محاضرات منتدى تراث الرمضاني الرابع – أسس النهوض بالأمَّة ومقوماته
- ارتبط النهوض بالأمة بكلمة جامعة وهي الخير ومن ثم فأمتنا تنهض بدعوتها إلى الخير ونشر الفضائل والحسنات وباعتنائها بالمصالح والضرورات
- الموصلي: لا سبيل للاجتماع على هذا الدين الحق إلا بأمرين: أولهما التمسك به وثانيهما ترك التفرق عنه
- من المقومات المهمة للنهوض بواقع الأمة تحكيم النظرة الشمولية للإسلام والدين وأن نرجع إليه جميعه لا أن نرجع إلى ما نهوى وندع ما لا نهوى
- إذا اجتمعت الفُرقة والاختلاف وسادت الغفلة في الأمة ظهرت نتيجة خطيرة وهي الفوضى
- المطلوب منا الاعتناء بجانب العلم والاعتناء بالإيمان والإخلاص ثم نأخذ بالأسباب
- إصلاح القلب إصلاح للخواطر والعقائد والإرادات والنيات والعزائم
- إذا كان الناس في الأمة يتصفون بالجهل وإيمانهم ضعيف مبني على التسويف والكسل فستكون الأمة في غاية الضعف
- من منطلقات الفهم الصحيح بواقع أمتنا أن تسعى دائما إلى تعميق الفهم الدقيق والصحيح في تحصيل المصالح ودفع المفاسد
- لا يمكن للأمة أن تنهض من غير تصحيح المفاهيم من غير وجود ثقل في الدين من غير حكمة من غير بصيرة من غير إدراك دقيق من غير تقدير للمصالح
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طريق شرعي لنشر الخير وأول أسباب منطلقات الأمة والنهوض بها
ما زلنا نستعرض معًا محاضرات منتدى تراث الرمضاني الرابع؛ حيث المحاضرة السادسة والأخيرة من محاضرات هذا المنتدى التي كانت بعنوان: (أسس النهوض بالأمَّة ومقوماته) التي قدمها مستشار الوقف السني في مملكة البحرين الشيخ: فتحي الموصلي، الذي أكد -في بداية محاضرته- أن المنتدى الرمضاني السنوي يتناول موضوعات مهمة لها ارتباط بواقع الأمة وما يتعلق بأسباب النهوض، ولا سيما موضوع المحاضرة الذي يتعلق بالأسس والمقومات المهمة في نهوض الأمة.
وفي هذا اللقاء الرمضاني أحب أن ابتدئ هذا الموضوع بمقدمة مهمة، وهي مقدمة قرآنية ونحن في شهر القرآن، الله -تبارك وتعالى- في سورة آل عمران بيّن الأسس والمقومات لنهوض الأمة في جميع الأزمان، وذكر ذلك بسياق قرآني متدرج قال -تعالى-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}، ثم ذكّرهم بنعمته عليهم، وأمرهم بالاعتصام، وهو افتعال من العصمة ومن التمسك ومن الالتزام المنطلق ببناء الأمة وبوجودها وأن يعتصم أفرادها جميعا بلا استثناء بحبل الله وهو الإسلام، وهو لا إله إلا الله، وهو الدين الحق، وهو منهج أهل السنة والجماعة، أن يعتصموا به اعتصاما تاما.قاعدة مهمة لنهوض الأمة
والاعتصام هنا معناه التمسك، الله -تعالى- لم يأمرهم بالاجتماع المجرد، وإنما أمرهم بالتمسك بهذا الدين وبالاجتماع عليه؛ لأنه لا سبيل للاجتماع على هذا الدين الحق إلا بأمرين: أولهما بالتمسك به، وثانيهما بترك التفرق عنه؛ لهذا قال: {ولا تفرقوا}، وهذه قاعدة مهمة لنهوض الأمة، وهي قاعدة لنجاتها ولعلوها ولاستقرارها وثباتها.الدعوة إلى أمور ثلاث
ثم أمرهم -سبحانه- بأمر آخر فقال -تعالى مخاطبًا الأمة: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}، وأمرهم أيضا بأمور ثلاثة: أولها الدعوة إلى الخير، وإلى الإسلام، وإلى الإيمان، وإلى الإحسان، وإلى الدين الحق، والدعوة إلى أحكام الشريعة، وإلى أصولها، وإلى قواعدها، وإلى خصائصها، وإلى آدابها، وإلى أخلاقها، وإلى مميزاتها، وهذا معنى {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ}، الاسم هنا جامع لكل خير جاء به هذا الدين.الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ثم أمرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فهو طريق شرعي لنشر هذا الخير، ثم بعد ذلك في سياق القرآن جاءت آية أخرى، لماذا أمرت هذه الأمة بالدعوة إلى الخير، وأن أول منطلقاتها وأول مقوماتها أنها تكون أمَّة تدعو للإسلام والإيمان والإحسان. لماذا؟ الجواب في ترتيب الآيات في آية ثالثة أيضا فيها خطاب للأمة، قال {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، ثم وصف هذه الأمة بالخيرية، أي هي خير الأمم. ما صفاتكم؟ ما أفعالكم؟ تتلخص في أمور ثلاثة: تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله، أي أن المنطلقات التي تنطلقون منها والمقومات التي تنهضون بها مبنية على الإيمان بالله، فأمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر منطلق من إيمانكم بالله، ومن توحيدكم، ومن صحة عقيدتكم، ومن فهمكم لدينكم.مقومات لوجود الأمة
إذًا هذه الآيات القرآنية الثلاثة {واعتصموا بحبل الله جميعا}، {ولتكن منكم أمة} ثم الآية «كنتم خير أمة» كلها منطلقات وأسس ومقومات لوجود الأمة ولديمومتها ولنهوضها ويقظتها، وهي ملخصة بأن هذه الأمة هي أمة الدعوة إلى الخير، هي خيرية أي أفضلية، وهي تدعو إلى الخير، إذًا ارتبط النهوض بالأمة بكلمة جامعة وهي الخير، ومن ثم فكأن واقعنا وكأن ديننا مكون ومرتب من كلمتين، الخير والشر، الحسنات والسيئات، المصالح والمفاسد، أمتنا تنهض بدعوتها إلى الخير، بعملها على نشر الفضائل والحسنات، وباعتنائها بالمصالح والضرورات.حديث عظيم
وننتقل بكم بعد هذه المقدمة القرآنية إلى حديث عظيم ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عن ابن عمر -رضي الله عنهما- في السنن بإسناد صحيح يقول النبي مخبرا عن واقع سيقع وعن أثر لهذا الواقع، وعن مخرج ودواء لهذا الواقع، وما أجمل أن يأتي في الحديث بيان للواقع وذكر للواجب! وما أجمل أن يأتي في الحديث ذكر للداء مع ذكر للدواء! يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا تبايعتم بالعِينةِ، وأخذتم أذنابَ البقرِ، ورضيتم بالزرعِ، وتركتم الجهادَ، سلط اللهُ عليكم ذُلًّا، لا ينزعُه شيءٌ حتى ترجعوا إلى دينِكم»، وهذا حديث عظيم فيه فائدتان أو منطلقان:الفائدة الأولى
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر آثار أنه سيصير بكم الواقع والحال إلى تبايع بالعينة وهي نوع من الربا، والأخذ بأذناب البقر أي الحرث والانشغال بالدنيا، والرضا بالزرع وترك الجهاد، هذه أحوالكم هي آثار وأعراض، وهذه الآثار والأعراض وقعت بسبب أسباب واختلال في الأمة في الأفراد والجماعات. كانت النتيجة أن الجزاء من جنس العمل، النتيجة أن الله -تعالى- سلّط عليهم ذلا، ولسان الحال أبلغ اليوم من لسان المقال، هذا الذل جعل هذه الأمة أمة ضعيفة مسلوبة منهوبة، ولكن هذا الذل بهذا الوصف لا يُرفع ولا يزول حتى ترجعوا إلى دينكم، هذا المنطلق الأول والفائدة الأولى.الفائدة الثانية
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما ذكر العلاج لم يقل حتى تتركوا الربا، وحتى تتركوا التعلق بالدنيا، وحتى تجاهدوا وتقاتلوا، لا، وإنما أعطاهم حلا شاملا فقال: حتى ترجعوا إلى دينكم، وكأنكم كنتم قد فارقتموه وتركتموه وأعرضتم عنه، إذًا الحل في رجوعكم الصادق إلى دينكم، وهنا لم يقل إلى بعض دينكم؛ لأن جملة حتى ترجعوا إلى دينكم، دينكم نكرة مضاف يفيد العموم، أي إلى جميع أحكام دينكم.فائدة في واقع أمتنا
وهنا فائدة في واقع أمتنا اليوم، أن كل طائفة وكل فئة من المسلمين تعتني بجانب معين وتغفل عن جوانب كثيرة، إذًا هي لم ترجع إلى الدين وإنما رجعت إلى بعض الدين، والحديث يقول لا يرفع هذا الذل المسلط علينا ولا يزول، إلا أن نرجع إلى جميع ديننا الحق.تحكيم النظرة الشمولية
اليوم أيضا من المقومات ما جاء ذكره في الآيات أن الخروج من هذا الذل والنهوض بواقع الأمة لابد من تحكيم النظرة الشمولية للإسلام والدين، أي لابد أن نعتقد أن كل ما جاء به الدين نحن نحتاج إليه، وينبغي أن نرجع إلى جميعه لا أن نرجع إلى ما نهوى وندع ما لا نهوى، وهذا معنى أن كل طائفة من الناس ترجع إلى جزء من الدين لا ترجع إلى كله، ومن هنا وقع الخلل.جُمَل نسمعها كثيرًا
قد يقول قائل موضوع النهوض بواقع الأمة الأسباب والمقومات والمنطلقات، هذه جمل نسمعها كثيرا والأجوبة عليها عامة، اليوم المريض لا يحتاج أن يقال له: داري صحتك، لا هذه كلمة عامة، هو يحتاج إلى خطوات عملية في معالجة نفسه، لهذا أريد أن أشخّص لكم الطرائق العملية للنهوض بواقع الأمة، حتى لا تكون المحاضرة مجرد أمور عامة، وقد تكون تنظيرية أحيانا أكثر مما هي عملية أو تطبيقية، هنا سأنتقل إلى الجو التحليلي كما يفعل الطبيب ويطلب من المريض تحليل مختبري فيه تفصيل، وعلى ضوء النقص أو الزيادة الموجودة في تركيبة هذا التحليل وفي محتوياته يتم تشخيص الداء ثم وصف الدواء، وسأنطلق من محاور ثلاثة في الحل بالنهوض بواقع الأمة.المحور الأول: معايير التقييم الأساسية
معايير التقييم الأساسية في حياة الدين والأمة ثلاثة: الحجة والعلم أولا، الإرادة والإيمان ثانيا، القدرة والسلطان ثالثا، إذًا عندنا أمور ثلاثة تقيّم الأمة في نهوضها ووجودها ورسالتها، أولا تنهض الأمة بالحجة والعلم، ثانيا تنهض الأمة بالإرادة والإيمان، ثالثا تنهض الأمة بالقدرة والسلطان. هذه الثلاثة لم توجد جميعا مرة واحدة إلا في العهد المدني، في عهد الخلافة الراشدة، ثم بعد الخلافة الراشدة إما الحجة تنتقص، إما الإرادة والإيمان يضعف، إما القدرة والسلطان يضعف، في العهد المكي كان موجودا منها الحجة والعلم، والإرادة والإيمان، أما القدرة فتكاد تكون معدومة أو ناقصة أو ضعيفة، أما في العهد المدني اجتمعت الثلاثة. إذًا النهوض يبدأ من هنا؛ لأنه حتى أفهم الخلل الموجود في واقع الأمة لابد أن أشخّص المرض على ضوء هذه الثلاثة، وهنا يكون الخلل إما من جهة الحجة والعلم وهو ظهور الجهل، وإما من جهة الإرادة والإيمان وهو التسويف والكسل، وإما من جهة القدرة والسلطان وهو العجز.موانع النهوض وأسبابه
إذًا فهناك موانع من النهوض وأسباب تؤدي إلى المرض، والجهل، والكسل، والعجز، إذا كان الناس في الأمة يتصفون بالجهل وإيمانهم ضعيف مبني على التسويف والكسل، إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، وعندهم عجز بالحفاظ على وجودهم أو في نشر دعوتهم أو في التصدي لأعدائهم، فستكون الأمة في غاية الضعف.أمران خطيران
أمران خطيران يصلان بالمريض إلى مرحلة القرب من الموت، أولا: الفرقة والاختلاف، ثانيا: الغفلة؛ لهذا قال الله -تعالى-: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}، هذا مشتت، فإذا اجتمعت الفُرقة والاختلاف وسادت الغفلة، ظهرت نتيجة خطيرة وهي «الفوضى»، هنا التقرير واضح وهذا الذي يجري الآن في واقع أمتنا.أين الحل؟
إذًا أين الحل؟ هنا الحل كما قال الله -تعالى-: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ}، هذا هو النموذج، الله -تعالى- يذكّر نبيه ويقول: انظر في سيرة عباد الله الذين حققوا العبودية والإخلاص والإيمان، وأخلصهم الله بخالصة ذكرى الدار، {أولي الأيدي} في قوة وقدرة، «والأبصار» في علم وحجة، هذا الكمال، هذا المثال، هذا الحل، هذا الدواء الذي يكون معيارا لنهوض الأمة في واقعها العملي، والقاعدة هنا تقول: إن المنطلقات والمقومات في النهوض تبدأ من الحجة والعلم، من الإرادة والإخلاص والإيمان، ومن القدرة.العلم والإيمان والإخلاص
إذًا المطلوب منك الاعتناء بجانب العلم، والاعتناء بإيمانك وإخلاصك، ثم خذ بالأسباب، {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} خذ بالأسباب، احفظ المكاسب، طوّر نفسك في مجال القدرة، استفد من المكاسب، لكن عندما تكون عاجزا في القدرة، كسولا في الإرادة، جاهلا في الحجة، وأنت في فرقة سبّبت لك غفلة فأنت تعيش في فوضى، يقال له: لا سبيل لعلاجك حتى ترجع إلى دينك؛ لهذا أي داعية اليوم، وأي مؤسسة لابد أن تبدأ من هذه المنطلقات والمقومات التي ذكرتها، هذا المحور الأول.البدايات والمنطلقات
أيضا هذا المحور يُفضي بي إلى تقسيم البدايات والمنطلقات إلى ثلاثة: الباطن والظاهر والقائم؛ عليك أن تبدأ من الباطن من القلب ثم أصلح الظاهر ثم احفظ القائم، وهذه منطلقات قرآنية. المؤمنون لما تطلعوا للتغيير أخبرهم الله -تعالى- بقاعدة التغيير القرآني التي لا تتخلف، وهي «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، والإشارة بليغة، «إن الله لا يغير ما بقوم» على العموم أي قوم فهذه قاعدة سنة ثابتة لكل الناس، أبدأ التغيير بنفسك، بواقعك، المنطلق يبدأ من الداخل، تبدأ بتغيير نفسك، أي في داخلك ثم تغيير واقعك وظاهرك، ثم إصلاح ما هو قائم على الأرض.عوامل إصلاح القلب
فإذا أردت أن تصلح فابدأ بالقلب بالباطن، أصلح الأمور التالية: إصلاح الخواطر، إصلاح العقائد، إصلاح الأفكار، إصلاح الإرادات، إصلاح النيات، إصلاح العزائم، كل هذا عمل في الداخل، أصلح خواطره وأفكاره، العقيدة التي عنده، إرادتك، نيتك، عزيمتك؛ لأنه لا يَصلُح الظاهر إلا بإصلاح الباطن. ثم بعد ذلك يبدأ إصلاح الظاهر، وإصلاح الظاهر يكون بإصلاح الكلمة، وإصلاح الطاعة، وإصلاح العبادة، وإصلاح الأسرة، وإصلاح الصحبة، وإصلاح الأخوة. ثم يأتي إصلاح القائم، وإصلاح الإدارة، وإصلاح السياسة، وإصلاح الدولة، وإصلاح الأمة، وإصلاح الحضارة، وهذه مرتبة ثالثة، وهذا هو معنى منطلقات الإصلاح في الآية {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}، أما أن يأتي أحدهم ويريد أن يغير الواقع بالمظاهرات والسياسات ويتجاوز كل هذا ! فليس هذا من مقومات النهوض، هذا من أسباب الهبوط، وهذا ليس فيه يقظة بل انتكاسة.المحور الثالث: من يقوم بالإصلاح ويبادر إليه ويحفظه؟
هنا ننتقل إلى المحور الثالث، بعد أن تكلمنا بالحجة وتكلمنا في الإرادة والإيمان، وتكلمنا في القدرة، وانتقلنا إلى إصلاح الباطن، ثم إصلاح الظاهر، ثم إصلاح القائم بتدرج. لابد من وجود من يُكلّف وهذا معنى قوله -تعالى-: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ}، فليس كل واحد يستطيع أن يدعو إلى الخير، ولا أي واحد يأمر بالمعروف، ولا أي واحد ينكر المنكر، إذًا فمن هو صاحب التكليف الذي يباشر هذه المهام العظيمة؟ الذي يُكلف بهذا الإصلاح وتنطلق منه هم ثلاثة: العالم والحاكم والمربي، هؤلاء الثلاثة على كاهلهم القيام بنهوض الأمة؛ ولهذا هؤلاء هم القدوات. اليوم العمل على إسقاط القدوات، الطعن على العلماء، والخروج على الحكام، والاستخفاف بالمربين؛ لأنه إذا سقط هؤلاء فلا وجود لمقومات الأمة ولا طريق لنهوضها.إسقاط هؤلاء الثلاثة
إذًا العمل اليوم بقصد أو دون قصد يجري على إسقاط هؤلاء الثلاثة، بعض المنتسبين للعلم يظن أنه لا يكون عالما ربانيا إلا إذا تكلم في الحكام، والمربي أحيانا لا ينتفع بعلم العالم ولا بنظام الحاكم؛ لهذا وجود هؤلاء الثلاثة في الأمة وجود ضروري، وبعضهم يكمل الآخر. هؤلاء الثلاثة إذا أدى كل واحد منهم دوره في مجاله، بدأت الأمة في النهوض، العالم في التعليم، والحاكم في الولاية والعدل، والمربي يربي الناس، سواء كان المربي إماما أم واعظا أم خطيبا أم مدرسا أم أبا أم أما أم ناصحا، أيا كان بدأت الأمة بالنهوض، هؤلاء الثلاثة يقومون على أن المربي يجتهد على إصلاح باطن الناس، والعالم يصلح ظواهر الناس وأيضا بواطنهم، والحاكم يصلح الأمر القائم، إصلاح الإدارة، وإصلاح المؤسسة، وإصلاح السياسة، وإصلاح الأمة، وإصلاح الدولة، وإصلاح الحضارة، هذا دور الحاكم وليس دور طالب العلم مثلا يترك العلم والتربية وينشغل بالسياسة ليلا ونهارا! لكل دوره وواجباته، ودور العالم مع الحاكم المناصحة والإعانة، ودور الحاكم مع العالم المساندة والمؤازرة، ودور المربي أنه يربي الناس ليجعل لهم طريقا إلى العلماء، فالقضية مترابطة ترابطا شرعيا في عملية النهوض بواقع الأمة.خطوات التغيير
وقد يسأل سائل: إذا كان هذا هو الواقع، وهذه هي المقدمات والمنطلقات والأسس، فما الخطوة الأولى لهذه الأشياء؟ حتى نبدأ الخطوات العملية لهذا الباب لابد من أمرين:الخطوة الأولى: الإخلاص والاستعانة بالله
قال -تعالى-: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ}، {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا}، الاستعانة بالله وإخلاص العمل لله، لا نبتغي دنيا ولا مصلحة، لا تحزبات، وإنما العمل لله، حتى أن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كان يقول: الفتنة لا تزول إلا إذا كان الدين كله لله؛ لأن مفتاح النجاة، ومفتاح الوصول أن يكون عملك وقولك وفكرك وتوجيهك ومشاريعك، لله وبالله في طاعته، وهذا سهل ويسير على من يسره الله عليه لا يحتاج إلا مجاهدة وتعاهد النية، إذًا الخطوات العملية للنهوض بالأمة ليست صعبة ولا تحتاج تقنيات ولا افتراضات أو حلولا خيالية أو صدامات بشرية أو مشاريع وأطروحات تنظيرية، بل تبدأ بصلتك بالله.الخطوة الثانية: الفهم الصحيح للإسلام والدين
الاعتناء بتصحيح الفهم، لا يمكن للأمة أن تنهض من غير تصحيح المفاهيم، من غير وجود ثقل في الدين، من غير حكمة، من غير بصيرة، من غير إدراك دقيق، من غير تقدير للمصالح؛ ولهذا لما قال الله -تعالى-: {كنتم خير أمة}، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين»، أي تلك الخيرية المشار إليها في الآية لا تتحصل إلا بالفقه في الدين، الفهم الصحيح للإسلام مع هذه الأفهام السقيمة، وهذه المنازعات الكثيرة، والمهاترات العديدة لا يمكن للأمة أن تنهض، بل هي تراكمات بعضها فوق بعض، بينما أنت تحتاج إلى إخلاص النية في نهوضك إلى بصيرة وفهم في الدين. ثم تأتي الأمور بعد ذلك تحصيل حاصل وتوفيقا من الله؛ لوجود قاعدة كونية شرعية، سبحان الله! حركة الإنسان في هذا العالم كحركة الطفل في وجوده، الطفل الخطوة الأولى في المشي تعينه على الخطوة الثانية، العبد إذا خطا الأولى الثانية تأتي لا محالة، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم. المهم أن تبدأ بالخطوة الأولى، أن تصحح فهمك، فمن منطلقات الفهم الصحيح بواقع أمتنا أنك تسعى، دائما إلى تعميق الفهم الدقيق والصحيح في تحصيل المصالح ودفع المفاسد، فنحن نحتاج إلى فقهاء وعلماء وأذكياء، وإلى أصحاب أفهام يحسنون تحصيل المصالح والمكاسب للأمة ويدفعون المفاسد عنها، بلا عواطف وبلا اندفاعات وردود أفعال وإنما فقه أصيل ونظر سديد وفهم عميق، إذا سعيت في تحصيل مصلحة للأمة أو دفع مفسدة أو ضرر عنها، فإن لم يكن عندي بصيرة ولا فهم ولا نظر ولا عمق فكيف أحصل مصالح الأمة؟ وكيف أدفع الضرر عنها؟ وانظروا إلى هذه التحديات والنوازل التي قد أحاطتنا من كل صوب.
التعليقات
saudi cv
1 يوليو, 2024
This is gold!