رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: فوزي بن عبد الصمد فطانى 19 سبتمبر، 2018 0 تعليق

محمد شحرور نموذجًا (3) انحرافات الاتجاه العقلاني في تفسير القرآن الكريم


ذكرنا في الحلقتين الماضيتين، أن العلماء وضعوا قيودًا وذكروا شروطًا للمفسِّر، صيانة من العبث في فهم كلام الله وتفسيره على غير الوجه الذي أراده الله -تعالى-، ومن أهم تلك الشروط: صحّة الاعتقاد وسلامة المنهج، نزاهة المقصد والتجرّد عن الهوى، العلم بأساليب تفسير القرآن؛ فالقرآن يفسَّر بالقرآن، وبالسنَّة النبوية، وبأقوال الصحابة والتابعين، واعتبار دلالة اللغة، ثم العلم بالعربية، وبما يتّصل بالقرآن ممّا له الأثر في فهمه، وذكرنا أنه حدث في تاريخنا الإسلامي انحرافات كثيرة في مناهج التفسير؛ وأن من صور هذا التحريف ما سمي بالقراءة المعاصرة للنصوص، وذكرنا أسماء عدة من أصحاب هذا الاتجاه المنحرف، وتناولنا بالتفصيل الحديث عن أحدهم وهو محمد شحرور، واليوم نستكمل هذا الحديث.

 

قوله بتاريخية القرآن

     يقول شحرور: «أريد هنا أن أؤكد على نقطة في غاية الأهمية، وهي أن القرآن كتاب الوجود المادي والتاريخي؛ لذا فإنه لا يحتوي على الأخلاق، ولا التقوى ولا اللياقة ولا اللباقة، ولا تنطبق عليه عبارة (هكذا أجمع الفقهاء) و(هكذا قال الجمهور)، إننا في القرآن والسبع المثاني غير مقيدين بأي شيء قاله السلف، إننا مقيدون فقط بقواعد البحث العلمي، والتفكير الموضوعي، وبالأرضية العلمية في عصرنا؛ لأن القرآن حقيقة موضوعية خارج الوعي؛ فهمناها أم لم نفهمها، قبلنا بها أو لم نقبل، والشيطان حين محاولة فهم القرآن يدخل إلينا من خلال الأخلاق واللياقة واللباقة؛ فالقرآن حقيقة موضوعية مادية وتاريخية، لا تخضع لإجماع الأكثرية حتى ولو كانوا كلهم تقاةً، ويخضع لقواعد البحث العلمي حتى ولو كان الناس كلهم غير تقاة”(1)، ويتضح من خلال هذا النص ما يلي:

الأحكام والتكاليف

1- ادعاؤه أن الأحكام والتكاليف التي في المصحف ليست مما يطلق عليه لفظ (القرآن) -كما سبق أن بينَّا ذلك-، بينما كان الرسـول والمؤمنون المسلمون وسائر العرب يفهمون أن لفظة (القرآن) تطلق على كل الآيات التي كانت تنزل على محمد صلى الله عليه وسلم التي جمعت في المصحف، واستمر كل الناس يفهمون هذا، حتى جاء المحرف شحرور، وادعى أن لفظة (القرآن) تطلق فقط على بعض آيات المصحف، وهي: الآيات التي تتحدث عن الوجود المادي والتاريخي(2)؛ ولهذا نجده يجزم بأن القرآن لا يحتوي على الأخلاق ولا التقوى، مخالفًا للآيات الصريحة التي نصت على ذلك.

 فهم السلف للقرآن

2- أنه جعل الشيطان هو الحائل بين فهم السلف للقرآن فهمًا حقيقيًّا، وهذه دعوى على قاعدة (رمتني بدائها وانسلّت)؛ فأي فهم للقرآن أفضل من فهم القرون الأولى الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية؟!(3).

عَدُّ القرآن نصًّا تاريخيًّا

3- أنه يدعو إلى عد القرآن نصًّا تاريخيًّا موضوعيًّا، نزل في سياق معيّن ولمجتمع معيّن؛ فالعبرة بخصوص الظروف والملابسات التي صاحبت نزوله، وليس بعموم الألفاظ والدلالات، وفي الحقيقة: إن تقييد القرآن بسياقه التاريخي، يفقده هو والإسلام صفة الشمول، التي عبر عنها -سبحانه-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} (سبأ: 28).

     قال الطبري: «{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ} -يا محمد- إلى هؤلاء المشركين بالله من قومك خاصة، ولكنا أرسلناك {كَافَّةً لِلنَّاسِ} أجمعين، العرب منهم والعجم، والأحمر، والأسود»(4)، وهذا القول يؤدي إلى نزع ثبوت الدلالة عن النص نهائيًّا، وتحويله إلى نص متغير الدلالة حسب الظروف التاريخية للقارئ(5).

اعتماده على اللغة في التفسير

     اللغة هي الشماعة التي يتعلق بها كثير من أهل البدع؛ فإنهم حين لم يتمكنوا من الإتيان بالتفسير بالمأثور، وضَعَّفُوا طُرُق الاستدلال بها، كان لا بد لهم من طريق يبينون للناس، كيف استقوا معنى الآية، لكن هل فعلًا كان شحرور يعتمد على اللغة في التفسير؟ وهل له منهج منضبط في ذلك؟ وهل يتقيد به؟

     لقد سلَّط الأستاذ يوسف الصيداوي نقده على المنطق اللغوي عند شحرور، كما في كتابه (بيضة الديك)، وبيّن بلغة الدليل مدى ضعفه وهزاله وتهافته، كما ناقش بعض أحكامه المؤسسة على اللغة، وأحصى الأخطاء النحوية والصرفية وغيرها التي جاءت في الكتاب.

لا يؤتمنون في أقوالهم

ويرى بعض الباحثين أن أمثال شحرور لا يؤتمنون في أقوالهم وتقعيداتهم؛ إذ الأمر لا يعدو أن تكون المنهجية المعلنة ليست سوى ستار، ليصلوا إلى ما وراءها من نتائج معروفة لديهم.

وقد تحدث شحرور مرارًا عن منهجية يسلكها في كتبه، وأخَصُّها: المباحث اللغوية، لكن الواقع أن كتبه حوت منظومات خفية هي الحاكم الأوَّلي في ترجيح ما يصل إليه من آراء.

وإن تصديق شحرور في المنهجية التي يعلنها لنفسه مرارًا، يؤدي إلى عدم القدرة على التنبؤ بما سيقوله، وهذا نابع من قصورها في تفسير ما قاله من قبل، والواقع أنه لا يحتكم إلى أي إطار منهجي معلن، وإنما هو مجرد تلفيق لمنظومات متنوعة(6).

ذكر شحرور في مقدمة كتابه: (الكتاب والقرآن)(7) أن تفسير القرآن يعتمد على فهم اللغة من خلال البيئة التاريخية المتطورة، وأسس منهجه اعتمادًا على أمور عدة(8):

1- مسح عام لخصائص اللسان العربي.

2- الاطلاع على آخر ما توصلت إليه علوم اللسانيات الحديثة من نتائج، وعلى رأسها: أن كل الألسن الإنسانية لا تحوي خاصية الترادف.

3- إذا كان الإسلام صالحًا لكل زمان ومكان؛ فيجب الانطلاق من فرضية أن الكتاب تنزل علينا، وأنه جاء لجيلنا في النصف الثاني من القرن العشرين.

      وهذا الأساس الثالث يمكن عدُّه من أهم أسباب الشذوذ والخطأ الذي وقع فيهما، يريد من كون القرآن صالحًا لكل زمان ومكان، أن تكون أحكامه تابعة لتغير الأحوال، وتحول المزاج العام للناس؛ فخلص من ذلك إلى القول بثبوت النص وتغير المحتوى، وهي فرية خطيرة(9).

الإعراض التام

بل هناك ما هو أهم من ذلك، وهو الإعراض التام عن تفاسير السلف بحجة الاعتماد على اللغة؛ إذ اللغة لا تستقل بذاتها في فهم كلام الله؛ لهذا لو سلَّمنا جدلًا أن شحرورًا متمكن في اللغة -وهو ليس كذلك- لكان ذلك غير كافٍ له في تفسير كلام الله.

     قال القرطبي مشيرًا إلى ذلك: «فمن لم يحكم ظاهر التفسير وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كثر غلطه، ودخل في زمرة من فسر القرآن بالرأي، والنقل والسماع لا بد له منه في ظاهر التفسير أولًا ليتقي به مواضع الغلط، ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط، والغرائب التي لا تفهم إلا بالسماع كثيرة، ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر»(10).

أحد أسباب الخطأ

     وقد عدَّ شيخ الإسلام ابن تيمية الاعتماد على اللغة وحدها أحد أسباب الخطأ(11)؛ فالمطالبة بدراسة القرآن على أنه نص عربي وتفريغه من المحتوى الشرعي الذي يحيط به دعوى باطلة زائفة مغرضة، ليس قصد أصحابها إلا الهدم والنخر في جسم هذه الأمة، ومحاولة النيل من تراثها الفكري الذي يمثل ثباتًا في القيم والأخلاق والعقائد(12).

لا يعدُّ من علماء الأمة

ونختم هذه الورقة بالقول:

     شحرور لا يعدُّ من علماء الأمة، لا في التفسير ولا في غيره من علوم الشريعة؛ فلا هو صاحب معتقد سليم، ولا هو يلتزم منهج السلف في التفسير، ولا له دراية وتمكن بعلم اللغة، ولا العلوم المتعلقة بالتفسير؛ فهو أجنبيّ عن هذا العلم بلا شك، يغرِّد خارج السرب، بل لو قلنا: إنه يعبث بكتاب الله -تعالى-؛ لما أبعدنا الوصف! وقد كثُرت الموضوعات المثيرة في كتاباته، حتى قال عنه صاحب كتاب (النزعة المادية في العالم الإسلامي): «لقد أحصيت في كتابه ما يزيد على ألف موضع، يمثل انحرافًا عن المنهج الإسلامي!)(13).

المراجع

 (1) الكتاب والقرآن (ص: 91).

(2) انظر: التحريف المعاصر في الدين (ص: 69-70).

(3) انظر: الاتجاهات المنحرفة في التفسير في العصر الحديث، د. عادل الشدي (ص: 271).

(4) تفسير الطبري (22/ 96).

(5) انظر: الاتجاهات المنحرفة في التفسير في العصر الحديث، د. عادل الشدي (ص: 216-217، 271).

(6) انظر: بؤس التلفيق، يوسف سمرين (ص: 80).

(7) الكتاب والقرآن (ص: 7).

(8) التبيان (1/ 47).

(9) انظر: القرآن وأوهام القراءة العصرية (26).

(10) تفسير القرطبي (1/ 34).

(11) مقدمة في أصول التفسير (ص: 79-81).

(12) انظر: التفسير اللغوي، د. مساعد الطيار (ص: 647).

(13) النزعة المادية في العالم الإسلامي، عادل التل (ص: 305).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك