مدرسة الإخلاص
مدرسة الليل هي مدرسة الإخلاص، وخليج صاف خير من بحر كدر، قال رسول الله [: «بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة في الدين، والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا فليس له عند الله من نصيب». وقال رسول الله [: «إنما ينصر الله عز وجل هذه الأمة بضعيفها؛ بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم». ولما اصطف الناس لفتح كابل قال قتيبة بن مسلم: أين محمد بن واسع شيخ القراء؟ قالوا: في أقصى الميمنة رافعا إصبعه إلى السماء، قال: أبشروا قد جاءكم النصر، لهذه الإصبع أحب إلي من ألف سيف شهير، وشاب طرير، فلما جاءه قال له: ماذا كنت تصنع؟ قال: كنت آخذ لك بمجامع الطرق. ومحمد بن واسع هذا ربما صلى الليل كله في محمله، ويأمر حاديه أن يصوت بالناس. محمد بن واسع رحمه الله يقول: والله إني لأعرف رجالاً تبتل مخدة أحدهم من أثر دموعه، وزوجه معه في الفراش لا تشعر. وهذا عبد الله بن المبارك كان في غزوة من الغزوات فتلثم وغطى وجهه، ودعا داعي الروم: من يبارز؟ فخرج عبد الله بن المبارك في لثامه، فقتل فارس الروم، ثم قتل الثاني والثالث والرابع، فتعجب الناس من بطولته، فأتى إليه رجل ورفع لثامه فإذا هو عبد الله بن المبارك وما كانوا يظنون أنه عبد الله المبارك، فقال لمن رفع لثامه: وأنت ممن يشنع علينا يا أبا عمرو! وكان محمد بن أعين رفيقاً لـعبد الله بن المبارك في غزواته كلها، وكان كريماً عليه، قال محمد بن أعين: فذهب ليريني أنه ينام، قال: فوضعت رأسي على رمح، وذهبت أريه أني نائم، فلما ظن أني قد نمت قام فصلى إلى قبل طلوع الفجر، ثم أيقظني عند الفجر، فقلت له: إني لم أنم الليلة، فعرفت الغضب في وجهه، وما زال مجافياً لي إلى الممات.
واليوم أصيبت الأمة بالرياء، يقول المصطفى[: «غير الدجال أخاف عليكم شرك الصغائر، قالوا: وما شرك الصغائر يا رسول الله؟ قال: أن يقوم الرجل فيصلي فيطيل في صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه». قال قتادة: كان يقال: قلما سهر الليل منافق لم يرد الجاه عند الناس ومدح الناس إياه. وقال رسول الله[: «من قام الليل بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام الليل بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام الليل بمائتي آية كتب من القانتين المخلصين»، صححه الحاكم ووافقه الذهبي وتابعهما الألباني.
علو الهمة وترك الأماني
السبب الثالث: علو الهمة وترك الأماني، ومن لا أمنية له من الدعاة تجده على ريٍّ دائماً، وتجده سباقاً إلى الخير دائماً، فإن كان قوياً استسقى لنفسه واستسقى لغيره، وإن كان ضعيفاً وجد وريثاً لموسى يسقي له، ويزاحم عنه الرعاع. سيروا مع الهمم العالية، فلا يزال العبد مقيماً على التواني ما دام مقروناً بوعد الأماني. التواني والكسل والعجز من المصائب التي تصاب بها الأمة، وعلى الطرف الآخر يبعث قيام الليل على علو الهمة، يقول الرسول [: «علم ربك - وفي رواية: ضحك ربك - إلى رجل ثار عن لحافه وفراشه من بين حبه وأهله، ولو شاء أن يرقد لرقد». وكان هشام الدستوائي إذا أتى إلى فراشه يقول: والله إنك لطيب، والله إنك لبارد، والله لا علوتك الليلة، فراش الجنة خير منك. وكان عبد الله بن ثوب سيدا من سادات التابعين، وكان له سوط يعلقه في مصلاه، فإذا فتر عن القيام يضرب رجله بالسوط ويقول لها: قومي يا مأوى كل سوء، أيظن أصحاب محمد[ أن يسبقونا، والله لأزاحمنهم عليها حتى يعلموا أنهم خلفوا بعدهم رجالاً. وهذا الإمام العظيم مسروق بن عبد الرحمن وهو المعروف بـمسروق بن الأجدع تقول عنه زوجه: ما كان يأتي لصلاته إلا زحفاً كما يزحف البعير، وإن قدميه لمنتفختان من أثر القيام. تقول عنه زوجه: وكنت أجلس خلفه أبكي له رحمة مما يصنع بنفسه، وإن قدميه لمنتفختان من أثر القيام. وجارية خالد الوراق كانت شديدة الاجتهاد في الطاعة والعبادة؛ فأخبرها خالد برفق الله وقبوله ليسير العمل، فقالت: يا خالد ! إني لأؤمل من الله آمالاً لو حملتها الجبال لعجزت عن حملها كما عجزت عن حمل الأمانة، وإني لأعلم أن في كرم الله مستغاثاً لكل مسلم، ولكن قل لي يا خالد: كيف لي بحسرة السباق؟! فقال: وما حسرة السباق؟ قالت: غداة الحشر إذا ركب الأبرار نجائب الأعمال، وطاروا إلى مولاهم، وخلفت مع المسيئين المذنبين، ثم قالت: وعزة سيدي لا يسبق مقصر مجتهداً أبداً ولو حبا المجد حبواً، ثم قالت: يا خالد، انظر لا يقطعك عن الله قاطع؛ فإنه ليس بين الدارين دار يدرك فيها الخدام ما فاتهم من الخدمة مع مولاهم، فويل لمن قصر عن خدمة سيده ومعه الآمال، فهلا كانت الأعمال توقظه إذا نام البطالون.
إن قيام الليل باب التزكية الأعظم، والتزكية وضعت للرسالة المحمدية، وقد أقسم الله عز وجل بأحد عشر قسماً متتالية على أن فلاح النفوس معلق على التزكية. والذي يتخرج من مدرسة الليل رقيق، تطيب القلوب وترق من النظر إليه، وقد ذكر شيخنا الألباني حديث رسول الله[: «أولياء الله الذين إذا رؤوا ذكر الله تعالى لرؤيتهم»، فكيف بمن عاشرهم؟! كيف بمن تربى على أيديهم؟ فمجرد الرؤية تجعل الرجل يذكر الله، بل والله مجرد سماع كلام بعضهم، فأينا يقرأ كلام ابن القيم ولا يرق قلبه؟! يقول رسول الله[: «إن لله آنية في الأرض، وآنية ربكم في الأرض قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها». فكم من أناس موتى تحيا القلوب بذكرهم! وأناس أحياء تموت القلوب برؤيتهم! إن كانوا وهم موتى يحيي الله بهم الفئات العظيمة من الناس بكلامهم، فكيف برؤية وجوههم ومعاشرتهم؟! وكان محمد بن سيرين يبحث في النهار ويقول: من يدلني على رجل بسام بالنهار بكاء بالليل؟ قالت جاريته: كان إذا آواه الليل فكأنه قتل أهل القرية جميعاً. وكان الناس إذا رأوا وجه محمد بن سيرين سبحوا وعظموا الله من آثار النور الذي على وجهه. وهذا الحافظ عبد الغني المقدسي رفيق الإمام ابن قدامة في العلم وابن خالته، كان إذا خرج من بيته اصطف الناس لرؤية وجهه، وبات معه رجل شمسي - ممن يعبد الشمس - فلما رأى نحيبه طيلة الليل وتهجده زفر الرجل زفرة خرج الكفر بها من صدره.
والذي لا يتخرج في هذه المدرسة تقسو قلوب الناس في النظر إليه، وأدلكم على واقع عملي، هذا سيدنا الشيخ أبو بكر الجزائري أتحدى أي رجل يقول: إنه لا يرق قلبه لرؤية الشيخ الجزائري، ولقد عاشرته شهراً بمصر أقسم بالله ما كان ينام طيلة اليوم والليلة إلا أربع ساعات فقط، وهو شيخ طاعن في السن. فالمتهجدون بالليل من أحسن الناس وجوهاً؛ لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره، وسيماهم في كلامهم مثلما هي في وجوههم. وكلام السلف قليل كثير البركة، وكلام غيرهم كثير قليل البركة، فقد قالوا لـيوسف بن عبيد: هل رأيت من يعمل بعمل الحسن؟ قال: يا سبحان الله! والله ما رأيت من يتكلم بكلامه حتى أرى من يعمل بعمله! إن الحسن كان إذا تكلم أدمى القلوب، ووعظ غيره لا يبكي العيون.
والجهاد يا إخوتاه يسقى بدمع التهجد، وما عرف الإسلام رجاله إلا كذلك:
في الليل رهبان وعند قتالهم
لعدوهم من أشجع الشجعان
والذي لا ينتصر على نفسه لا ينتصر على عدوه، قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ} (التوبة: 123)، وأعدى عدو لك نفسك التي بين جنبيك، والذي لا يستطيع أن يصلي ركعتين لله تهجداً بالليل كيف يستطيع أن يقابل عدوه؟! لا والله لا يستطيع. وهذا سيدنا عباد بن بشر في غزوة ذات الرقاع تناوب هو وعمار بن ياسر الحراسة، وكانت النوبة على عباد بن بشر، فأتى رجل من المشركين فضربه بسهم من الخلف وهو يصلي، فنزع السهم وأقبل على صلاته، فضربه بالسهم الثاني، فنزع السهم وأقبل على صلاته، فلما ضربه بالسهم الثالث استيقظ عمار وولى الرجل هارباً، فعاتب عمار رضي الله عباداً وقال: يرحمك الله! ما الذي منعك من أول سهم أن توقظني؟ قال: إني كنت في سورة فكرهت أن أقطعها. وأسلمت هند زوج أبي سفيان صبيحة الفتح، ولما سألها أبو سفيان قال: قد كنت أراك تكرهين الرجل فما الذي دفعك إلى الإسلام؟ قالت: والله ما رأيت الله عُبِد قبل هذا اليوم في هذا البيت، لقد رأيت صحابة رسول الله[ يراوحون بين جباههم وأقدامهم تبتلاً إلى الله عز وجل، فقيام الصحابة بعد فتح مكة أثر في قلبها. وسيدنا علي يقول: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، وما كان فينا أحد إلا نائم إلا رسول الله [ مكث تحت شجرة يصلي ويبكي ويدعو إلى الصباح، وبهذا يتنزل النصر. وفي غزوة الأحزاب قام رسول الله [ في مرط لنسائه.
ولقد حث رسول الله [ على قيام الليل، فقال [ في حديث عبادة بن الصامت: «من تعار من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد الله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي - أربعاً - استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته». وقبول الصلاة قدر زائد على صحة الصلاة، فقد قال الداودي: من قبل الله له حسنة واحدة لم يعذبه؛ ولهذا قال الحسن: وددت أني أعلم أن الله قبل لي سجدة واحدة، فصلاة الليل مقبولة على الدوام، وهذه البشارة الأولى من رسول الله [. روى الإمام البخاري عن سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله [: «نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل». قال سالم: فما كان عبد الله ينام من الليل إلا قليلاً، وفي رواية: «إن عبد الله رجل صالح لو كان يكثر من صلاة الليل». وقال رسول الله [: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإذا استيقظ فذكر الله تعالى انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها؛ فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان»، وسئل رسول الله [ عن رجل نام حتى أصبح، فقال: «ذاك رجل بال الشيطان في أذنه»، قال الحسن البصري: إنه والله بول ثقيل. وقال رسول الله [: «أفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل». وقال رسول الله [: «أتاني جبريل فقال لي: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيّ به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس». وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «استيقظ رسول الله [ ليلة فقال: سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الفتن؟! ماذا أنزل الليلة من الخزائن؟! من يوقظ صواحب الحجرات؟! يا رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة». وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «أن رسول الله [ طرقه و فاطمة ليلة، فقال: ألا تصليان؟ قال علي: قلت: يا رسول الله! أنفسنا بيد الله إذا شاء أن يبعثنا ابتعثنا، قال علي: فرأيت رسول الله [ وهو مولٍّ يضرب فخذه ويقول: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} (الكهف: 54). يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني والطبري: لولا ما علم النبي [ من عظم فضل الصلاة في الليل ما كان ليزعج ابنته وابن عمه في وقت جعله الله لخلقه سكنا، لكنه اختار لهما إحراز تلك الفضيلة على الدعة والسكون؛ امتثالاً لقوله تعالى: {وأمر أهلك بالصلاة...} (طه:132).
لاتوجد تعليقات