رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي 3 أبريل، 2023 0 تعليق

محاضرات منتدى تراث الرمضاني الثالث 1- أثر القرآن الكريم في تعزيز القيم الأخلاقية

إنّ من أهمّ ما دَعا إليه القرآن الكريم تهذيب الأخْلاق، فقد أثنى اللهُ -تعالى- في كتابه الكريم على مَنْ زكى نفسه وأصلحها بمكارم الأخلاق ومحاسنها، في مواضع عدة؛ حيث قال -تعالى-: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} الشمس. كما أثنى على نبيه الكريم بحُسْن الخُلق في قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} القلم، وحصر النبي - صلى الله عليه وسلم - الغاية من بعثته الشريفة: إتمام مكارم الأخلاق، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق». رواه أحمد. وغير هذه من الأدلة الكثيرة التي تحدثت عن الأخلاق، وهو ممّا يدل على أنّ من أهم ما يدعو له ديننا الحنيف: هو حسن الخُلق، الذي به تَسمو النفوس، ويترابط به أفراد المجتمع المسلم.

     وكان العرب يتميزون بجملةٍ من الأخلاق الجميلة، كالكرم والشجاعة والسخاء ونصرة المظلوم، ولكن كان فيهم نقصٌ يحتاج إلى تكميل، وأعظم ذلك النقص الوقوع في الشرك، فإن الشرك ظلمٌ عظيم كما وصفه الله -عز وجل-، فالمشرك جاحدٌ لإحسان ربه، وجحود الإحسان من مساوئ الأخلاق، فكيف إذا كان هذا الإحسان من الله- تبارك وتعالى- للعبد، فيجحده العبد ويجعل شكر تلك النعم لغيره، أو يستعين بها على معصية خالقه ورازقه -سبحانه وتعالى.

حُسن الخُلق غاية عظيمة

     فلا عجبَ إذًا أن يكون حُسن الخلق غاية عظيمة من غايات بعثة الرسل، والله -تبارك وتعالى- قد أثنى على أنبيائه ورسله بجملةٍ من الأخلاق الحسنة، وأجمل ذلك في قوله -سبحانه وتعالى- في سورة الأنبياء لما ذكر الله جملة من الأنبياء: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} الأنبياء.

أما إمام الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - فكان كما قال عنه ربه -عز وجل-: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} القلم.

     وهو - صلى الله عليه وسلم - كان يتخلّق بأخلاق القرآن، التي أمره الله -تعالى- بها، حتى إنّ سعد بن هشام لما سأل عائشة -رضي الله عنها- فقال: يا أم المؤمنين، أخبريني عن خُلُق النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالت له: ألستَ تقرأ القرآن؟! قال: بلى، قالت -رضي الله عنها-: كان خلقه القرآن. متفق عليه.

     كان خلقه القرآن يعني أنّ كل ما يأمره الله -تعالى- به في القرآن، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعملُ به، ويتأدبُ بآدابه، ويقف عند حدوده، فمن أراد أن يعرف خُلُق النبي - صلى الله عليه وسلم - فليقرأ القرآن.

     ومع هذا فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينفك يدعو ربه -عز وجل- في قيام الليل، في ساعات الإجابة، أنْ يوفقه لحُسن الخُلق، فيقول: «اللهم اهْدني لأحسنِ الأخْلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرفْ عني سيّئها، لا يصرفُ عنّي سيئها إلا أنت». مع أنه -صلى الله عليه وسلم - نبيٌ معصوم، إلا أنه كان يدعو ربه بهذا الدعاء، ويبتهل إليه أن يهديه لأحسن الأخلاق، وأكرم الشيم.

القرآن يهدي لمكارم الأخلاق

     والله -سبحانه وتعالى- قد أثنى على كتابه وبيّن أن هذا القرآن العظيم يهدي لمكارم الأخلاق، قال -سبحانه وتعالى-: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} الإسراء.

     هذا القرآن القريب منّا، والذي هو بين أيدينا، ويُتلى علينا ونقرؤه، الله -تعالى- يقول لنا: هذا القرآن يهدي، أي يدل ويرشد، إلى أقرب الطرق، وأحسن الأخلاق في جميع الأوجه، يهدي للتي هي أقوم في العقيدة، الإنسان يأخذ العقيدة الصحيحة الصافية من كتاب الله -عز وجل-، ويهدي للتي هي أقوم في العبادات، يهدي للتي هي أقوم في الأخلاق والسلوك، ويبشر المؤمنين الذين يؤمنون به إيماناً صحيحاً صادقاً فيه الاتباع الكامل، بأن لهم أجرا عظيما ينالونه في الآخرة.

القرآن وتعزيز القيم وتزكية النفوس

     فالقرآن العظيم سببٌ عظيم في تعزيز القيم وتزكية النفوس، لأنّ الله -تبارك وتعالى- قد أوضح فيه وبيّن جميع الأخلاق الحَسنة، التي يُحبها -عز وجل- ويرضاها، ولا يُمكن للإنسان أنْ يتقرب إلى الله -عز وجل- بمثل أن يأتمر بأوامره -سبحانه وتعالى-، وينزجر عن زواجره، وهذه هي التقوى، التي تكرّر الأمر بها في القرآن بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ}، وذكر محبته -سبحانه وتعالى- للمتقين، فأهل التقوى هم الذين يأتمرون بأوامر الله -عز وجل- يرجون ثوابه، ويتركون ما حرم الله -عز وجل- يخشون عقابه، وصفة التقوى هي رأس الأخلاق ورأس الحكمة، فمن اتقى الله -عز وجل-؛ فإنّ جميعَ الأخلاق الحسنة سيمتثلها، مؤتمراً بأمر الله -سبحانه وتعالى-، ولذلك الله -سبحانه وتعالى- يذكر الأخلاق الحسنة بعد الإيمان والإذعان لله -عز وجل- بالإسلام، فعند ذلك تأتي الأخلاق الحسنة التي يحبها الله -سبحانه وتعالى- ويرضاها من المؤمنين.

الصفات التي يحبها الله -عز وجل- من عباده

     في آيةٍ كريمةٍ جامعة لجملة من الصفات التي يحب الله -عز وجل- من عباده أنْ يتخلقوا بها، بل يجب على المسلمين أن يكونوا كذلك، يقول -سبحانه وتعالى-: {إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ وَالمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ}؛ فبدأ بالتذكير بالإسلام وبالإيمان، أي: يا من آمنت بالله -سبحانه وتعالى- ربّاً، وبرسوله نبياً، ورضيت بالإسلام ديناً، انتبه إلى هذه الصفات، التي يجب أن يتحلّى بها المؤمن، وينقاد لها المسلم: {إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ وَالمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ وَالقَانِتِينَ وَالقَانِتَاتِ}، والقنوت هو دوام الطاعة ودوام الانقياد لله -سبحانه وتعالى-، {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} الصدق خُلق عظيم، الصدق مع الله -عز وجل- أولاً بالإخلاص، فلا يرجو إلا وجْه الله في أعماله، والصدق مع الناس ومع الخَلق في التعامل، {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} خُلق الصبر، وهو ثلاثة أنواع: صبرٌ على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله، {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} صفة لهم في صلواتهم وعباداتهم، بل في حياتهم كلها الخشوع والهدوء والسّكينة والبُعد عن اللّغط وعن اللغو والرفث، {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} التصدق على الضعفاء والفقراء ومواساتهم، {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} يصوم طاعة لله عن الطعام والشراب وعن محارم الله، {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} يحفظ نفسه وفرجه عن ما حرّم الله من الفواحش، {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}. فهذه جملة مباركة من الصفات التي يحبها الله -سبحانه وتعالى- ويرضاها منْ خلقه، ويريد منّا أنْ نتخلّق بها.

 أداء الأمانات

     ومن الصّفاتِ التي نوّه القرآن الكريم بها: أداء الأمانات، أنْ يكون الإنسانُ أميناً مُؤدياً للأمانة، وقد أخبر الله -سبحانه وتعالى- أن أعظم أمانة هي أمانة التكليف، التي أبى حملها السماوات والأرض والجبال، كما قال -تعالى-: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ} الأحزاب. وأمانة التكليف هي القيام بما أمر الله -سبحانه وتعالى- به ظاهراً وباطنا، لأنّ الأعمال الصالحة يمكن للإنسان ألا يعْملها في الخفاء، وأعظم ذلك الصيام، فالإنسان مُمكن أنْ يتظاهر أمامَ الناس أنه صائم، فهي أمانة بين العبد وبين ربّه -سبحانه وتعالى-، وكذلك بقية الأمانات التي بينه وبين خَلق الله، فمثلاً الوظيفة أمانة يستطيع الإنسان ألا يعمل ولا يؤدي الأمانة، بل مجرد حضور لمقرّ العمل، وربما يتحايل حتى على الحضور والانصراف، فهي أمانة بينه وبين ربه -سبحانه وتعالى-، وقيامك بعملك على وجه الإتقان والوجه الصحيح هي أمانة أيضاً؛ لأنّ الإنسان الذي لا يعرف حقيقة العمل، ربما يُخدع ويظن أنّك قمتَ بالواجب، فالأمانة خلق عظيم أمر الله -سبحانه وتعالى- به قال {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}، فالإنسان مؤتمن ومسؤول عن هذه الأمانة.

كظم الغيظ والعفو والصفح

     ومن الأخْلاق الحَسنة التي جاءت في القرآن: كظم الغيظ، والعفو عن الناس، والصفح عن الجاهلين، وهذا تكرّر في القرآن كثيراً، قال -سبحانه-: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} آل عمران. وكظم الغيظ يعني عدم إنفاذه والصبر عليه وكتمه، بأن يرى الإنسان شيئاً يُغضبه ويُثيره، من أذى جاهل أو ما أشبه ذلك، فيكظم غيظه ولا يُبْديه ولا ينتقم لنفسه، وهذه خصلةٌ كانت في النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان لا ينتقم لنفسه أبدا، وإنّما ينتقم لله -عز وجل- إذا انتُهكت محارمه.

     وهذا الخُلُق سببٌ في جمع القلوب، لأنّ الإنسان إذا كان سريع الغضب، كثير الانتقام، غليظاً، شديدا قاسياً، فإنه تنفر وتنفض عنه الناس، كما قال الله -عز وجل-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} آل عمران. فمن رحمة الله -عز وجل- أن جعل رسوله - صلى الله عليه وسلم - رحيماً بالناس، حليماً بهم، لذلك لا بد أنْ يتعوّد الإنسان كظم الغيظ، والحلم والصبر، ليكسب الناس ومودّتهم.

 {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}

     قوله -تعالى-: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، فلو حصل خطأ وتقصير من أحد الأصدقاء أو الأقارب في حقك؛ فاعف عنه، تعوّد العفو والصفح. وقد ذكّر الله -سبحانه وتعالى- عباده بقوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. فالله تبارك وتعالى يحب المحسنين من عباده، والإحسان إلى الناس يكون بالقول وبالفعل، الإحسان إلى الناس بالقول: بتعليم الجاهل، وتنبيه الغافل، وتذكير الناسي، فهذا منْ أعظم الإحسان. ولذلك فالدعاة إلى الله -عز وجل- هم من أعظم الناس إحساناً إلى الناس؛ لأنّهم يُنقذون الناس مِنَ الظلمات والضّلالات، ويهدونهم سُبُل الخيرات، ويدلونهم على الحق، ويحذرونهم منَ الباطل.

     فالرسل عليهم الصّلاة والسلام، وأتباع الرسل من الدُّعاة إلى سبيل الله، هم من أعظم الناس إحساناً إلى الخَلْق، كما قال الله -عز وجل-: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فصلت.

والإحسان إليهم بالفعل يكون بإطعام الجائع، والتصدّق على المحتاج، وإعانة الضعيف، والتبسم في وجوههم، وفضاء حوائجهم.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك