رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.أحمد الجسار 25 أبريل، 2021 0 تعليق

مراقبة الله أعلى مراتب العبـوديـــة


مَرَّ عبدُاللهِ بْنُ عُمَرَ - رضي الله عنه - بِرَاعِي غَنَمٍ (فأرادَ أنْ يَختَبِرَهُ)، فقال: يا رَاعِيَ الغنمِ، هَلْ مِنْ جَزَرَةٍ؟ (أي: شاةٍ سمينةٍ)، فَقَالَ الرَّاعِي: ليس ها هُنا رَبُّها، فَقَالَ ابْنُ عمرَ: تقولُ أكلَها الذِّئْبُ، فَرَفَعَ الرَّاعِي رَأسَهُ إلى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: فأينَ اللهُ؟ فَاشْتَرَى ابْنُ عُمَرَ الرَّاعِي، وَاشْتَرَى الغَنَمَ، فَأعْتَقَهُ وَأعْطَاهُ الغَنَمَ. (السلسلة الصحيحة 3161)، هذه هي المراقبةُ الذاتيةُ: مراقبةُ اللهِ -تعالى- في السرِّ والعلن.

    ما أحوجنا إلى استحضارِ هذه المراقبةِ في كلِّ لحظاتِ حياتِنا: في بيوتنا، في طرقاتنا، في أعمالنا وأسواقنا، في عباداتنا وتعاملاتنا، وفي سرنا وإعلاننا! فَتَعْزِيزُ مُرَاقَبَةِ اللهِ -عَزَّوَجَلَّ- فِي النفسِ هِيَ الْحِصْنُ الْحَصِينُ لِمُوَاجَهَةِ الْمُغْرِيَاتِ، وَالْمَلَاذُ الْآمِنُ من سيطرةِ الشَّهَوَاتِ، وَالْأَمَلُ-بَعْدَ اللهِ تَعَالَى- لمُقَاوَمَةِ وَسَائِلِ الشَّيْطَانِ، والثباتِ على سبيلِ الله.

ذكر نفسك بها

«فأين الله؟»: ذكر نفسك بها حتى تتعود على هذه المراقبة، فلا تغيبُ عن بالك، إنها أعلى مراتبِ العبوديةِ، المرتبةُ التي يُوَفَّقُ إليها الأخيارُ من عبادِ الله.

مَا الْإِحْسَانُ؟

     سَألَ جبريلُ -عليه السلام- النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْإِحْسَانُ؟ فقَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ». (متفق عليه)، وهذا من معاني اسمِ اللهِ العليمِ -سبحانه وتعالى-: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (المجادلة: 7). قال ابنُ كثيرٍ -رحمه الله-: «أي: يطلع عليهم، يسمع كلامهم وسرهم ونجواهم، ورسله أيضا مع ذلك تكتب ما يتناجون به، مع علم الله وسمعه لهم.» وقال الإمام أحمد -رحمه الله-: «افتتح الآية بالعلم، واختتمها بالعلم».

ولأهمية هذه الصفة الكريمة، فإن الله -تعالى- يُذَكِّرُنَا بها في كتابه الكريم: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (التوبة 78)، وقال -تعالى-: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} (الزخرف 80).

يوم القيامة يتبين الحق

     ويوم القيامةِ يتبينُ للجميعِ ذلكَ، حيثُ يقولُ -سبحانه-: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} (الأعراف 6-7)، ويقولُ -عز وجل-: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (المجادلة 6)، قال الشيخُ السَّعْدِيُّ -رحمه الله- في مقدمةِ تفسيرِه: «الشهيدُ، أي: المطلعُ على جميعِ الأشياءِ، سَمِعَ جميعَ الأصواتِ، خَفِيَّها وَجَلِيَّها، وأبْصَرَ جميعَ الموجوداتِ، دقيقَها وجليلَها، صغيرَها وكبيرَها، وأحاطَ عِلْمُهُ بكلِّ شيءٍ، الذي شَهِدَ لعبادِهِ وعلى عِبادِهِ بما عَمِلُوه».

     فَتَذَكَّرْ دائمًا قولَ ذلكَ الراعي الصالحِ: «فأين الله؟» وَلْيَظْهَرْ عليكَ أثرُ ما تقرأُ في كتابِ الله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (يونس 61).

إذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلا تَقُلْ

                                       خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ

وَلا تَحْسَبَـنَّ اللهَ يَغْفَـلُ لَحْظَـةً

                                       وَلا أَنَّ مَـا يَخْفَى عَلَيْهِ يَغِيبُ

تحقيق لمعنى الخشيةِ

     إنَّ في مراقبةِ العبدِ ربَّه -تبارك وتعالى- تحقيقًا لمعنى الخشيةِ، التي غالبًا ما ذُكرت حالَ الغيب، أي: في الحالة التي لا يطلع عليه فيها إلا الله. قال -تعالى-: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} (يس 11)، وقال -جل ذِكرُه-: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} (ق 31-33)، وقال -سبحانه-: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} (الأنبياء 49)، وقال -عز قوله-: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (الملك 12).

تعدد أسماء اللهِ وصفاتُه

ولقد تعددت أسماءُ اللهِ وصفاتُه التي تدل على سَعَةِ علمِه، ومراقبتهِ عِبادَه، وشُهودِهِ أعمالَهم، وإحاطتِه علمًا بكل شيء، وهذا مما يقرر في النفوسِ الزكيةِ هذه الحقيقةَ، أنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ على كل شيء، ولا يغيبُ عنه شيء.

فهو العليم الخبير: الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن، والإسرارِ والإعلان.

وهو السميع: الذي يسمع الأصوات جميعَها، مهما اختلفت اللغات.

وهو البصير: الذي يبصر كل شيء وإن دقَّ ورقَّ.

وهو المهيمن: المطلعُ على خفايا الأمور.

وهو الرقيب: المطلع على خبايا الصدور.

وهو المحيطُ بكل شيء علمًا وقدرة.

وهو الشهيد على كل أعمال العباد.

جل جلاله، وتقدست أسماؤه.

نسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، أن يصلح لنا السرائر والظواهر، وأن يجعلنا ممن خشيه واتقاه، وممن خاف مقام الله.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك