رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: أحمد الشحات 13 أكتوبر، 2022 0 تعليق

مشاهد وعبر من سورة الكهف  – قصة ذي القرنين (3)

هذه جولةٌ تأمُّليةٌ في رحاب سورة الكهف، نستهدف منها إيقاظ وعي العاملين في الدعوة الإسلامية بأن ميادين الإصلاح متعددة، وأن بوسعهم أن يجعلوا مِن الحياة كلها محرابًا للدعوة إلى الله، والتغيير والإصلاح، وقد تضمّنَت السورة بين جنباتها أربعًا من القصص الرائعة، تحدثنا عن ثلاثة منها، وفي هذه المقالات نتناول القصة الرابعة وهي قصة ذي القرنين، وقد احتوت هذه القصة على ثلاثة مشاهد، المشهد الأول: الرحلة بين المشرق والمغرب، والمشهد الثاني: بناء السد، والمشهد الثالث: مشاهد يوم العرض، واليوم مع المشهد الثاني وهو بناء السدِّ، وقد تضمن هذا المشهد عددًا من الرسائل وهي: الخير الآسر، والتعاون المثمر والبذل المتفاني، وتوظيف الطاقات واستغلال المواهب.

المشهد كما عرضه القرآن

     قال -تعالى-: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ ن َقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}.

رسائل من قلب المشهد

     في هذا المشهد يقص القرآن علينا رحلة ذي القرنين إلى مكانٍ بين المشرق والمغرب، وفي هذا المكان وجد قومًا لا يجيدون التعبير؛ لعُجمة في ألسنتهم، وقصور في عقولهم وأفهامهم، ولكن الله هدى ذي القرنين إلى التواصل معهم وفهم مرادهم بما آتاه مِن الأسباب والوسائل، وقد اشتكوا إليه الضرر الواقع عليهم من يأجوج ومأجوج؛ بسبب ما يصدر عنهم من القتل والإفساد في الأرض، وطلبوا منه أن يبني لهم سدًّا يحول بينهم وبين يأجوج ومأجوج، ووعدوه أن يبذلوا له أجرًا نظير هذا العمل العظيم.

     عرف ذو القرنين طلبهم وحاجتهم، فلم يتأخر في بذلها لهم بالمجان، ونسب الفضل والعلم والقدرة إلى صاحب الفضل -عز وجل-، حتى يعلِّق قلوبهم بالله ويرسِّخ في أذهانهم صحيح العقيدة، ولكنه طلب منهم المعونة والمشاركة في هذا العمل.

صرح هندسي محكم

     وشرع ذو القرنين بما أعطاه الله من العلم والقدرة في بناء صرحٍ هندسيٍ محكمٍ، فكان هو المخطِّط للمشروع وهم مساعدون له، مجيبون لطلباته، فأحضروا له قطع الحديد، حتى إذا ساوى الجبلين اللذين بني بينهما السد، أمرهم بإشعال النار وإيقادها حتى تشتد وتلتهب، فتذيب النحاس، فلما ذاب النحاس أفرغه بين قطع الحديد، فاستحكم السد استحكامًا هائلًا وامتنع به مَن وراءه مِن الناس، مِن ضرر يأجوج ومأجوج؛ لأنهم لم يتمكنوا مِن الصعود عليه مِن أعلى، ولا نقبه مِن أسفل، ويأجوج ومأجوج، أمتان عظيمتا العدد من بني آدم، فعَن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «يَفْتَحُ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَيَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ كمَا قَالَ اللهُ- عَزَّ وَجَل-: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} (الأنبياء: 96)، وَيَنْحَازُ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُمْ إِلَى مَدَائِنِهِمْ وَحُصُونِهِمْ، ويضُمُّونَ إليهم موَاشِيَهُمْ، وَيَشْرَبُونَ مِيَاهَ الأرْضِ حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَمُرُ بِذلِكَ النَّهَرِ فَيَقُولُونَ: قَدْ كَانَ هَا هُنَا مَاءٌ مرَّةً، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ إِلَّا فِي حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ، قَالَ قَائِلُهُم: هؤُلاءِ أهْلُ الأرْضِ قَدْ فَرَغْنَا مِنْهُمْ، بَقِيَ أهْلُ السَّمَاءِ!

     قال: ثمَّ يَهُزُّ أَحَدُهُمْ حَرْبَتَهُ، ثُمَّ يَرْمِي بِها إِلى السماءِ فَتَرْجِعُ إِليْهِ مُخْتَضِبَةً دَمًا لِلْبَلاءِ وَالْفِتْنَةِ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذلِكَ يَبْعَثُ الله- عَزَّ وَجَلَّ- دُوداً فِي أعْنَاقِهِمْ كنَغَفِ الْجَرَادِ الَّذِي يَخْرُجُ فِي أعْنَاقِهَا، فَيُصْبِحُونَ مَوْتَى لا يُسْمَعُ لَهُمْ حسٌّ، فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: ألا رَجُلٌ يَشْرِي لَنَا نَفْسَهُ فَيَنْظُرُ مَا فَعَلَ هؤُلاَءِ الْعَدُوُّ؟ فَيَتَجَردُ رَجُلٌ مِنْهُمْ لِذلِكَ مُحْتَسِبًا لِنَفْسِهِ عَلَى أنَّه مَقْتُولٌ، فَيَجِدُهُمْ مَوْتَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَيُنَادِي: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، ألا أبْشِرُوا، فَإِنَّ الله قَدْ كفَاكُمْ عَدُوَّكُمْ. فَيَخْرُجُونَ مِنْ مَدَائِنِهِمْ وَحُصُونِهِمْ، وَيُسَرِّحُونَ مَوَاشِيَهُمْ».

موعد خروجهم

     وخروجهم يكون بعد نزول عيسى -عليه السلام- وهزيمته للدجال، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ثُمَّ يَأْتِي عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَوْمٌ قَدْ عَصَمَهُمُ اللهُ مِنْهُ، فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللهُ إِلَى عِيسَى: إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي، لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ، فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ، وَيَبْعَثُ اللهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا، وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ: لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ، وَيُحْصَرُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ، حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لِأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لِأَحَدِكُمُ الْيَوْمَ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ، فَيُرْسِلُ اللهُ عَلَيْهِمُ النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ، فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَلَا يَجِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلَّا مَلَأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتْنُهُمْ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللهِ، فَيُرْسِلُ اللهُ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللهُ مَطَرًا لَا يَكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ، فَيَغْسِلُ الْأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَفَةِ، ثُمَّ يُقَالُ لِلْأَرْضِ: أَنْبِتِي ثَمَرَتَكِ، وَرُدِّي بَرَكَتَكِ، فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ، وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا، وَيُبَارَكُ فِي الرِّسْلِ، حَتَّى أَنَّ اللِّقْحَةَ مِنَ الْإِبِلِ لَتَكْفِي الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ لَتَكْفِي الْقَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْغَنَمِ لَتَكْفِي الْفَخِذَ مِنَ النَّاسِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ؛ إِذْ بَعَثَ اللهُ رِيحًا طَيِّبَةً، فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ، فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ مُسْلِمٍ، وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ، يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ، فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ».

الرسالة الأولى: الخير الآسر

     قال الله -تعالى-: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ}، عرض القوم قضيتهم على ذي القرنين، وملخصها أنهم يتأذون من فساد يأجوج ومأجوج، ورغم أنهم لا يكادون يفقهون قولًا كما وصفهم القرآن، إلا أنهم تمكنوا من تحديد المشكلة بدقةٍ، واستطاعوا أن يقترحوا لها الحل الأنسب، وهو بناء السد؛ بحيث يحجز شر هؤلاء عنهم ويجعله قاصرًا عليهم وحدهم، وعرضوا عليه أن يعطوه نظير ذلك العمل أجرًا.

     وقد كان رد ذي القرنين موجزًا وآسرًا، فقد حرص أن يعود بالفضل إلى الله، وينسبه إلى المُنعم الجواد، ولا سيما أنه وجد قلوب القوم معلقةً به؛ بوصفه المنقذ لهم من ورطتهم وأزمتهم، فأراد ذو القرنين أن يربط قلوبهم بخالقهم، وأن يقطع علائق النفس بالبشر، وكما ربط قلوبهم بالله في بداية العمل، فإنه كان حريصًا على تعليق قلوبهم بالله في نهايته؛ فعندما أتم الله عليه النعمة ببناء السد قال: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}.

من أرفع مقامات الإخلاص والتجرد لله

     وهذا من أرفع مقامات الإخلاص والتجرد لله؛ فإن كثيرًا من الخلق يحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، كما قال -تعالى-: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (آل عمران:188)، كما أن أكثر الناس يحبون أن يُذكروا بما يفعلون، ويحبون أن تنتشر أخبارهم وسيرة أعمالهم بين الناس، وهذا مما يُعرِّض الأعمال إلى النقص أو البطلان، بحسب تعلق قلب صاحبها بثناء الناس ومديحهم.

عزة نفس ذي القرنين

     ثم أشارت الآيات إلى عزة نفس ذي القرنين؛ حيث رفض عطيتهم كما رفض سليمان -عليه السلام- هدية بلقيس، عندما عرضتها عليه، قال -تعالى-: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} (النمل:36).

رسالة إلى كل مسؤول

     إن رد ذي القرنين على مَن قصدوه لإنقاذهم رسالة إلى كل مسؤول ولَّاه الله على شيءٍ مِن أمور الناس، ألا يتعالى عليهم، وأن يرفق بهم، وأن يقضي حوائجهم، ويخفف عنهم آلامهم، وهذا ليس تفضلًا عليهم، بل هذا هو مقتضى واجبه الوظيفي.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك