مشاهد وعبر من سورة الكهف – قصة ذي القرنين(2)
هذه جولةٌ تأمُّليةٌ في رحاب سورة الكهف، نستهدف منها إيقاظ وعي العاملين في الدعوة الإسلامية؛ لأن ميادين الإصلاح متعددة، وأن بوسعهم أن يجعلوا مِن الحياة كلها محرابًا للدعوة إلى الله، والتغيير والإصلاح، وقد تضمّنَت السورة بين جنباتها أربعًا من القصص الرائعة، انتظمت في عقدٍ فريدٍ، ونظمٍ بديعٍ، لترسمَ لنا ملامح بارزة في طريق التمكين المأمول، ونتناول في هذه السلسلة آخر القصص الأربع وهي قصة ذي القرنين، وقد احتوت القصة على ثلاثة مشاهد المشهد الأول: الرحلة بين المشرق والمغرب، والمشهد الثاني: بناء السد، والمشهد الثالث: مشاهد يوم العرض، واليوم نستكمل الحديث عن رسائل المشهد الأول:
الرسالة الثانية: فقه التعامل مع الأسباب
قال الله -تعالى-: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا} {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا}، المراد بالسبب هنا هو: ما يُتوسل به إلى الشيء مِن علمٍ أو مقدرةٍ أو آلاتٍ أو غيرها، وقد ذكر القرآن أن الله وهب لذي القرنين من كل شيءٍ طريقًا ووسيلة، وهيأ له ما يحصل له به التمكين، وما يؤهله للانتشار في ربوع الأرض، وهذا رزق وفضل من الله، ولكن ليس الشأن في إعطاء الأسباب، ولكن الشأن في كيفية التصرف فيها، وكيفية استغلالها.
لذلك يخبرنا القرآن أن ذا القرنين قام بواجبه تجاه تلك الهبات، واستغل الأسباب التي أُعطيت له، فسلك السبل التي أوصلته إلى مغرب الشمس، ثم سلك السبل التي ألقت به ناحية المشرق، وهذا هو موضع المدح، وموطن القدوة، أن نقوم بالواجب تجاه ما يسَّر الله لنا مِن أسبابٍ متاحةٍ ومقدورةٍ، وما عجزنا عن تحصيله، فهو خارج عن نطاق التكليف والواجب.
الرسالة الثالثة: دستور الحكم العادل
قال الله -تعالى-: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا}، أرسى ذو القرنين قواعد العدل في أقوام يسكنون في مكانٍ بعيدٍ في أقصى الغرب، لا نعلم شيئًا عن سيرتهم ولا حالهم، وقد دلت الآية على أن أحوالهم كانت في فساد وظلم، ووفَّق الله ذي القرنين إلى أن يسوسهم بالعدل ويقسِّمهم قسمين: فالمكذبون المعاندون سيعاقبهم في الدنيا؛ لأنه قادر على ذلك ومتمكن منه، ثم يعاقبون في الآخرة كذلك، أما المؤمنون الصالحون: فيستحقون الجزاء الحسن عند الله، والثناء الجميل عند الناس.
وقد اتسم ذو القرنين بالقوة واتصف بالعدل، واجتماع الأمرين نادر عزيز في التاريخ، فهناك مَن يكون قويًّا مهابًا، ولكنه يظلم ويطغى ويتجبر، ويستخدم القوة في غير محلها، وهناك مَن يكون عادلًا، لكنه ضعيف غير قادرٍ على تدبير شئون الحكم وأمور السياسة.
الرسالة الرابعة: الهمة المكوكية
قال الله -تعالى-: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا}، ما أجمل أن يسخِّر الإنسان نفسه لخدمة الدين ونشر الدعوة، رافعًا لواء الهداية والإصلاح، والإنسان مهما بذل فلن يصل إلى همة ذي القرنين الذي طاف الدنيا من أجل أن يبلغ الإيمان وينشر الهدى، ويرفع الظلم والبأس عن الناس، وتأمل تعبير القرآن عن هذه الجولات المكوكية: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} - {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} -{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ}! فاللهم ارزقنا همة عالية نبذلها في نشر دينك بين الخلق.
قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: «لما وصل إلى مغرب الشمس كرَّ راجعًا، قاصدًا مطلعها، متبعًا للأسباب التي أعطاه الله، فوصل إلى مطلع الشمس فـ{وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} أي: وجدها تطلع على أناسٍ ليس لهم ستر مِن الشمس، إما لعدم استعدادهم في المساكن، وذلك لزيادة همجيتهم وتوحشهم، وعدم تمدنهم، وإما لكون الشمس دائمة عندهم، لا تغرب عنهم غروبًا يذكر، كما يوجد ذلك في شرقي أفريقيا الجنوبي، فوصل إلى موضع انقطع عنه علم أهل الأرض، فضلًا عن وصولهم إليه إياه بأبدانهم، ومع هذا، فكل هذا بتقدير الله له، وعلمه به؛ ولهذا قال: {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبَرًا} أي: أحطنا بما عنده من الخير والأسباب العظيمة، وعلمنا معه حيثما توجه وسار».
فوائد من قلب المشهد الأول
- العدل عنوان الحكم عند ذي القرنين، فما مِن مكانٍ يذهب إليه إلا ويعلي فيه راية العدل؛ فليس الشأن في أن تملك أو تحكم، ولكن الشأن أن تقيم العدل فيما مكنك الله منه.
- العلم هو الجواد الذي امتطاه ذو القرنين ليصلح به البلاد والعباد، هذا التمكين الهائل الذي تحقق لهذا الرجل الصالح ما كان ليحصل إلا بتمكنه من نواصي العلوم الدينية والدنيوية.
- قصة ذي القرنين تخاطب النفوس المتشوقة إلى النصر والتمكين بأن التمكين ليس نزهة عابرة، ولا رحلة خلوية، ولكنه أمانة ومسؤولية، وواجبات وتكاليف أصعب بكثيرٍ مِن واجبات فترات الاستضعاف والتضييق؛ لأن التمكين قد يأتي ثم لا يلبث حتى يزول من يد صاحبه إذا لم يوفِّ حقه، وإذا لم يؤدِّ الواجب المفروض الذي عليه.
- إن فتية الكهف لم يُكلفوا بأكثر مِن أن يفروا إلى الكهف، وقد كان هذا هو المتاح المقدور عليه في زمانهم؛ لذلك لم يكلفهم الله غيره، أما ذو القرنين الذي آتاه الله مِن كل شيءٍ سببًا فقد كُلف بأن يجوب البلاد من المشرق إلى المغرب، وهذا أمر ليس بالهين.
لاتوجد تعليقات