكنهم، وفي دحض الحق وإبطاله، واستهزأوا برسل الله وآياته، وفرحوا بما عندهم من العلم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

الرسالة الثامنة: الرحمة الواسعة والعقوبة المقدرة

       قال الله -تعالى-: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا}: أخبرنا القرآن أنه لا أحد أكثر ظلمًا، ولا أعظم جرمًا من هؤلاء الذين يستهزئون بآيات الله، ويُعرضون عن شرعه؛ ولأجل ذلك حجب الله عنهم الانتفاع بالقرآن وبآياته، فجعل على قلوبهم أغطية تحول دون فقهه، وجعل في آذانهم صممًا فلا يستمعون إليه، وقدَّر عليهم الضلال -بسبب استهزائهم وإعراضهم-؛ فلن يجدوا للهداية سبيلًا.

الرسالة التاسعة: منظومة الرحمة في سورة الكهف

        قال الله -تعالى-: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا}: جاء ذكر الرحمة في سورة الكهف في عدة مواضع، وقد حكاها القرآن على لسان عددٍ مِن أبطال القصة، منها: قول الله -عز وجل- على لسان فتية الكهف: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}، وقولهم: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا}.

       ومنها قول الله -عز وجل- على لسان الخضر -عليه السلام- في شأن الغلامين: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}، وقوله بشأن الغلام: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا}، وقال الله عن الخضر: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}، وقول الله -عز وجل- على لسان ذي القرنين: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}، ثم قول الله عن نفسه: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ}.

رحمة الله سبقت غضبه

       كل هذه المواطن وغيرها تدل على أن اللهَ -عز وجل- رحيمٌ، وأن رحمته سبقت غضبه، وأنه -عز وجل- يحب أن يعفو ويغفر ويصفح، ومِن مظاهر هذه الرحمة: أن الله يؤخِّر عذاب العاصين، ويؤجل عقوبة المكذبين؛ فالله -عز وجل- يحلُم على خلقه ويمهلهم حتى يظل طريق الرجوع والتوبة مفتوحًا أمامهم، ولو كانت العقوبة فورية لهلك الناس، وانتهت الحياة، يقول -تعالى-: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (النحل:61)، وقال -عز وجل-: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (فاطر:45).

إذا أذِن الله بهلاك قرية أو قوم

        وبالتالي: فإذا رأيتَ أن الله أذِن بهلاك قرية أو قوم، فاعلم أنهم قد بلغوا من العذر مبلغه، وأن الله لم يُنزل عليهم عقوبته، ولم يُحلّ بهم غضبه إلا بعد أن تجبروا وتمادوا وأوغلوا في الظلم والطغيان، قال الله -تعالى-: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} (القصص:59)، وقال -تعالى-: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود:117)، فإذا وقع منهم هذا الفساد في الأرض بعد الإعذار والإنذار، استحقوا شديد العذاب كما قال -تعالى-: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود:102).

 

 

فوائد من المشهد

-  الله هو الذي بيده مقادير الخلائق، وهو القدير الذي لا يعجزه أحد، فلا تغتر بكثرة مالٍ فقد يذهب المال، ولا بكثرة أنصار فقد ينصرفون عنك، ولا بالجاه والسلطان، فقد تتبدل المواقع، ويصير المحكوم حاكمًا، والحاكم مسجونًا، والقصص في تبدُّل حال الدنيا وتنكرها لأهلها كثيرة ومؤلمة؛ فإياك أن تكون واحدًا من هؤلاء الضحايا، بل علِّق قلبك بالله وثق به، واحتمِ بجنابه، يحفظك الله من فتن الدنيا وسوء عواقبها.

- لا ينهى الإسلام عن الزينة الحلال، ولا يمنع من المتع الطيبة المباحة، ولكنه يعطيها القيمة التي تستحقها؛ فلا يسمح الإسلام لأتباعه أن تختل لديهم الموازين، أو أن يضطرب في حسهم ترتيب الأولويات، فتصبح الزينة والمتاع هي معيار التقييم والتفاضل بين الناس، أو أن يحتل الانشغال بالدنيا المرتبة المتقدمة على غيرها من واجبات الدين، أو أن يصبح اللهو -مع كونه مباحًا- أصلًا وركيزةً يُنفق عليها الإنسان وقته أو ماله أو جهده.

- أخبرنا القرآن أن عداوة إبليس لبني آدم لم تتوقف عليه فقط، ولكن حذرنا من أن له ذرية يسيرون على طريقته نفسها ويتبعون منهجه؛ فلا يستقيم لعاقلٍ أن يسلم زمام أمره لعدوه فيواليه، ويترك ولاية الله -عز وجل- التي فيها الخير والفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك