رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 6 مايو، 2014 0 تعليق

مسؤولية الكلمة


ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: (مسؤولية الكلمة)، التي تحدَّث فيها عن الكلمة وآثارها السيئة في المُجتمع المسلم، وبيَّن عِظَم قدرها، موجِّهًا نصائح لعموم المسلمين بوجوب التنبُّه لما يُخرِجه المرءُ من لسانه؛ فإن قومًا زعموا أنهم يمزحون بكلامٍ يسيرٍ كفَّرهم الله بعد إيمانهم، كما أوردَ الآيات والأحاديث المُحذِّرة من ذلك، وكان مما جاء في خطبته:

 

تختلفُ آراءُ الناس وأفهامُهم، وتتنوَّعُ مشارِبُهم وأهواؤُهم، وهذا معلومٌ في طبيعة البشر، إلا أن ذلك لا يعنِي إباحةَ الفوضَى بالقول والفِكَر، ولا الخوضَ في كل شيءٍ لكلِّ أحدٍ.

فلا يُعالِجُ الناسَ إلا طبيب، وإلا أهلكَهم المُتطبِّب، ولا يهدِيهم الطريقَ إلا هادٍ عارفٍ، وإلا أضلَّهم الدليل، ولا يقول في دين الله إلا عالِمٌ به.

ولما كان القولُ مقدورًا لكل أحد، ونشرُ الكلام مُتاحًا اليوم بلا كبَد، فقد تجاوَز الناسُ فيه وشُغِلوا به، وانبَرَى بعضُ الخلق يخوضُ في كل شأنٍ، ويتعرَّضُ لكل أحدٍ، وينشرُ ذلك على الملأ، في زمنٍ تبلغُ الكلمةُ فيه الآفاق في لحظات.

وقد سبقَه من قال قولاً نزلَت فيه آياتٌ لو نزلَت على جبالٍ لهدَّتها، ففي غزوة تبوك قال بعضُ من ساروا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جيش العُسرة: ما رأينا مثلَ قُرَّائنا هؤلاء؛ أرغبَ بطونًا، ولا أكذبَ ألسُنًا، ولا أجبنَ عند اللقاء!

     فبلغَ ذلك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فجاؤُوا يعتذِرون إليه ويقولون: إنما كنا نخوض ونلعبُ، ونقطعُ الطريقَ بالحديث، فنزلَ قولُ الله - عز وجل -: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِي} (التوبة: 65، 66).

عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: أنا رأيتُه مُتعلِّقًا بحقَب ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنكبُه الحجارة، وهو يقول: يا رسول الله! إنما كنا نخوضُ ونلعب. ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئُون؟! أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئُون؟!».

أيها المسلمون:

إنها لآياتٌ يفزعُ لها القلب، ويقشعِرُّ لها البدن، لو تأمَّلها المسلمُ لهزَّت وجدانَه تحذيرًا من هول ما جاءَت به؛ فإن الله تعالى هو الذي قال: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، فأثبتَ لهم إيمانًا سابقًا، وخروجًا للجهاد، وكفرًا بمقالةٍ زعموا أنها لمجرَّد اللهو وتمضِيةِ الوقت.

وإن الظاهر من مقالتِهم أن لم يستهزِئُوا صراحةً من ذاتِ الله تعالى ورسولِه، وإنما بحمَلَة آيات الله ورسولِه، الساعِين في سبيل رِفعةِ دينه وبلاغ رسالاته؛ فكأنَّ المقصود هو ما حمَلوا، والمُستهدَفَ ما به تميَّزوا، ومن هنا جاءَت الآيات بأن الاستِهزاءَ بالله وآياتِه ورسولِه لا بأفرادِ المسلمين وأشخاصِهم.

وإنك ترى اليوم تساهُل الناس في كتابة المقالات، وتناقُل العبارات، وصدور التعليقات، ورصف الكلمات، مع ما تحوِيه من عظائِم الأمور، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن العبدَ ليتكلَّم بالكلمة ما يتبيَّن فيها يهوِي بها في النار أبعدَ ما بين المشرقِ والمغربِ»؛ مخرَّج في «الصحيحين».

وفي روايةٍ عند البخاري: «لا يُلقِي لها بالاً».

فيا عجبًا لمن جعل الجُرأةَ على الشريعة أو حمَلَتها مصدرَ تسليةٍ أو تندُّر، أو بلوغَ هوى نفسٍ، أو تصفِية حسابات. أين هم من الوعيد الشديد: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق: 18)؟! وإذا كان هذا يحصُلُ من أفرادٍ؛ فكيف يُقبَلُ من صُحُفٍ سيَّارة، أو منابِر إعلامٍ جرَّارة؟!

إن للكلمة مسؤوليَّتها، وإن انفِلات القول والفِكر مُؤذِنٌ بعقابٍ ليس أقلَّه النِّزاعُ والشِّقاقُ وإيغارُ الصدور، واحتِقانُ النفوس مما يشُقُّ الصف، وينقُضُ اللُّحمةَ الوطنيَّة، ويُشتِّتُ المُجتمع، ثم لا تسَلْ عما بعد ذلك!

عباد الله:

     إن الذي يلحَقُه الذمُّ، وينطبِقُ عليه الوعيد هو من يُكابِرُ ويُجادِلُ عن معصيتِه وهواه، ويُعارِضُ حُكمَ الله وشرعَه بعقلِه ورأيه، وينصِبُ نفسَه لنقض عُرى الإسلام، وحربِ كل فضيلةٍ لا تُوافِقُ هواه، والدعوة لكل ما تشتهِي نفسُه وتهواه، مُقتديًا بالفلاسِفة القُدماء في اتباع عقلِه فيما يُحسِّنُه ويُقبِّحُه، حتى يتِيهَ في بَيداءِ الهوى، وظُلمة الضلال، كالكوزِ مُجخِّيًا لا يعرِفُ معروفًا، ولا يُنكِرُ مُنكرًا إلا ما أُشرِب من هواه.

وهذا هو من عناه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ حُذيفة - رضي الله عنه- المُخرَّج في (الصحيحين) -: «دُعاةٌ على أبوابِ جهنَّم، من أجابَهم إليها قذَفُوه فيها». قلتُ: يا رسول الله! صِفهم لنا، قال: «هم من جِلدتنا ويتكلَّمون بألسِنَتنا».

وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنه سيخرُجُ في أمَّتي أقوامٌ تَجَارَى بهم تلك الأهواء كما يتَجَارَى الكلَبُ بصاحبِهِ لا يبقَى منه عِرقٌ ولا مِفصلٌ إلا دخلَه»؛ رواه أبو داود.

وإذا اعتادَت النفسُ الرَّضاعَ من الهوى، فإن فِطامَها عسيرٌ! والواجبُ في أمورِ الشريعة الردُّ إلى الله ورسولِه، وإلى أُولِي العلم الذين يستنبِطُونَ حُكمَ الله من وحيِه.

قال شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «إن الناسَ لا يفصِلُ بينهم النزاعَ إلا كتابٌ مُنزَّلٌ من السماء، ولو رُدُّوا لعقولِهم فلكل واحدٍ منهم عقل».

فالتقحُّمُ بجهلٍ في مسائل العلم مذموم، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} (الحج: 8)، ومن تكلَّم في غيرِ فنِّه أتَى بالعجائِب.

ورحِمَ الله من قال: «لو سكَت من لا يعرِفُ لقلَّ الخِلافُ».

عباد الله:

ولما كان مدارُ هذا الأمر على اللسان والكلام، والتعبير بالقلَم والبيان؛ فقد توافَرَت التوجيهات الربانية والنصائحُ النبوية بما لا يدَعُ لأحدٍ عُذرًا؛ ذلك أن الكلامَ تُرجمانٌ يُعبِّرُ عن مستوياتِ الضمائِر، ويُخبِرُ بمكنوناتِ السرائر، لا يُمكنُ استِرجاعُ بوادِرِه، ولا يُقدَرُ على ردِّ شوارِدِه.

فحقٌّ على العاقِل أن يحترِزَ من زلَلِه بالإمساكِ عنه أو الإقلال منه، والصمتُ بسلامةٍ هو الأصل، والسكوتُ في وقتِه صفةُ الرِّجال، كما أن النطقَ في موضعِه من أشرفِ الخِصال، وفي الحديث: «كفَى بالمرء كذِبًا أن يُحدِّثَ بكل ما سمِع»؛ رواه مسلم.

قال عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه-: «من كثُر كلامُه كثُر سقَطُه، ومن كثُر سقَطُه كثُرت ذنوبُه، ومن كثُرت ذنوبُه فالنارُ أولَى به».

ومن كان سكوتُه وكلامُه لله - عز وجل - مُخالِفًا هوى نفسِه، فهو أجدرُ بتوفيقِ الله له، وتسديدِه في نُطقِه وسُكوتِه، ومن عدَّ كلامَه من عملِه قلَّ كلامُه فيما لا يَعنِيه ولا ينفعُه.

قال أنسٌ - رضي الله عنه -: «لا يتَّقِي اللهَ أحدٌ حقَّ تُقاتِه حتى يخزِنَ من لسانِه».

إن حفظَ اللسان والورع في القول دليلُ كمال الإيمان، وحُسن الإسلام، وفيه السلامةُ من العطَب، وهو دليلٌ على المروءة وحُسن الخُلق، وطهارة النفس، كما يُثمِرُ محبَّةَ الله ثم محبَّةَ الناس ومهابتَهم له، فأيُّ مُجتمعٍ طاهرٍ رفيعٍ سينتجُ إذا التزمَ أفرادُه بهذه الوصايا؟

لذا فإنه ليس كثيرًا إذا ضُمِنت الجنةُ لمن أمسكَ لسانَه؛ ففي «صحيح البخاري» أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من يضمنُ لي ما بين لحيَيه وما بين رِجلَيه أضمنُ له الجنة».

إن الكلمةُ لها أثرٌ خطير، والحسابُ عليها عسير، وسواءٌ قِيلَت باللسان وسُمِعت بالأصوات، أو كُتِبَت في الصحف والمِجلاَّت، أو تداولَتها المواقعُ والمُنتديات، ورُبَّ كلمةٍ قالَت لصاحبِها: «دعني»!

وفي حديثِ مُعاذ بن جبلٍ - رضي الله عنه -: «وهل يكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم إلا حصائِدُ ألسِنَتهم؟!». {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ﴿10﴾ كِرَامًا كَاتِبِينَ } (الانفطار: 10، 11).

عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه  - قال: قلتُ: يا رسول الله! ما النجاة؟ قال: «أمسِك عليك لسانَك، وليسَعكَ بيتُك، وابكِ على خطيئتِك»؛ رواه الترمذي بإسنادٍ صحيحٍ.

ولو أقبلَ كلُّ مسلمٍ على واجبِه، وسعَى فيما يُصلِح معاشَه ومعادَه، ساعِيًا في الإصلاح فيما أُنيطَ به؛ لكان أثرُه على نفسِه وعلى المُجتمع بليغًا.

عباد الله:

إن الحديثَ عن الآخرين، وتتبُّع سقَطاتهم وإشاعتَها والفرحَ بها لمن أقبَح المعاصِي أثرًا، وأكثرها إثمًا، ولا يموتُ مُقترِفُها حتى يُبلَى بها، و«كلُّ المُسلم على المسلم حرامٌ: دمُه ومالُه وعِرضُه»؛ رواه مسلم.

فكيف إذا كانت مسائِل خلافٍ بلا هُدى، ونوازِع طيشٍ على هوى، وحبَّ غلبةٍ ورغبةِ استِعلاء، وإرادَة خفضٍ للآخرين؟!

فكيف إذا كانت غِيبةً لأهل الخير، وتحريشًا خفيًّا أو جليًّا بالعلماء، وطلبة العلم، وأهل الصلاح، وتصنيفًا ظاهرًا بلا بُرهانٍ ولا بيِّنةٍ، وغمزًا ولمزًا وسُخريةً واتهامًا للعقائِد والنيَّات؟!

إنه لا خلاصَ من هذه الرَّذائِل إلا بعزمةِ صدقٍ يكتالُ معها المؤمنُ من التقوى والعمل الصالح مما يُلينُ قلبَه، ويجعلَه أخشَى لربِّه، وأوقفَ عند حُدودِه.

إن الترفُّع عن الخوض فيما لا يَعني لمن تمام العقل، كما أنه يُورِثُ نورَ القلب والبصيرة، ويُثمِرُ راحةَ البال، وهَدْأَة النفس، وصفاء الضمير، مع توفيقِ الله تعالى للعبدِ، إنها طهارةُ الرُّوح وسلامةُ الصدر.

وإن الاشتِغالَ بما لا يعنِي، وكثرةَ القول والخوض يُنتِجُ قلَّة التوفيق، وفسادَ الرأي، وخفاءَ الحق، وفساد القلب، وإضاعَة الوقت، مع حِرمان العلمِ، وضيقِ الصدر، وقسوة القلبِ، وطول الهمِّ والغمِّ، وكسف البال، ومحق البركة في الرزق والعُمر.

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «من حُسن إسلام المرء تركُه ما لا يَعنيه»؛ رواه الترمذي، وابن ماجه، ومالك في «الموطأ»، وأحمد في «المسند».

وفي «الصحيحين» أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان يُؤمنُ بالله واليوم الآخر فليقُل خيرًا أو ليصمُت».

والعقيدة الإسلامية عقيدةُ الوضوح والاستِقامة؛ فلا يقومُ فيها شيءٌ على الظنِّ والوهم والشُّبهة، وفي محاسِنِ توجيهات القرآن الكريم: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (الإسراء: 36).

أيها المسلمون:

هذه الكلماتُ القليلةُ التامَّةُ من القرآن تُقيمُ منهجًا كاملاً للقلب والعقل يتفوَّقُ على المنهج العلميِّ الحديث؛ لأنه يُضيفُ إليه استقامةَ القلب، ومُراقبةَ الله - عز وجل -.

     إنها ميزةُ الإسلام على المناهِج العقليَّة الجافَّة؛ فالتثبُّت من كل خبرٍ ومن كل ظاهرةٍ قبل الحُكم عليها هو دعوةُ القرآن الكريم، ومنهج الإسلام الدقيق. ومتى استقامَ القلبُ والعقلُ على هذا المنهَج لم يبقَ مجالٌ للوهم والخُرافة في عالَم العقيدة، ولم يبقَ مجالٌ للظنِّ والشُّبهة في عالَم الحُكم والقضاء والتعالُم؛ بل لم يبقَ مجالٌ للأحكام السَّطحِيَّة والفروضِ الوهميَّة في عالَم البُحوثِ والتجارُب والعلوم.

والأمانةُ العلميةُ التي يُشيدُ بها الناسُ اليوم ليست إلا طرفًا من الأمانة العقليَّة القلبيَّة التي يُعلِنُ القرآنُ تبِعَتها الكبرى، ويجعلُ الإنسانَ مسؤولاً عن سمعِه وبصرِه وفُؤادِه أمام واهِبِها - سبحانه -.

إنها أمانةُ الجوارِح التي سيُسألُ عنها العبدُ يوم القيامة، أمانةٌ يهتزُّ لها الوجدانُ الحيُّ لجسَامَتها ودقَّتها، كلما نطقَ الإسلامُ بكلمة، أو روى روايةً، أو كتبَ حرفًا، وكلما أصدر حُكمًا على شخصٍ أو أمرٍ أو حادِثةٍ.

وصدق الله: {إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإسراء: 9).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك