رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: أحمد الشحات 20 سبتمبر، 2022 0 تعليق

مشاهد وعبر من سورة الكهف  – قصة ذي القرنين(1)

هذه جولةٌ تأمُّليةٌ في رحاب سورة الكهف، نستهدف منها إيقاظ وعي العاملين في الدعوة الإسلامية؛ لأن ميادين الإصلاح متعددة، وأن بوسعهم أن يجعلوا مِن الحياة كلها محرابًا للدعوة إلى الله، والتغيير والإصلاح. وقد تضمّنَت السورة بين جنباتها أربعًا من القصص الرائعة، انتظمت في عقدٍ فريدٍ، ونظمٍ بديعٍ، لترسمَ لنا ملامح بارزة في طريق التمكين المأمول، ونتناول في هذه السلسلة آخر القصص الأربع، وهي قصة ذي القرنين، وقد احتوت القصة على ثلاثة مشاهد، المشهد الأول: الرحلة بين المشرق والمغرب، والمشهد الثاني: بناء السد، والمشهد الثالث: مشاهد يوم العرض.

     وصلت بنا السورة إلى محطتها الأخيرة، وهي إجابة السؤال الثالث من أسئلة المشركين عن رجل مَلَك المشارق والمغارب، وقد أجاب القرآن بأنه ذو القرنين، ذلك الرجل الذي مكَّنه الله مِن حكم العالَم كله تقريبًا، بل لم يحكم العالم المعمور فقط، بل وصل إلى أماكن بعيدة جدًّا لم يصل إليها أحدٌ قبل ذلك ناحية المشرق والمغرب، وقد تجلَّت في هذه القصة معالم العدل والعلم والإرادة.

معالم العدل

     فالعدل: عنوان الحكم عند ذي القرنين؛ فما مِن مكانٍ يذهب إليه إلا ويعلي فيه راية العدل، فليس الشأن في أن تملك أو تحكم، ولكن الشأن أن تقيم العدل فيما مكَّنك الله منه؛ فهذا هو الذي يُستحق به المدح، وإلا فإن السورة مرَّت بنا على قصة صاحب الجنتين وما آتاه الله مِن نعمٍ عظيمةٍ ثم نعتته الآيات بأنه: «ظالم لنفسه».

معالم العلم

     أما العلم: فهو الجواد الذي امتطاه ذو القرنين ليصلح به البلاد والعباد؛ فهذا التمكين الهائل الذي تحقق لهذا الرجل الصالح ما كان ليحصل إلا بتمكنه من نواصي العلوم الدينية والدنيوية، وليس المقصود أن يكون هو العالم بكل هذه العلوم، ولكن الأهم من ذلك أن يؤسس للمنظومة التي تستوعب داخلها هذه الكفاءات المتنوعة، وتلك الخبرات المختلفة.

معالم الإرادة

     أما الإرادة: فهي الباعث الرئيس لتحركات ذي القرنين في المشارق والمغارب، فلو لم تكن لديه إرادة حقيقية جازمة تجاه التغيير والإصلاح، ولو لم تكن لديه عقيدة يتحرك بها ورسالة يحمل لواءها، لما انتقل مِن مكانه ولما خرج من قصره؛ فالملوك -عادة- يألفون الدعة والراحة، ويُصابون بداء الترف والقعود، ولكننا أمام ملِكٍ مِن طرازٍ فريدٍ، ملك لا يغمض له جفن حتى يفتح أرضًا جديدة، أو يغير واقعًا سيئًا، رغم أن القرآن ذكر لنا طرفًا من قصته فقط، فما الظن بهمته في حياته كلها؟!

النفوس المتشوقة إلى النصر

     إن قصة ذي القرنين تخاطب النفوس المتشوقة إلى النصر والتمكين: بأن التمكين ليس نزهة مترفة، ولا رحلة خلوية، ولكنه أمانة ومسؤولية، وواجبات وتكاليف هي أصعب بكثيرٍ مِن واجبات فترات الاستضعاف والتضييق؛ لأن التمكين قد يأتي ثم لا يلبث حتى يزول من يد صاحبه إذا لم يوفِّ حقه، وإذا لم يؤدِّ الواجب المفروض الذي عليه.

الفرار إلى الكهف

      إن فتية الكهف لم يُكلَّفوا بأكثر مِن أن يفروا إلى الكهف، وقد كان هذا هو المتاح المقدور عليه في زمانهم؛ لذلك لم يكلفهم الله غيره، أما ذو القرنين الذي آتاه الله من كل شيءٍ سببًا، فقد كُلِّف بأن يجوب البلاد من المشرق إلى المغرب، وهذا أمر ليس بالهين، ومن ثم فيجب علينا قبل أن نطلب التمكين أن نُحصِّل الأسباب التي تجعلنا نحافظ عليه مِن الزوال متى رَزَقنا الله إياه.

طريق التمكين طويل

     إن طريق التمكين طويل، وقد مررنا خلال السورة على مراحل ومحطات عدة حتى وصلنا إلى ذروته، التي بدأت معنا قصته من الهروب إلى الكهف، ثم انتقلت بنا إلى طور القبول المجتمعي، واستغلال المساحات المتاحة، ثم طور التأهيل والاستعداد، وصولًا إلى التمكين على يد ذي القرنين.

     ورغم أنَّ هذه القصص وقعت في أزمنةٍ مختلفةٍ، وفي أماكن متباينة، إلا أن القرآن قصها علينا مرتبة كأنها قصة واحدة ذات مراحل وفصول ومحطات، وهي بالفعل ملحمة من ملاحم التمكين المتكررة، التي كان الصحابة -رضي الله عنهم- أحد أبطالها، ونأمل أن نكون جزءًا من حلقاتها ومراحلها كذلك.

المشهد الأول: الرحلة بين المشرق والمغرب

وقد احتوى هذا المشهد على رسائل أربع هي: ذروة التمكين، وفقه التعامل مع الأسباب، ودستور الحكم العادل، والهمة المكوكية.

المشهد كما عرضه القرآن

     قال الله -تعالى-: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا}.

رسائل من قلب المشهد

     في هذا المشهد يقص علينا القرآن شيئًا من أخبار ذي القرنين؛ ولأن أحواله وأخباره كثيرة، فقد اقتصر القرآن على ذكر ثلاث رحلات من رحلاته، فذكر أنه سلك طريقًا حتى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب، وكان له مع أهلها موقف، ثم سلك طريقًا حتى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المشرق، ووجد هناك حياة شديدة البدائية، ثم سلك رحلة مثيرة في ناحية من الأرض وهو الموضع الذي كان يقطنه يأجوج ومأجوج.

الرسالة الأولى: ذروة التمكين

     قال الله -تعالى-: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ}: ما أروع التربية التي تربيها لنا هذه القصة العظيمة! فالقرآن يرسِّخ في نفوس السامعين قاعدة جليلة، وهي: أن التمكين من عند الله، فلا تشغل نفسك به كثيرًا، إنما الواجب عليك أن تنشغل بتحصيل الأسباب الجالبة للتمكين؛ لأن التمكين ليس هدفًا مقصودًا لذاته، ولكنه مطلوب لتحقيق العبودية ونصرة الدين، ونشر الهداية والإصلاح بين الناس.

     فكم مِن أقوامٍ كان التمكين عبئًا عليهم، وسببًا في خسارتهم ونهايتهم! وكم مِن أناسٍ كان التمكين في حقهم فتنة وابتلاءً لم يصبروا عليه، ولم يتحملوه! كما قال الله -عز وجل-: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الأنبياء:35)، وقد ورد عنْ عبدالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رضي الله عنه - قَالَ: ابْتُلِينَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا، ثُمَّ ابْتُلِينَا بِالسَّرَّاءِ بَعْدَهُ فَلَمْ نَصْبِرْ.

حدود التمكين

     ثم انظر إلى حدود التمكين الذي أعطاه الله لذي القرنين، إنها الأرض من مشرقِها لمغربِها! تخيل رجلًا يعطيه الله ملك الأرض، ويجعله سلطانًا على المشارق والمغارب، هذا الأمر يعني أن المُلك لله يعطيه لمَن أراد متى أراد؛ لأن الدنيا لا تساوي شيئًا عند الله فهي متاعٌ زائل كما قال -عز وجل-: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} (الرعد:26)، ولو تأملت المواضع التي وصف الله بها الدنيا بأنها متاع في أكثر من خمسة عشر موضعًا في القرآن؛ لعلمتَ قدر وحقيقة الدنيا عند الله، وأنها لا تساوي شيئًا على الحقيقة، فلا تحزن إذا رأيتَ الله يعطي للكافرين منها ويزيدهم فيها كما قال -تعالى-: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} (سورة المؤمنون).

معنى زوال المُلك أو الزوال عنه

     ثم تأمل في معنى زوال المُلك أو الزوال عنه؛ لكي تطمئن نفسك بحقارة ما يتقاتل الناس من أجله، فأين هو ملك ذي القرنين الآن؟! لقد زال واندثرت معالمه، وكذلك الملك كله سيزول عاجلًا أم آجلًا، فالعاجل حاصل أمام أعين الناس كل يوم، ممالك تقوم هنا، وممالك تسقط هناك، أقوام يرفعهم الله وآخرون يضعهم، وكل هذا على جزءٍ أو قطعةٍ من الأرض، بينما أعطى الله هذه الأرض من أقصاها إلى أقصاها لرجلٍ واحدٍ في وقتٍ مِن الأوقات.

     وكذلك يزول الملك بالظلم والتجبر في الأرض كما أهلك الله قوم نوح، وعادًا، وثمود، وقوم فرعون، وغيرهم مِن الأمم المكذبة الطاغية، إضافة إلى ذلك: فالأرض كلها وما عليها فانية زائلة، قال -تعالى-: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} (يونس:24)ـ وكما قال -عز وجل-: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (إبراهيم:48).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك