رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: فوزي بن عبد الصمد فطانى 13 أغسطس، 2018 0 تعليق

محمد شحرور نموذجًا (2)انحرافات الاتجاه العقلاني في تفسير القرآن الكريم

 

ذكرنا في الحلقة الماضية أن العلماء وضعوا قيودًا وذكروا شروطًا للمفسِّر، صيانة من العبث في فهم كلام الله وتفسيره على غير الوجه الذي أراده الله -تعالى-، ومن أهم تلك الشروط: صحّة الاعتقاد وسلامة المنهج، نزاهة المقصد والتجرّد عن الهوى، العلم بطرائق تفسير القرآن؛ فالقرآن يفسَّر بالقرآن، وبالسنَّة النبوية، وبأقوال الصحابة والتابعين، واعتبار دلالة اللغة، ثم العلم بالعربية، وبما يتّصل بالقرآن ممّا له الأثر في فهمه، وذكرنا أنه حدث في تاريخنا الإسلامي انحرافات كثيرة في مناهج التفسير، وأن من أنماط هذا التحريف ما سمي بالقراءة المعاصرة للنصوص، وذكرنا أسماء عدة من أصحاب هذا الاتجاه المنحرف، وتناولنا بالتفصيل الحديث عن أحدهم وهو محمد شحرور، واليوم نستكمل هذا الحديث.

 إخضاع القرآن للتأويل

     يرى شحرور أن القرآن لابد أن يكون قابلًا للتأويل، وتأويله يجب أن يكون متحركًا، وفق الأرضية العلمية لأمة ما، في عصر ما، على الرغم من ثبات صيغته، وفي هذا يكمن إعجاز القرآن للناس جميعًا دون استثناء(1)، وفي الحقيقة: التأويل المتحرك لمعاني القرآن دون الوقوف عند ثبات صيغته ودلالته هو تبديل، ويؤدي في غالب الأحيان إلى إفراغ النص من مضمونه؛ ليصبح منطلقًا للأهواء، والأعراف، والتقاليد(2).

من الذي يؤول آيات الكتاب؟

     يقول شحرور: أما قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}. فهو: بما أن القرآن حقيقة مطلقة؛ فتأويله الكامل لا يكون إلا من قبل واحد فقط، وهذا الواحد هو الله المطلق؛ ولهذا قلت: إن النبي صلى الله عليه وسلم  لا يعلم التأويل الكامل للقرآن بتفاصيله كلها؛ لأنه يصبح شريكًا لله في مطلق المعرفة، أما معرفة التأويل المتدرج المرحلي؛ فهو من قبل الراسخين في العلم كلهم مجتمعين لا فرادى، وهنا يجب أن نفهم أن الراسخين في العلم هم مجموعة كبار الفلاسفة، وعلماء الطبيعة، وأصل الإنسان، وأصل الكون، وعلماء الفضاء، وكبار علماء التاريخ مجتمعين.

     ويقول أيضًا: ولم نشترط لهذا الاجتماع حضور الفقهاء؛ لأنهم ليسوا معنيين -في رأينا- بهذه الآية؛ لأنهم أهل أم الكتاب، والراسخون في العلم مجتمعين، يؤولون حسب أرضيتهم المعرفية، ويستنتجون النظريات الفلسفية والعلمية، ويتقدم التأويل والعلم في كل عصر حتى قيام الساعة.

فالراسخون في العلم هم من الناس الذين يحتلون مكان الصدارة بين العلماء والفلاسفة، وهؤلاء من أمثال: البيروني، الحسن بن الهيثم، ابن رشد، إسحاق نيوتن، أينشتاين، تشارلز داروين، كانت، هيجل!!(3).

     وبعد أن أورد القواعد الست في التأويل نبَّه شحرور من جديد أن التأويلات التي يؤولها هو وغيره قابلة للتطور وللنقض؛ لأنها قائمة على أساس نسبية معرفة الحقيقة، كما أنه يقول: (علينا أن نسحب القرآن قبل أن يفوت الأوان من أيدي السادة الوعاظ المعروفين بالعلماء الأفاضل أو رجال الدين؛ فموقفهم من القرآن هو كموقف العامة تمامًا، وإن كان لهم دور فهو دور وعظي بحت(4).

ليست مسألة خصومة

     والمسألة في الحقيقة ليست مسألة خصومة بين شحرور والفقهاء كما يبدو للقارئ، بل خصومته مع كتاب الله نفسه، ومن المواقف التي تجلي ذلك، موقفه من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ إذ يقول: فقد أصدرت الأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10 ديسمبر 1948م، والغريب أن مؤتمرات الفقه الإسلامي، وضعت شرطًا لقبول ميثاق حقوق الإنسان، متمثلًا في إخضاعها لضوابط الشريعة التي وضعها الفقهاء منذ قرون غابرة(5).

الإعلان العالمي لحقوق الإنسان

     وقد جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ما نصه: «للرجل والمرأة -متى أدركا سن البلوغ- حق الزواج وتأسيس أسرة دون أي قيد بسبب العِرق، أو الجنسية، أو الدين»(6). والسؤال: أليس في هذا تصادم -يا شحرور- مع قوله -تعالى-: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} (البقرة: 221). ومن اللطيف أن هذا الإعلان العالمي في حقوق الإنسان قد نص في المادة (30) على أنه: «ليس في هذا الإعلان نص يجوز تأويله»؛ فأين شحرور المشتغل بالتأويلات في كتاب الله، وبالتشنيع على الفقهاء عن مثل هذا النص؟! لاسيما وقد اتهم الفقهاء، بأنهم شاركوا الله في الإلهية(7)، يقول: «أن نزعم أن كلمة الله العليا هي في تطبيق الفقه الموروث وفتاوى الفقهاء وأوامرهم ونواهيهم تحت شعار (هكذا أجمع الجمهور)، وتحت شعار (بخاري ومسلم)؛ فهو استخفاف بكلمة الله، وهو العبودية بعينها(8).

      إذاً فهو يرى أن الرجوع للصحيحين البخاري ومسلم، وما أجمع عليه العلماء، استخفاف بكلمة الله، بل وعبودية! بينما نجده حين يتحدث عن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي لا يجوز تأويله يقول: يعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، خير تعبير عن إعلان كلمة الله هي العليا(9).

بل يعد هذا البيان العالمي لحقوق الإنسان بمثابة العمود الفقري للعقيدة الإسلامية(10)، وأن تبني منظمة حقوق الإنسان الصادرة عن الأمم المتحدة، هو أحسن تعبير عن الحفاظ على الدين(11).

إذاً فلا عجب ممن جعل الملاحدة هم الراسخون في العلم، وأشد معرفة بمعاني ألفاظ القرآن الكريم من السلف الصالح، أن يعتمد على بيانات الأمم المتحدة؛ لتكون كلمة الله هي العليا! ويصطنع معارك مع فقهاء الإسلام وعلمائه.

موقفه من تفاسير السلف

لا يمكن لمن يقرأ ويعرف أقوال شحرور الشاذة في الدين أن يقول: سلَفُهُ في ذلك صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو التابعون وأتباعهم، بل لا بد أن يكون ثمة انفصام وتقاطع وتدابر بين التراث وبين هذه الآراء المتضادة المنفّرة.

     يقول شحرور مبينًا مذهبه في ذلك: إن النتيجة المباشرة لما قلنا: هي أن كل التفاسير الموجودة بين أيدينا، ليست أكثر من تفاسير تاريخية مرحلية للقرآن، أي: لها قيمة تاريخية؛ لأنها نتاج أشخاص عاشوا منذ قرون(12). ويقول أيضًا: لسنا عبيدًا للسلف؛ فأنا لا أقبل أن أجلس عند أقدام ابن عباس أو أقدام الشافعي!(13).

ويقول كذلك: كل تفاسير القرآن تراث، يحمل طابع الفهم المرحلي النّسبيّ(14).

متى يكون التفسير تاريخيًّا

     تُرى متى يكون التفسير تاريخيًّا أو غير تاريخيّ؟ ما المدة التي ينبغي أن تمرّ على وفاة المفسر حتى يكون تفسيره تاريخيًّا؟ إنه لا يمكن إسقاط التفاسير بهذه الصورة؛ فالعلم الذي فيها لا تسقط قيمته باعتبار الزمن، وأما بعض آراء مفسريها واجتهاداتهم في الأمور الكونية فقد ننظر إليها باعتبارها مرحلة تاريخية، ولكن هنالك أحكام الدين، والقصص، والتشريع، والفقه، والتاريخ، والسيرة وغيرها مما لا يمكن إغفالها أو إسقاطها أبدًا(15).

ويمكن أن نستنتج من ذلك كله: أنه لا قيمة عنده لإجماع الصحابة ومن بعدهم، ولا قيمة لتفاسير علماء الإسلام على مدى أربعة عشر قرنًا من الزمان من باب أولى.

تفسير الصحابة والتابعين

     والحق الذي لا ريب فيه، أن لتفسير الصحابة والتابعين، مكانة لا يعادلها أي تفسير متأخر، قال الغزالي: «فهم كانوا أعرف الناس بمعاني القرآن، وأحراهم بالوقوف على كنهه ودرك أسراره، الذين شاهدوا الوحي والتنزيل وعاصروه وصاحبوه، بل لازموه آناء الليل والنهار، مُتَشَمِّرين لفهم معاني كلامه وتلقيه بالقبول»(16)، وقال الشاطبي: «فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم، كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أُودع فيه(17).

     فقد نزل القرآن على معهودهم في الخطاب وعادتهم في الكلام؛ فهم أعمق صلة بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأنقى فطرة وأزكى فهمًا وأصح لسانًا، وقد كانوا في القرون المشهود لها بالخيرية؛ لذا عدّ مخالفتهم من علامات الشذوذ والخطأ في الأقوال، كما قال الطبري في معرض رده لقول من الأقوال: «وذلك تأويل يكفي من الشهادة على خطئه خلافه قول جميع أهل العلم من الصحابة والتابعين»(18).

خصائص تفسير السلف

     ومن أهم الخصائص التي امتاز بها تفسير السلف: أن الحق لا يخرج عن أقوالهم؛ فطالب الحق لا بد له من معرفة خلافهم، وهذه نتيجة لازمة لكون تفسيرهم حجة على من بعدهم؛ فإذا اختلف الصحابة على قولين أو أكثر؛ فلا يسوغ لأحد أن يأتي بقول زائد مناقض لهذه الأقوال، أو مبطل لها، ووجه ذلك: «أن تجويز القول الزائد مع إمكان ترجيحه يؤدي إلى أن الأمة بمجموعها أخطأت في معنى الآية، ولم تعرف الصواب فيها، وهذا ممتنع؛ لأن فيه نسبة الأمة إلى الغفلة عن الحق وتضييعه، كما أن فيه أيضًا: القول بخلو عصرهم عن قائم لله بحجته»(19).

الهوامش:

 (1) الكتاب والقرآن (ص: 60).

(2) انظر: الاتجاهات المنحرفة في التفسير، د. عادل الشدي (ص: 268).

(3) الكتاب والقرآن (ص: 193).

(4) الكتاب والقرآن (ص: 196).

(5) الدين والسلطة (ص: 410).

(6) وثيقة الإعلان العالمي، موقع الأمم المتحدة.

(7) انظر: الدين والسلطة (ص: 187).

(8) الإسلام والإيمان (ص: 159).

(9) الإسلام الأصل والصورة (ص: 196).

(1) نحو أصول فقه جديد للفقه الإسلامي (ص: 381).

(11) تجفيف منابع الإرهاب (ص: 301)، وانظر: بؤس التلفيق، يوسف سمرين (ص: 120-122).

(12) الكتاب والقرآن (ص: 193-194).

(13) لا أقبل الجلوس عند أقدام ابن عباس والشافعي – مجلة (الرجل اليوم)، منشور بتاريخ: 25 فبراير 2010م.

(14) من مقدمة كتابه: الكتاب والقرآن.

(15) انظر: شبهات معاصرة حول المصادر الأساسية للتشريع، د. محمد رفعت، نشر في مجلة الحكمة العدد 23 الصادر في شهر 7 من عام 1422هـ.

(16) إلجام العوام عن علم الكلام، ضمن القصور العوالي من رسائل الإمام الغزالي (2/ 272) بتصرف.

(17) الموافقات (2/ 67).

(18) تفسير الطبري (16/ 132).

(19) قواعد التفسير (1/ 200) بتصرف، وانظر: اختلاف السلف في التفسير، محمد صالح سليمان (ص: 59).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك