رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ شريف الهواري 17 أبريل، 2023 0 تعليق

محاضرات منتدى تراث الرمضاني الثالث  – أثر الإيمان في بناء الشخصية المسلمة

                          

الإيمان من أهمّ عناصر بناء الشخصيّة الإسلاميّة ومقوّماتها، والإيمان هو العقيدة الرّاسخة في القلب، والتّصديق الجازم بوجود الله -تعالى- وعبادته وحده، ووصفه بصفاته الثابتة التي وصف -عز وجل- نفسه بها، من غير تكييفٍ، أو تعطيلٍ، أو تحريف، فضلا عن التّصديق برسوله - صلى الله عليه وسلم - وما أُرسِلَ به، والإيمان بأركانه كما وردت في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الإِيمانُ: أنْ تُؤمن بِاللهِ ومَلائِكتِه، وكُتُبِهِ، ورُسُلِهِ، واليومِ الآخِرِ، وتُؤمن بِالقَدَرِ خَيرِهِ و شَرِّهِ».

     من هنا كان تعميق الإيمان في القلوب الأساس في بناء الشخصية المسلمة؛ فمنه تتعمق القيم الفاضلة، والأخلاق الحسنة؛ فالقلوب هي المحركة للأبدان، ولا صلاح للعبد إلا بصلاحها كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ».

الإيمان بين مقامي الإسلام والإحسان

     الإيمان واسطة العقد بين مقامي الإسلام والإحسان، ووالله لن نستطيع الإذعان والتسليم والانقياد للإسلام ولما جاء به بإحسان إلا من خلال مقام الإيمان، ومن خلال عقيدة راسخة، قاعدة إيمانية صلبة قادرة على إعطائنا قوة الدفع الذاتية، والطاقة والوقود لنذعن للإسلام وما جاء به، ونؤدي ذلك بإحسان بين يدي المولى -تبارك وتعالى.

الإيمان قولٌ وعملٌ

     الإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل، قول اللسان وعمل الجوارح والأركان، وللإيمان أصل يزول بزواله وله كمال واجب وكمال مستحب، والإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، لذلك إذا نجحنا في تحقيق الإيمان وعمل حراك حقيقي له في قلوبنا، بفضل الله -تبارك وتعالى- سنستطيع من خلاله الثبات، والقدرة على البذل والتضحية والأداء المتميز، وبعون الله وتوفيقه سنؤدي الواجبات والحقوق في أمثل صورها.

تعريف الإيمان

     أجمل تعريف للإيمان وأقصره وأسهله ما ورد في حديث جبريل الأمين -عليه السلام- حينما جاء في صورة سائل ومُصدق ومُؤكد على إجابة النبي -عليه الصلاة والسلام-، قال: «.. قال: يا محمدُ، ما الإيمانُ؟ قال: الإيمانُ أن تؤمنَ باللهِ وملائكَتِه وكتبهِ ورسلهِ، وتؤمنَ بالجنةِ والنار والميزانِ، وتؤمنَ بالبعثِ بعد الموتِ، وتؤمنَ بالقدرِ خيرهِ وشرهِ، قال: فإذا فعلتَ هذا فأنا مُؤْمِن؟ قال: نعم. قال: صدقت..... الحديث»، لقد كانت دورة تدريبية للصحابة الكرام على أخصر معاني الإيمان، لذلك فالسؤال المهم الآن: هل يُكتفى على حفظ هذا المتن البسيط أو حتى متون الإيمان الأخرى أو أصول الإيمان وفقط؟ لا، ليس هذا هو المطلوب، وليس هذا هو الذي سيثمر الشخصية المسلمة المثالية الآسرة المؤثرة التي نرجوها جميعا.

تفعيل هذه المعاني

     لذلك لابد أن نتعلم كيف نقوم بتفعيل هذه المعاني في حياتنا، وتكون منهج حياة لنا؛ لتعطينا الطاقة والوقود وقوة الدفع الذاتية التي بها سنحتسب ونصبر، ونتحمل ونواصل، ونستمر ونبذل ونضحي ونعمل العمل المثالي الذي يكون مؤثرا في نفسه ومؤثرا -بعون الله وتوفيقه- في الآخرين، ولنأخذ بعض الأمثلة من أركان الإيمان الستة التي من خلالها نستكشف كيف تؤثر هذا الأركان في بناء شخصية المسلم بناءً متكاملا.

الإيمان بالله تبارك وتعالى

      الإيمان بالله -تعالى- هو الاعتقاد الجازم بأن الله رَبُّ كُلّ شَيءٍ ومَلِيكه، وأنَّه الخَالِق الرازق المُحْيِي المِمُيْت المُدَبِّر لِجمَيع الأُمور، وأنه المستحق لأنْ يُفْرَدَ بالعُبُودِيَّةِ والذَّلِ والخُضُوعِ وجَمِيعِ أَنواع العِبادة، وأنه المتصفُ بصفاتِ الكمال، المنزه عن كل عيبٍ ونقص، وهذا هو الأساس الأول الذي يَقُوم بِنَاء شَخْصِيَّةِ المُسْلِمِ عليه.

     وحتى نفعل هذا الركن في قلوبنا عليك أن تسأل نفسك: كيف تؤمن بوجود الله -تعالى؟ أي أين الأثر بوجوده في قلبك؟ هل لإيمانك بوجود المولى -تبارك وتعالى- أثر في قلبك وعلى جوارحك وأركانك؟ هل فعلا الإيمان بوجوده أوجد لديك قدرا من التعظيم والإجلال والتوقير والتقدير لهذا الرب الذي آمنت بوجوده -سبحانه وتعالى؟

مدرسة خُلقية وتربية نفسية

     إن الإيمان بالله -تعالى- مدرسة خُلقية، وتربية نفسية ذاتية، تجعل الإنسان يتمسك تلقائيا بالفضائل الخلقية، ويضرب أروع الأمثلة في الصبر والشجاعة والتضحية والأمانة والعفة، فكل خير وكل فضل في حياة الإنسان وأعماله ما هو إلا من ثمار كلمة التوحيد والإيمان بالله -تعالى-، قال الله -عزوجل-: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (إبراهيم: 24-25).

من ثمرات الإيمان بالله تبارك وتعالى

     ومن ثمرات الإيمان بالله -تبارك وتعالى- الطيبة الطمأنينة والرضى؛ فالمؤمن لا يكون بأي حال قنوطًا؛ لأن لديه العلم بأن الله هو مالك خزائن السموات والأرض، وبأن رحمته الواسعة لا حدود لها، هذا الإيمان يملأ قلبه رجاء وأملاً في رحمة الله وفضله، ومع أنه يصادف في الدنيا البؤس والحرمان والابتلاء، فإن الأمل والرجاء لا يفارقانه أبداً، وبقوة يمضى في حياته عاملاً متفائلاً، والكافرون محرومون من هذه النعمة؛ لذلك يسيطر عليهم اليأس، وغالبًا ما يؤدى بهم إلى الانتحار، والله -عزوجل- يقول: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (العنكبوت: 23).

لكل صفة عبودية خاصة

     قال الإمام ابن القيم: والأسماء الحسنى والصفات العلا مقتضية لآثارها من العبودية، فلكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها - أعني من موجبات العلم بها والتحقق بمعرفتها - وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي تقع على القلب والجوارح:

- فعلم العبد بتفرد الرب -تعالى- بالضر والنفع والعطاء والمنع والخلق والرزق والإحياء والإماتة، تثمر له عبودية التوكل عليه باطنًا، ولوازم التوكل وثمراته ظاهراً.

- وعلمه بسمعه -تعالى- وبصره وعلمه، وأنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات والأرض، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله، وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه فيثمر له ذلك الحياء باطناً، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح، ومعرفة غناه وجوده وكرمه وبره وإحسانه ورحمته توجب له سعة الرجاء، ويثمر له ذلك من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه.

- وكذلك معرفته بجلال الله وعظمته وعزته تثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة، وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعاً من العبودية الظاهرة هي موجباتها، وكذلك علمه بكماله وجماله وصفاته العلى يوجب له محبة خاصة بمنزلة أنواع العبودية، فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات، وارتبطت بها ارتباط الخلق بها.

آثار توحيد الربوبية وثمراته

     وللإيمان بربوبية الله -سبحانه وتعالى- آثار عظيمة، وثمرات كثيرة، فإذا أيقن المؤمن أن له ربّاً خالقاً هو الله -تبارك وتعالى- وأن هذا الرب هو رب كلِّ شيءٍ ومليكُه وهو مُصرّف الأمور، وأنه هو القاهر فوق عباده، وأنه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات والأرض، أَنِسَت رُوحُه بالله، واطمأنت نفسه بذكره، ولم تزلزله الأعاصير والفتن، وتوجه إلى ربه بالدعاء، والالتجاء، والاستعاذة، وكان دائماً خائفاً من تقصيره، وذنبه؛ لأنه يعلم قدرة ربه عليه، ووقوعه تحت قهره وسلطانه، فتحصل له بذلك التقوى، والتقوى رأس الأمر، بل هي غاية الوجود الإنساني، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «ذاق طعم الإيمان من رضي الله ربَّاً وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ رسولاً».

     ومن ثمراته أن الإنسان إذا علم أن الله هو الرزاق، وآمن بذلك، وأيقن أن الله بيده خزائن السماوات والأرض، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع قطع الطمع من المخلوقين، واستغنى عما بأيديهم، وانبعث إلى إفراد الله بالدعاء والإرادة والقصد.

     ثم إذا علم أن الله هو المحيي المميت، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن أمره كلَّه بيد الله انبعث إلى الإقدام والشجاعة غير هياب، وتحرر من رق المخلوقين، ولم يعد في قلبه خوف من سوى الله -عز وجل.

ثمرات الإيمان بالأسماء والصفات

     ومن ثمرات الإيمان بأسماء الله وصفاته أن العبد يسعى إلى الاتصاف والتحلِّي بها على ما يليق به، فالله كريم يحب الكرماء، رحيم يحب الرحماء، رفيق يحب الرفـق، فإذا علم العبد ذلك سعى إلى التحلي بصفات الكرم والرحمة والرفق، وهكذا في سائر الصفات التي يحب الله - تعالى -أن يتحلَّى بها العبد على ما يليق بالعبد.

     قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: وأحب الخلق إلى الله من اتصف بمقتضيات صفاته فإنه كريم يحب الكريم من عباده وعالم يحب العلماء، وهو -سبحانه وتعالى- رحيم يحب الرحماء وإنما يرحم من عباده الرحماء، وهو ستير يحب من يستر على عباده، وعفو يحب من يعفوا عنهم من عباده، وغفور يحب من يغفر لهم من عباده، ورفيق يحب الرفق وحليم يحب الحلم، ومن عامل خلقه بصفة عامله الله -تعالى- تلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة.

أثر الإيمان في بناء الشخصية المسلمة

     خلاصة القول في تأثير الإيمان على شخصية المسلم أن سلوك الإنسان وأخلاقَه وتصرفاتِه في الحياة انعكاس ومظهرٌ من مظاهر عقيدته في حياته الواقعية وممارساته اليومية، فإن صلَحت العقيدة الإيمانية صلَح السلوك واستقام، وإذا فسَدت فسد واعوجَّ، ومن ثَمَّ كانت عقيدة التوحيد والإيمان بالله ضرورةً، لا يستغني عنها الإنسان؛ ليستكمل شخصيته، ويحقق إنسانيته، وقد كانت الدعوة إلى عقيدة التوحيد أول شيء قام به الرسول - صلى الله عليه وسلم - لتكون حجر الزاوية في بناء الأمة المسلمة.

الفضائل الإنسانية العليا

     وإذا سيطر الإيمان الصافي على النفس، أثمر الفضائل الإنسانية العليا، فتسمو النفس عن الماديات الوضيعة، وتتَّجه دائمًا نحو الخير والنبل، والنزاهة والشرف، ويتخلق صاحبُها بالشجاعة والكرم، والسماحة والطمأنينة، والإيثار والتضحية، وكذلك فإن سوء الخُلق دليل على ضعف الإيمان؛ ولذلك فقد ربط الإسلام بين الإيمان والسلوك ربطًا قويًّا، ونلاحظ ذلك في نصوص كثيرة مثبتة في الكتاب والسنة، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن كان يُؤمِنُ بالله واليوم الآخر فليُكرِمْ ضيفه، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليَقُلْ خيرًا أو ليصمت»؛ رواه البخاري، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنُهم أخلاقًا»، رواه الترمذي وأبو داود، وعن عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما - قال: لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم - فاحشًا ولا متفحِّشًا، وكان يقول: «إن من خياركم أحسنَكم أخلاقًا» رواه البخاري.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك