محنة العلم والثقافة في العراق
صحيح أن العراق كله يغلي في قدر اسمه (المحنة)، محنة تراجع كل شيء، حتى في المفاهيم الاجتماعية، والوطنية، تراجعا يجتاح العراق بأسره، سواء على صعيد المعطيات المادية أم الأفكار والمفاهيم، بل نحن نلمس ونقرأ أن التراجع قد بلغ حتى العلاقات العائلية، وعلاقات الصداقة وحقوق الجيرة والتساكن، وهذا التراجع مطلوب ومرغوب فيه بشدة، بل هو أحد الأهداف الرئيسة لاحتلال العراق.
لا شك أن تصعيد نبرة الاستعداء لكل القيم والمثل، ما هي إلا تمهيد لتدمير كل ما يجمع العراقيين من قواسم مشتركة، وتقاليد عراقية وطنية هي جذر المسألة برمتها، والاحتلال وقواها الظاهرة والمستترة تفعل كل ما بوسعها لبلوغ هذا الهدف، الذي يقتضي تدمير كل بناء مرتفع في العراق، وإبادة كل منجز.
وبتقديرنا إن أهم منجز تحقق في العراق هو التعليم بمختلف مستوياته، فمناهج التعليم كانت في مجملها وفي اتساقها العام تؤدي إلى خلق أجيال من العراقيين مسلحة بالعلم والثقافة، وتأهيل عراقيين في مختلف الميادين، وهو ما عملت عليه الحكومات العراقية المتعاقبة بعد الاستقلال الوطني عام 1921، وقدمت -ليس للعراق فحسب، بل وللإنسانية برمتها- نماذج رائعة في المستويات والميادين كافة، الطب والهندسة والفلسفة وسائر العلوم، ومن هنا -تحديداً وفي إطار تهديم هذا المنجز العملاق- يعيش التعليم العالي في العراق مأساة التدمير، يتمثل باغتيال العلماء وتهجيرهم، وإفراغ الجامعات العراقية من أي مستوى علمي، ويشهد على ذلك نشرات اتحاد الجامعات العالمي (Ranking Web of World Universities) الذي يضع العراق في مراتب متخلفة جداً، ( بين 6,500 / 11,000 )، أفضلها جامعة الكوفة وتقع في المرتبة 6,097، تليها الجامعة التكنولوجية في المرتبة 6,503، وفي نهاية القائمة جامعة البصرة في المرتبة 11,406، بل إن الجامعات العالمية لا تعترف بأي من الشهادات العراقية، واليوم نسمع هذه إجراءات جديدة لتعمق محنة التعليم، وإبادة منجزات التعليم في العراق ولا سيما التعليم العالي.
لا مانع أن تعقد وزارة التعليم العالي أي اتفاقيات مع أي دولة في العالم إذا كان مؤدى ذلك أن يرفع من مستوى التعليم، ولكن من المشكوك فيه أن تسهم الاتفاقية مع إيران إلى رفع مستوى التعليم، ذلك أن هدف الاتفاقية هو سياسي بامتياز، ولا سيما إذا جاء مباشرة مع إضعاف العلاقات أو إلغائها مع جامعات كبيرة سواء في العالم العربي أم في العالم. وإذا كانت إيران تمتلك درجة معينة من العلوم، فهي ليست بتلك النسبة التي كان عليها العراق قبل الاحتلال، ناهيك أنهم في كل علاقة يرمون فيها إلى الهيمنة والتسلط وإحراز التفوق، ثم إن مستوى إيران العلمي ليس للتصدير إلى مؤسسات العراق الذي تعمل بنفسها على تدميره، فكيف تعمر شيئا هدمته بنفسها؛ ففي ذلك تناقض مفضوح يدركه كل مراقب، ناهيك أن أي مستوىعلمي تستهدف أي دولة أو جامعة تحقيقه، لا تتوصل إليه بوسائل كهذه، بل بعمل متواصل دؤوب قد يستغرق سنوات طويلة.
فالهدف -كما نرجح من هذه العمليات بمختلف صفحاتها- هو هدف قديم لكل من يطمع في العراق غازياً، فجاءنا فاتحاً، وليس ضيفاً صديقاً. بدأها الإسكندر المقدوني بمحاولة بدائية حاول التأثير من خلال الهيلينية في الثقافة ولم يفلح إلا بدرجة لا تستحق الذكر، ثم حاول الفرس بل هذا كان دأبهم منذ البداية من خلال تيار الشعوبية؛ إذ يقع التوسع والهيمنة في مقدمة برامجهم، وحاول مثل ذلك الإنكليز ونجحوا بقدر معين، فاللغة الإنكليزية كانت وما تزال لغة الثقافة والأدب العالمي، وبرغم ذلك لم يبلغوا النجاح التام، أما العراقيون، والعرب عموما، فقد تعاملوا إيجابياً مع الثقافات القريبة والبعيدة جغرافياً، وتفاعلوا معها وأثروا فيها أخذاً وعطاء ماضيا وحاضرا، وهذا ما يفسر وجود 1200 كلمة عربية في اللغة الإنكليزية (قاموس أوكسفورد)، و550 كلمة عربية في اللغة الألمانية.
وبالرغم من أن الهجمة الثقافية الفارسية تتسم بالدرجة الأولى بهمجيتها، وليس بقيمة مستواها العلمي، فبالأمس فقط أغتيل أحد أفضل علماء العراق في علاج السرطان، لينضم إلى قافلة شهداء العلم في العراق، فالعراق ينزف طاقاته دون توقف منذ الاحتلال وحتى اليوم، والوالغون في الدم العراقي يعرفهم الشعب العراقي، كما يعرف حاملي معاول تهديم العراق على أي صعيد آخر.
عن أي تفاعل وتعاون علمي يتحدثون......؟
العراق -ومنذ تاريخه الحديث بعد الاستقلال- أوفد جيوشا من أبنائه ليتلقوا العلم في جامعات العالم: أوربا، وأميركا خاصة، وفي كل بلاد كان ذلك ضرورياً، ودرسوا في أرقى جامعات العالم وبكل اللغات الحية الثرية، ولكنهم عندما عادوا إلى بلادهم اندجموا في مسيرة الثقافة العراقية / العربية، نعم كانوا يتحدثون الإنكليزية أو الفرنسية أو الروسية، أو الألمانية، وربما بطلاقة ولكن برطانة عربية، وفي خدمة الثقافة العربية. (غائب طعمة فرمان) الذي يعد من أفضل بلغاء الروسية، وعاش ومات في موسكو، ترجم للعربية أصعب النصوص، ولكنه عندما كتب، كتب رائعته العراقية الصميمة: (النخلة والجيران).
الثقافة هي قضية معقدة تتكون من أجزاء ودقائق، وتفاصيل، يدخل فيها التركيب النفسي للإنسان، ومزاجه، ولغته وبيئته الخاصة والعامة، والثقافة ما هي إلا انعكاس لهذه العناصر والعوامل، يبحث الإنسان عن نفسه من خلالها وينتج ويصدر تعبيرات تحمل خصوصية ذاته ومحيط مجتمعه. هذه هي أراء العلماء والخبراء في الثقافة، وهي تختلف بصفة شبه جذرية عن نوايا الفرس وتبعدها عن إطار التفاعل والتبادل الثقافي.
من هنا أستطيع أن أجزم أن الجهود الإيرانية خائبة وما هي سوى حراثة في الماء.
لاتوجد تعليقات