مساجد غزة الأثرية.. معالم حضارية تقاوم محاولات طمس هويتها
يزخر قطاع غزة ذو الشريط الساحلي الضيق البالغ مساحته 360 كيلو مترا مربعا، بمئات البنايات التاريخية العريقة التي شيّد بعضها قبل ألف عامٍ، ومنها 22 مسجدا تعود إلى عصور الخلفاء الراشدين الأوائل وإلى الحقبتين المملوكية والعثمانية، وهي في مجملها معالم حضارية تقاوم المحاولات المتعمدة لطمس هويتها على يد الغزاة والمحتلين على مر الأيام.
انتشر بناء المساجد في فلسطين عموما وقطاع غزة، ولاسيما بعد الفتح الإسلامي مباشرة في عهد الخليفة الثاني للمسلمين عمر بن الخطاب، فمع كل مدينة تُفتح كان الفاتحون يقيمون مسجدا، بعضها بناءً جديدًا وبعضها الآخر حول من كنائس إلى مساجد، فقد ورد في الموسوعة الفلسطينية أن الفاتحين كانوا يصالحون أهل البلاد، إما على النصف من كنائسهم، أو على بعضها، أو يكتفون بواحدة أو نصف واحدة.
لم تسلم مساجد قطاع غزة من الخراب والتدمير المتعمد، فخلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة التي استمرت «51» يوما الصيف الماضي، دمرت الطائرات والدبابات الإسرائيلية 73 مسجدا تدميراً كليا، و205 مساجد أخرى تدميرا جزئيا، بينها مساجد أثرية، وفق ما أفاد تقرير أعده المجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار (بكدار) بالتعاون مع وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطينية.
وذكر التقرير أن الدمار طال حوالي ثلث المساجد في قطاع غزة، وبالتالي اضطر ما لا يقل عن 200 ألف مواطن غزي للبحث عن أماكن بديلة لأداء الصلوات.
ودمر 34 مسجدا تدميراً كليا وتضرر 55 مسجدا آخر جزئيا، خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة نهاية عام 2008م ومطلع عام 2009م.
وتدعي دولة الاحتلال وجود رجال للمقاومة الفلسطينية وأسلحة في المساجد التي يتم استهدافها، وهو ما ينفيه عبد اللطيف أبو هاشم -مدير دائرة التوثيق والمخطوطات بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطينية- عادا ذلك انتهاكًا صارخًا لحرمة المساجد ودور العبادة التي نصت عليها كافة القوانين والمواثيق والأعراف الدولية.
كانت أهم المساجد الأثرية التي تعرض للتدمير خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة، مسجد الشمعة الذي يقع في منطقة الزيتون في (غزة القديمة). بني المسجد قبل 700 عام في 1315م، في عهد المماليك، ولم تشر الموسوعة الفلسطينية أو الكتب التاريخية إلى هوية بانيه.
معلم تاريخي آخر تعرض للتدمير الكلي كذلك وهو المسجد العمري في جباليا؛ حيث يعد أقدم المساجد في قطاع غزة وأكبرها، وسمي باسم الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب، بني عام 649 ميلادية. كان المسجد يتسع قبل تدميره لـ2000 مصلِّ، ويعود رواقه ومئذنته للعصر المملوكي قبل 500 عام.
بني المسجد على موقع يعتقد أن معبدا فلسطينيا قديما كان فيه، ثم بني مكان المعبد كنيسة بيزنطية تعود للقرن الخامس، إلى أن أقيم المسجد.
ولم يسلم مسجد المقادمة هو الآخر من التدمير؛ فقد كان يعد مثالا جيدا للعمارة المملوكية، ويقع بالقرب من شارع بغداد في حي الشجاعية شرق غزة، وكان تزينه مئذنة وقوس نقشت عليه أشكال الزهور، وقد بني عام 1455م بأمر من سيف الدين بيرديباك الأشرفي أحد موظفي السلطان.
ويقول أبو هاشم خلال حديثه لمجلة (الفرقان): إن هذه المساجد تحمل قيمة تاريخية، وأدلة لا تعوض على التاريخ الثقافي الفلسطيني.
وينوه أبو هاشم إلى أن مدينة غزة تعد أكثر مدن فلسطين التاريخية في بناء المساجد.
ويتهم أبو هاشم دولة الاحتلال الإسرائيلي بمحاولة محو الأدلة التاريخية على وجود الفلسطينيين في أرضهم بتدميره للمساجد الأثرية لكنه يشدد على أنها لن تنجح في ذلك.
أقدم وأعرق وأكبر مسجد في قطاع غزة هو المسجد العمري الكبير وهو غير المسجد العمري في جباليا، ويقع وسط (غزة القديمة) بالقرب من السوق القديم، وتبلغ مساحته 4100 متر مربع، ومساحة فنائه 1190مترا مربعا، يحمل 38 عامودا من الرخام الجميل والمتين البناء، والذي يعكس في جماله وروعته بداعة الفن المعماري القديم في مدينة غزة.
ويتسع المسجد لأكثر من ثلاثة آلاف مصل، ويضم في طابقه الأول قاعة رئيسية للصلاة ومصلى للنساء، في حين يضم في طابقه العلوي مدرسة لتعليم القرآن الكريم، أما الطابق السفلي فهو يحتوي على قاعة استقبالات وقاعة أثرية يتعدى عمرها ألفي عام مجهزة لتكون متحفاً إسلامياً.
سمي بالجامع العمري نسبة إلى الخليفة عمر -رضي الله عنه- يعود بناؤه إلى القرن الثاني عشر الميلادي، وكان في الأصل معبداً وثنياً، وقد كرسه البيزنطيون كنيسة، ومن ثم تحول إلى مسجد في القرن الثامن، ويمتاز باحتوائه على مكتبة مهمة يوجد فيها العديد من المخطوطات في مختلف العلوم والفنون، وتعد هذه المكتبة ثالث مكتبة في فلسطين بعد مكتبة المسجد الأقصى، ومكتبة مسجد أحمد باشا الجزار في عكا.
في حي الدرج شمال شرق مدينة غزة، يقع مسجد السيد هاشم؛ إذ يعد من أجمل مساجد غزة الأثرية وأكبرها، وهو عبارة عن صحن مكشوف تحيط به أربع ظلال أكبرها ظلة القبلة وفي الغرفة التي تفتح على الظلة الغربية ضريح السيد هاشم بن عبد مناف جد رسول الله محمد صلىالله عليه وسلم الذي توفي في غزة أثناء رحلته التجارية (رحلة الصيف)، وأنشئ المسجد على يد المماليك، وجدده السلطان عبد الحميد سنة 1266هـ/1850م.
ورد في الموسوعة الفلسطينية أن قنبلة أصابت المسجد أثناء الحرب العالمية الأولى فخربته، لكن المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى في فلسطين أعاد تعميره.
وفي حي الزيتون يقع مسجد أثري آخر هو جامع كاتب الولاية، ويعود إلى العصر المملوكي 735هـ/1334م، وترجع الإضافات الغربية فيه إلى العصر العثماني التي أقام بها أحمد بك كاتب الولاية سنة 995هـ/1586م، وهو ملاصق لإحدى الكنائس.
فضلا عما سبق هناك مسجد الست رقية، فهو رغم مساحته البالغة قرابة 174 متراً مربعا فقط، إلا أنه يعد قيمة أثرية قديمة، واتخذ أهل غزة منه غرفه، ومعهداً علمياً، وزاوية، ومكتبة قيمة، لكنها تعرضت للخراب جراء الحرب العالمية الأولى، وتم إجراء ترميم له، ولا يعرف نسب اسم السيدة التي نسب إليها اسم المسجد.
أما جامع المحكمة البردبكية ويقع في حي الشجاعية؛ فقد أنشئ في القرن التاسع، وكان في البداية مدرسة أسسها الأمير بردبك الدودار سنة 859هـ، ثم تحول مقرا للمحكمة الشرعية الدينية في الفترة العثمانية.
بينما يعد جامع ابن عثمان نموذجا رائعا للعمارة المملوكية بعناصرها المعمارية والزخرفية، وسمي بهذا الاسم نسبة إلى شهاب الدين بن عثمان, أحد علماء الدين في غزة، وهو ثاني أكبر مساجد مدينة غزة بعد المسجد العمري الكبير.
تقع في الجهة الغربية للمسجد غرفة مغلقة بأقواس داخلية تسمى (الفسقية) وتحوي قبر علم الدين يلخجا الذي تولى نيابة غزة وتوفي فيها سنة 850 هـ/1446م، يذكر كتاب (إتحاف الأعزة في تاريخ غزة) أنه دفن أيضا في هذه الغرفة أربعون مجاهدا في الحروب الصليبية.
لاتوجد تعليقات