رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: فوزي بن عبد الصمد فطانى 9 أغسطس، 2018 0 تعليق

محمد شحرور نموذجًا (1) انحرافات الاتجاه العقلاني في تفسير القرآن الكريم

وضع العلماء قيودًا، وذكروا شروطًا للمفسِّر، بين مقلٍّ ومستكثر، صيانة من العبث في فهم كلام الله وتفسيره على غير الوجه الذي أراده الله -تعالى-، ومن أهم تلك الشروط: صحّة الاعتقاد وسلامة المنهج، نزاهة المقصد والتجرّد عن الهوى، العلم بطرائق تفسير القرآن؛ فالقرآن يفسَّر بالقرآن، وبالسنَّة النبوية، وبأقوال الصحابة والتابعين، واعتبار دلالة اللغة، ثم العلم بالعربية، وبما يتّصل بالقرآن ممّا له الأثر في فهمه(1).

     وقد وُفق السلف الأوائل أيما توفيق في فهم كلام الله، ومعرفة مراده؛ إذ كانوا يملكون أدوات التفسير، فَصَحَّتْ فُهُومُهُم كما صَحَّ مُرادُهم، يقول ابن القيم: «صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما، بل هما ساقا الإسلام، وقيامه عليهما، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم»(2).

أما سوء الفهم عن الله ورسوله فهو أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام، بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد(3).

انحرافات كثيرة

     وفي تاريخنا الإسلامي نجد انحرافات كثيرة في مناهج التفسير؛ فهناك الاتجاه الصوفي، وفي عصرنا الحاضر ظهر الاتجاه العقلاني المتأثر بالمعتزلة، واتجاه الخوارج في التفسير، بل وصل الحال إلى ظهور اتجاه منحرف يردِّد ما يقوله المستشرقون، واقتفى أصحاب هذا الاتجاه آثارهم، وتأثروا بشبههم، دون سير على منهج واضح، بل هو التلفيق ليس إلا، فما أبأسه من طريق، وما أضله من سبيل!

أعداء الإسلام

     لقد أدرك أعداء الإسلام من المستشرقين وغيرهم أن المسلمين لن يقبلوا أخذ دينهم وتفسير كلام ربهم منهم؛ لذا قاموا بتسليم الراية لبعض تلاميذهم أو المتأثرين بهم من المسلمين، أو ممن يحملون أسماء المسلمين؛ ولما كان القرآن الكريم كتاب الله المحفوظ، لم يجدوا طريقًا لتزييف كلماته، أو تغيير حروفه، إلا أنهم وجدوا أسهل طريق لإضلال المسلمين -في نظرهم- وهو تحريف المعنى؛ فابتدعوا من المعاني والفهوم ما لم يخطر على بال أهل القرون المفضَّلة كلها؛ بدعوى: (القراءة المعاصرة للنصوص)، وما أشبه عملهم في التحريف بما فعله اليهود الذين يتأوّلون آيات الله على غير تأويلها، ويفسِّرونها بغير مراد الله -عز وجل-؛ بغيًا منهم وافتراء.

القراءة المعاصرة

     وأيضًا: نجد أنّ هؤلاء الذين خاضوا في القراءة المعاصرة للنّصوص ممّن يحمل هذا الفكر والتجديد ليس لديه آلة المفسِّر لكي يفسر القرآن الكريم كاملًا؛ لذا نجدهم يفسرون آياتٍ من القرآن؛ ليُلَبِّسُوا على الناس دينهم، أما لو قاموا بتأليف تفسير كامل؛ ففضيحتهم حينها سيعرفها القاصي والداني.

     وأيضًا: هم يستهدفون من خلال الآيات التي ينتقونها الأمور التي يعترض عليها الغرب على الإسلام، مثل: الرق، والحجاب، وتحريم الخمر والخنزير، وإقامة الحدود كحد السرقة وحدّ الحرابة، كما يحاولون التشكيك في أصول الإسلام ومصادره، مثل التشكيك في ثبوت القرآن وقراءاته وجمْعه، والتشكيك في السُّنة بحجة أنها تعرضت للوضع(4).

الفهوم السقيمة

وأمر آخر: لا نكاد نجدهم يسمون الكتب التي أوردت تلك الفهوم السقيمة لآيات الله باسم (تفسير القرآن)، وهذا لا يعني أنهم لم يمارسوا التفسير؛ فالعبرة بمضمون تلك الكتب وبيان ضلالاتها، حتى يكون الناس على بينة منها.

مشروع التضليل

ولكي ينجح هذا المشروع المعاصر في التضليل، كان لابد من إيجاد حلّ لبعض الإشكالات، حتى لا يصطدم صلاحية النصوص الشرعية لكل زمان ومكان بهذا التفسير المعاصر غير المراد سلفًا في زمن التنزيل؛ فمن بين تلك الحلول:

تاريخية النص

القول بـ(تاريخية النص): وهي نظرية أسسها المستشرقون لقطع الصلة بين القرآن الكريم والواقع المعاصر، وادعاء بأنه لا يمكن تطبيق أحكامه على واقعنا اليوم.

الموقف من السُّنَّة

     وكذا الموقف من السُّنَّة باعتبارها مفسرة للقرآن؛ فإما أن يدَّعوا الاكتفاء بالقرآن وحده، أو يسلبوا منها العصمة وينفوا كونها وحيًا، أو يدَّعوا عدم ثبوتها، أو يزعموا مخالفتها للعقل والحس، أو مخالفتها للقرآن، أو معارضتها للنصوص الأخرى، أو مصادمتها للقيم والأخلاق، أو يقولوا بتاريخيَّتها كما قالوا في القرآن؛ فالقاسم المشترك بينهم هو الانتقاص من السنة المشرفة(5).

أغراض المنتقصين

ويمكن تلخيص أغراض هؤلاء المنتقصين من النصوص الشرعية في عصرنا هذا في أهداف ثلاثة:

- أولها: (أَنْسَنَة) كلام الله ووحيه برفع صفة (القداسة) عنه، ومن ثم فتح الباب للتصويب والتخطئة فيه، والأخذ منه والرد والاستدراك عليه، شأنَ كل ما هو (بشري) لا يتصف بـ (الكمال المطلق)، تمركزًا حول (الذات)، وتنحيةً (للإله) جانبًا.

- وثانيها: رفع صفة كونه (وحيًا ورد من عالم الغيب)، واعتباره (منتجًا بشريًّا)، و(إفرازًا طبيعيًّا) للعصر الذي ظهر فيه، ومن ثم فتح الباب للقول بتاريخيته وعدم صلاحيته لكل زمان ومكان، شأنَ كل ما هو (مادي) (غير متجاوز)، تمركزًا حول (المادة)، وتنحيةً (للغيب) جانبًا.

- وثالثها: رفع صفات (المعيارية) و(القيمية) و(الأخلاقية) التي تميزه بنفي (الحكمة) و(الغائية) و(الاتساق المنطقي) عنه، ومن ثم فتح الباب للقول بنسبيته؛ لتُطِلَّ (العبثية) برأسها تبعًا لذلك شأنَ كل ما هو (سائل) و(زئبقي) يمكن إعادة تشكيله حسب الطلب، تمركزًا حول (الدنيا) وتنحية (للآخرة) جانبًا(6).

     فإذا كان القرآن والسنة -وهما مصدرا التشريع، ولهما من القداسة والمكانة عند المسلمين- قد عبثوا بهما؛ فكيف بمكانة الصحابة والتابعين وتابعيهم وأقوالهم عند هؤلاء القوم؟! ومن أصحاب هذا الاتجاه المنحرف: محمد أركون، ونصر أبو زيد، وخليل عبد الكريم، وهشام جعيط، ومحمد شحرور، وهذا الأخير هو محل حديثنا؛ فمن محمد شحرور؟ وما مكانته في علم التفسير؟

كتبه في التفسير

     من أبرز كتبه التي تناول فيها تفسير القرآن الكريم: (الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة)، وهو يقع في (819) صفحة، وذكر في مقدمته أنه قضى في تأليفه أكثر من عشرين عامًا! والمتتبع لهذا الكتاب يجد أن مؤلفه فاقد لآليات المفسِّر، وقد تولى الرد عليه كثيرٌ من الباحثين، ويمكن القول بإيجاز في منهجه ما يلي(7):

1- إن فيه تحطيمًا لخصائص اللغة العربية وقواعدها.

2- وعدم المقدرة على قراءة المعجم وفهمه، وتفسير الكلمات بغير معناها.

3- ومخالفة معجم مقاييس اللغة لابن فارس، وإهمال المعاجم الأخرى.

4- وتزييف حقائق اللغة والادعاء بما ليس فيها.

5- ومخالفة نظرية الجرجاني في النظم من خلال اقتطاع المفردة من سياقها وتجريدها من معناها الحقيقي.

6- ومخالفة ما ورد في الشعر الجاهلي.

7- والاستخفاف بعقل القارئ، وغياب المنهج العلمي الحقيقي.

8- وإضفاء صفة العلمية والحقيقة على افتراضات وتصورات مزاجية تجنح وفق هوى المؤلف.

9- والانطلاق من أفكار الماركسية ومبادئها، وليّ آيات القرآن الكريم للتعبير عن معطيات ماركس.

10- وإقحام علم الرياضيات واستخدام ألفاظ العلم والتكنولوجيا لغرض الإرهاب العلمي ومصادرة الأفكار.

11- وبناء نظرية فقهية على أسس فاسدة، ومقدمات باطلة علميًّا ومنطقيًّا ولغويًّا.

12- ووضع النتائج قبل المقدمات.

13- وعدم التوثيق، وانعدام المرجعية مطلقًا، وعدم مراعاة أبسط قواعد منهجية البحث العلمي الدقيق المتبع في جميع البحوث العلمية التي تسند لنفسها اكتشاف الحقيقة وتقديمها للقارئ؛ فالكتاب رغم ضخامته إلا أن المؤلف لم يذكر مرجعًا واحدًا على طول الـ 819 صفحة!

انحرافات محمد شحرور في التفسير، ولنا معه وقفات عدة:

- الوقفة الأولى: تقسيمه آيات القرآن إلى ثلاثة أقسام، والغرض من ذلك:

يرى شحرور أن القرآن؛ من حيث الآيات، ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

1 – الآيات المحكمات: وهي التي تمثل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد أطلق الكتاب عليها مصطلح: (أم الكتاب)، وهي قابلة للاجتهاد حسب الظروف الاجتماعية والاقتصادية، ما عدا العبادات والأخلاق والحدود.

2 – الآيات المتشابهات: وقد أطلق عليها الكتاب مصطلح: (القرآن والسبع المثاني)، وهي القابلة للتأويل، وتخضع للمعرفة النسبية، وهي آيات العقيدة.

3 – آيات لا محكمات ولا متشابهات: وقد أطلق عليها الكتاب مصطلح: (تفصيل الكتاب).

ويرى شحرور أن التحدي للناس جميعًا بالإعجاز، إنما وقع في الآيات المتشابهات (القرآن والسبع المثاني)، وفي الآيات غير المحكمات وغير المتشابهات (تفصيل الكتاب)، أما الآيات المحكمات فلا إعجاز فيها(8).

     ثم يبين بوضوح غرضه من هذا التقسيم ويقول: «لقد تبين لنا أن هناك فرًقا جوهريًّا بين الكتاب والقرآن والفرقان والذكر؛ فالقرآن والسبع المثاني هما الآيات المتشابهات، ويخضعان للتأويل على مر العصور والدهور؛ لأن التشابه هو ثبات النص وحركة المحتوى، وقد تم إنزال القرآن بشكل متشابه عن قصد، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم  ممتنعًا عن التأويل عن قصد، أي: أن القرآن يؤوَّل ولا يفسَّر، وأن كل تفاسير القرآن تراث يحمل طابع الفهم المرحلي النسبي»(9).

يتضح من خلال هذا النص ما يلي:

تقسيم محدَث

1- هذا التقسيم الذي أورده شحرور محدَث، والغرض منه: التوصل إلى قابلية النصوص للتأويل غير المنضبط، وإلا فأهل العلم يقسمون الآيات القرآنية إلى محكم ومتشابه، ولا وجود لقسم ثالث، قال -تعالى-: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (آل عمران: 7).

     يقول الميداني: (لقد اخترع هذا التقسيم العجيب الغريب لكتاب الله من عند نفسه، ليمرر مفترياته على كتاب الله المنزل على رسوله كما يهوي أساتذته الملاحدة الماركسيون، والقرامطة الباطنيون الإباحيون، وليس لتقسيماته هذه أسانيد عقلية ولا تطبيقية صحيحة، وحيلته كما شهدنا حركات بهلوانية ادعائية، وألاعيب لغوية، واستنباطات تحريفية خرافية، وقد تظهر في بعضها لوثات فكرية، نظير اللوثات الفكرية التي تظهر في عبارات نزلاء مستشفيات الأمراض العقلية)(10).

الآيات المتشابهات

 2- قول شحرور: «إن التحدي للناس جميعًا بالإعجاز إنما في وقع الآيات المتشابهات (القرآن والسبع المثاني)، وفي الآيات غير المحكمات وغير المتشابهات (تفصيل الكتاب)، أما (الآيات المحكمات) فلا إعجاز فيها».

هذا جهل وتجاوز للحقيقة، ونص صريح بأن القرآن ليس كله معجزًا، ومخالفة لا مسوغ لها، بل تناقض مع آيات التحدي التي لم يفرق فيها بين قرآن وقرآن، أو بين سورة وسورة، بل جاء التحدي عامًّا(11).

آيات العقيدة

3- إدخاله آيات العقيدة في المتشابهات أمر في غاية الخطورة؛ إذ من المناسب في جانب العقيدة التي يريد الله من عباده أن يعتقدوها أن تكون في غاية الوضوح والظهور، لا أن تكون من المتشابهات! فالله -سبحانه- يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر(12).

الآيات المحكمات

4- الآيات المحكمات التي يعرّفها بأنها الأحكام: «التشريع من إرث وعبادات، والأخلاق والمعاملات والأحوال الشخصية والمحرمات» فهذه جعلها (الرسالة).

ثم أورد سؤالًا حتى يوضح تقسيمه، فقال: «فإذا سأل سائل: هل آية الإرث من القرآن؟ فالجواب: لا، هي ليست من القرآن (النبوة)، ولكنها من أم الكتاب (الرسالة)، وهي من أهم أجزاء الرسالة وهو الحدود».

     نفيه إطلاق اسم (القرآن) على آية الإرث خطأ ظاهر؛ فإن الله أطلق التحدي على إعجاز آيات القرآن بلفظ القرآن؛ فمن نفى تسمية شيء من آيات القرآن بالقرآن؛ فقد نفى عنها الإعجاز؛ فهل يقول شحرور بأن آية الإرث غير معجزة، وأنه يمكن لأحد أن يأتي بمثلها؟!

      لا تتعجب إذا علمت أن الجواب هو: نعم!! فشحرور يرى أن الإعجاز والتحدي إنما هو في قسمين فقط من تقسيماته، لا ثلاثة! قال: «ونحن نرى أن التحدّي للناس جميعًا بالإعجاز إنما وقع في الآيات المتشابهات (القرآن والسبع المثاني)، وفي الآيات غير المحكمات وغير المتشابهات (تفصيل الكتاب)؛ حيث إن هذين البندين يشكلان نبوة محمد[»(13).

-----------------------------

(المراجع)

(1) انظر في شروط المفسر: الإتقان للسيوطي (4/ 200-230)، المنار في علوم القرآن، د. محمد الحسن (250-259)، بل لا يخلو كتاب من كتب علوم القرآن من التعرض لأبواب لها علاقة بالمفسِّر وشروطه.

(2) أعلام الموقعين (2/ 164).

(3) ينظر: الروح (1/ 183-184).

(4) انظر: الاتجاه اللغوي المنحرف في التفسير في العصر الحاضر، عبد الله إبراهيم المغلاج. رسالة دكتوراه – جامعة أم درمان الإسلامية.

(5) ينظر للتوسع:

1- الاتجاه العلماني المعاصر في دراسة السنة النبوية دراسة نقدية، غازي محمود الشمري، دار النوادر.

2- الاتجاهات العقلية المعاصرة في دراسة مشكل الحديث النبوي تحليلًا ونقدًا، محمد رمضان أحمد، مركز البيان للبحوث والدراسات.

(6) انظر: ضوابط التأويل لنصوص القرآن والسنة، د. يحيى رضا جاد، مجلة المسلم المعاصر، منشور في العدد 150.

 (7) انظر: الإشكاليات المنهجية في الكتاب والقرآن، السيد ماهر المنجد (ص: 178).

(8) انظر: الكتاب والقرآن (ص: 37).

(9) الكتاب والقرآن (ص: 37).

(10) التحريف المعاصر في الدين، عبد الرحمن حبنكة (ص: 59).

(11) انظر: القرآن وأوهام القراءة المعاصرة، عفانة (ص: 21).

(12) موقف د. محمد شحرور من أركان الإيمان، بدر ناضرين (ص: 13).

(13) انظر: موقف د. محمد شحرور من أركان الإيمان، بدر ناضرين (ص: 14).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك