رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: فَتْحي بِن عَبدِ الله المَوْصِليِّ 17 أبريل، 2023 0 تعليق

محاضرات منتدى تراث الرمضاني الثالث – العدل وأثره في إصلاح المجتمع   الحلقة الأولى

 

إن ديننا الحنيف يتصف بوصفين عظيمين، أولهما أنه عادل في أحكامه، ومحسن في تشريعاته، وكامل في مقاصده، من هنا كان الحديث عن القيم الإسلامية وبناء هذه القيم في نفوس الأفراد والمجتمعات مهما؛ لأن القيم تؤدي وظيفتين، وظيفة دافعة ومُحركة وباعثة للإيمان، ووظيفة أو مهمة أخرى أنها تردع وتمنع من الانحراف عن الصراط؛ فأنت في سيرك إلى الله -تعالى- تحتاج إلى مُحرك وباعث ودافع، وتحتاج إلى رادع مانع، هكذا السير سواء كان في السير الحسي في أمور الدنيا، أم حتى في الأمور الدينية الأخروية.

     فأنت تحتاج في الطريق إلى باعث إيماني وباعث معنوي، وتحتاج إلى موانع وتحذيرات ورادع، ولهذا القيم تؤدي الوظيفتين في الأفراد وفي المجتمعات، تؤدي جانب التحريك والانبعاث والدافعية، وأيضا تكون رادعا ومانعا من الانحراف أو الوقوع في الخلل؛ لهذا فالمجتمعات التي تعيش بلا قيم، تعيش في فوضى.

أمور كلية ومعان جامعة

     وهذه القيم هي أمور كلية ومعان جامعة؛ فإن الدين حقيقة من أوله إلى آخره يستند إلى هذه القيم؛ لهذا أسس العهد المكي على قيم ثابتة، وأول تلك القيم هي قيمة العبودية والإيمان بالله -تبارك وتعالى-، ثم جاءت قيم أخرى كالصدق، والأمانة، والعفة؛ ولهذا لما سأل هرقل أبا سفيان: بماذا جاء هذا النبي؟ قال: لقد جاء بالصدق والصلاة والعفة، إذًا أبو سفيان وهو عربي فصيح لم يجد بدًا أن يختصر ما جاء به النبي -[- إلا بذكر هذه القيم.

الإسلام عقيدة وشريعة

     ولهذا إذا أردنا أن نُعبّر عن الإسلام عقيدة وشريعة، دعوة ومنهجًا، فلا سبيل إلا أن نذكر قيم الإسلام، هذه القيم القائمة على العدل، العلم، الصدق، العفة، الصِّلة، الإحسان، احترام الآخرين، اجتماع الكلمة، الوسطية، التواضع، قيم كثيرة، وهذه القيم قد يُعبّر عنها أحيانا بالخصال الأخلاقية أو بالآداب الإسلامية، لكن في حقيقتها هي أخلاق إسلامية جمعت أصول الأخلاق لجميع الأنبياء والمرسلين.

مقاصد رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم 

     بهذا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - رسالته ومقاصد رسالته بأنها قائمة على تكميل القيم؛ فقال في حديث صحيح: «إنما بُعِثت لأتمم مكارم الأخلاق»، أي هو لم يأت فقط بالتوحيد، وإنما جاء أيضا بالقيم والفضائل بكمالها وتمامها.

الواجب على الدعاة

     من هنا فإن الواجب على الدعاة والمشايخ والمربين غرس هذه القيم في الأفراد والمجتمعات، وأن تُفهم القيمة ولا تكون معنًى عاما ومجرد اصطلاحات، أو بتعبير اليوم القيم لا تكون مجرد شعارات كما هي التعبيرات المختصرة للبرامج والإعلانات المُعبّرة، وإنما هي منهج علمي وعملي، سلوكي وتربوي، ينتسب إليه المسلم ويتدين به، ويترجمه إلى واقع عملي في المجتمع، إذا وصلنا إلى هذا الوصف، وارتقينا بقيمنا إلى هذا الوضع، نكون قد جمعنا بين أسباب حفظ الدين وأسباب وجوده.

قيمة العدل

     واخترت لكم من بين هذه القيم العظيمة المهمة التي نحتاج إلى تحقيقها، قيمة العدل بمعناه الشرعي والمجتمعي، وأنا هنا لا أريد أن أتكلم عن فضل العدل، ولا عن النصوص التي ذكرت العدل في القرآن والسنة، ولا عن أهميته، فالكل مستشعر ومُدرك هذه الأمور، وإنما أريد أن أركّز على معنى مهم وهو كيف نحقق العدل قيمة إسلامية، وضرورة شرعية، وواجبا تكليفيا.

مفهوم العدل قيمةً

     ابتداءً ما مفهوم العدل قيمة؟ واضح في تصور الناس وحتى في عُرفهم، أن العدل ضد الظلم والجور، والعدل هو حفظ حقوق الآخرين، والشيء يُعرف بضده، كالشكر وكالإيمان، كذلك العدل، لهذا فالعلاقة بين الأمر بالعدل وبين النهي عن الظلم علاقة متلازمة في الشريعة لا تنفك، أنت لا تترك الظلم إلا إذا أقمت العدل، ولا تحقق العدل إلا إذا تركت الظلم، أمر ونهي، ولهذا قال الله -تبارك وتعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}.

الأمر بالعدل أمر مطلق

     والأمر بالعدل أمر مطلق؛ فالأمر بالعدل أمر وجوب، والأمر بالإحسان أمر استحباب، والشريعة هنا جاءت تأمر بهذين الأمرين، أولهما على الوجوب، وثانيهما على الاستحباب، والعدل أن تُعطي من نفسك الواجب وتأخذه، بمعنى: تبذل الحقوق الواجبة عليك نحو الآخرين، وأن تأخذ منهم الحقوق، بمعنى آخر، العدل هو بذل الحقوق الواجبة للمستحقين، كل مُستَحِق لِحَق لابد أن أبذله له أو أن أعطيه هذا الحق ولا أمنعه، فأولا يجب أن أُعطي الحقوق التي عليّ للناس، أولا حق الله، ثم حق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ثم حق العلماء، ثم حق الآباء، وحق الأيتام، وحق الزوجات، وحق الأبناء، وحق المجتمع، وحق الوظيفة، وبذل هذه الحقوق.

المطالبة بالحقوق

     وإذا طالبت بالحقوق فاطلب ما تستحقه، لا آخذ أكثر من حقي؛ لهذا العادل هو الذي يحفظ الحقوق المستحقة، عندما تكون مديرا في دائرة وتكون عادلا، أي أن تعطي كل مستحق حقه، هذا مفهوم العدل، عندما تكون عادلا في أداء الصلاة فعليك بأداء حقوقها، عندما تكون حاكما، قاضيًا بين خصمين، أن تعطي كل مستحق حقه. فهنا تعلق العدل بحفظ الحقوق، سواء كانت تلك الحقوق هي حقوق الله -تبارك وتعالى- أم كانت حقوق العباد.

حقيقة العدل

     إذًا حقيقة العدل هي ألا تعتدي على الحقوق، وألا تظلم في القيام بهذه الحقوق، العدل أن تُنصف الناس وأن تُنصف المظلوم في تحصيل حقه، العدل أن توصل الحقوق إلى مستحقيها، عندما تكون عاملا في المجال الخيري، كيف تكون عادلا؟ ليس العدل أن تُعطي كل أحد، ربما أنت ظلمت المال، أو ظلمت شرط المتبرع، أو ظلمت شرط الواقف، العدل أن تنظر أولا مَن المستحق لهذا المال أن تُعطيه، وأن تجتهد على إيصاله إليه؟ إذًا هنا تحقق العدل.

ثمرة العدل

     وثمرة العدل تكمن في إيصال الحقوق إلى مستحقيها، فلا يُمنع إنسان من حقه وهو مستحق له، فلو كنت مستحقا لترقية، إذًا فالعدل أن تُعطى هذه الترقية، وإن لم تكن مستحقا وأخذتها، ولم يعطها المسؤول لغيرك وهو مستحق إذا فهو قد وقع في الظلم، فهنا ارتباط العدل بإيصال الحقوق لأهلها وللمستحقين لها بعدم الاعتداء عليها، وهذا لا يكون إلا إذا اجتهد الإنسان في الواجب فيما يتعلق بأداء الحقوق، سواء كانت حقوقا لله -تعالى-، أم كانت حقوقا للعباد.

ميزة العدل في شريعتنا

      ميزة العدل في شريعتنا أنه عدل شامل عام، لا يقبل التجزئة، العدل في الأموال، وفي الأعراض، وفي الأحكام، وفي التصرفات، وبين الأفراد، وفي المجتمعات، والعدل مطلوب من الراعي ومن الرعية، ومن الصغير والكبير، هذا معناه ألا يكون العدل في جانب أو جزء من أجزاء الشريعة، وهذا معنى «إن الله يأمر بالعدل» أي بجميع أفراده وأنواعه ومجالاته؛ لأن بعض الناس ينظر إلى العدل فقط بمفهوم السياسة الشرعية! أنه عدل القاضي في أحكامه، وعدل الأمير في تصرفاته، ولا يلتفت هو أنه لم يؤدِ الحق الذي عليه نحو الأمير أو نحو المجتمع، ويطالب بالعدل، ولكن

     لا يبذله للآخر، وهنا قاعدة مهمة، العلماء قالوا وقد استقرؤوا نصوص القرآن والسنة، قالوا: من لم يحقق العدل في نفسه، لا يتمكن من تحقيق العدل مع غيره.

 

أصول لتحقيق العدل قيمةً

     وهنا أصول مهمة حتى يتحقق العدل قيمة، لابد أن يتأسس في باطن الإنسان ونفسه وقلبه قبل أن يتأسس في أحكامه وكلامه وظاهره، بمعنى أولا أن يُحقق الإنسان العدل في صلته مع ربه؛ لأن أصل العدل هو في التوحيد، في إفراد الله بالعبادة، وألا تجعل له شريكا {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.

الأصل الأول لتحقيق العدل

     فالمنطلق الأول في تأسيس قيمة العدل أن تحقق العدل في باب التوحيد، وأن تجتنب الظلم في جميع أنواعه؛ ولهذا أصل العدل في التوحيد هو إفراد الله بالعبادة، مثل ما أن أصل الظلم هو في الشرك بالله -تبارك وتعالى.

الأصل الثاني: العدل مع النفس

الأصل الثاني أنك إن لم تعدل مع نفسك بأن تحملها على التوسط في الأقوال والأعمال، لا تتمكن من إقامة العدل مع غيرك.

الأصل الثالث: العدل في الواجبات العينية

     الأصل الثالث أنك إن لم تعدل في الواجبات العينية، في الحقوق المتحتمة لا تنهض بالعدل في الحقوق العامة أو الواجبات الكفائية؛ لأن القاعدة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}. فالمنطلق في كل قيمة.. العدل، والصدق، والأمانة، وهذه القيم لا تتحقق إلا أن تبدأ بها من نفسك. ومن واجبها العيني، ومن أصلها الاعتقادي.

     هذه الثلاثة هي منطلقات مهمة، وتأصيلات شرعية في بناء العدل بمعناه الشرعي المنضبط؛ لهذا تجد أن العدل اليوم يُنتقص لانتقاص هذه الأصول، ولأنه عدل مبني على الاستئثار وليس على الإيثار، ولأن العدل يحتاج إلى بذل ومجاهدة كما سيظهر.

شمول العدل وكماله

     وهنا أضيف تأصيلا شرعيا آخر، وهو أن العدل في شريعتنا عدل عام شامل كلي، يسمى عند الأصوليين عموم الأمر بالعدل عموم محفوظ، بمعنى أنه لا تجد صورة خصتها الشريعة فقالت في هذا الموضوع لا نحتاج إلى عدل، أبدا؛ لأن الشريعة قائمة على العدل الجامع التام الكامل، فهو لا يخضع للرغبات الشخصية، ولا يخضع للجوانب النفسية، إنما هو عدل مُحكم.

     لهذا يقول الله -تبارك وتعالى- على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - {وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ}، تأمل هذه الجملة القرآنية! الله -تعالى- يُخبر عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول للمشركين والكفار: إن عندنا أصلا وقيمة وأمرا، وهو أننا إذا تصرفنا معكم بالأقوال والأعمال والأحكام والتصورات والمنازعات وفي كل شيء، أُمرنا أن نعدل بينكم، العدل ليس خاصا لنا، وإنما هو عدل شامل، نحن حتى إذا حكمنا مع الكفار أو حكمنا بينهم فالأصل أننا نعدل عدلا تاما بينهم، فالعدل لا يجوز أن يتخلف، فمثلما نهى عن الظلم، نهي عن جميعه، وعن كل وسيلة موصلة إليه، وعن كل ما يعين عليه، فذلك العدل واجب وجوبا شموليا بهذا المعنى. وهذا معنى {وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ}. هذه حقيقة قرآنية وحقيقة شرعية. إذًا هو عدل عام.

 

 

أمتنا أمة عدل

     عندما نحقق قيمة العدل بمعناه الشرعي المنضبط، سينظر إلينا غيرنا نظرة خاصة، أننا أمة عدل، وأن ديننا قائم على القسط والعدل، وليس على الظلم والجور، وهذا من أسباب تأليف قلوبهم على الإسلام، فيدخلون في دين الله أفواجا، وذلك لما نظروا إلى قيمة العدل وإلى واجب العدل، وإلى الأمر بالعدل في شريعتنا أنه شامل عام، وأنه مترجم في واقعنا الإسلامي ترجمة عملية، ومن ينظر في السيرة النبوية وسيرة الخلفاء وسيرة الأئمة الأعلام للقرون الخيرية يرى العدل بشكله الواضح.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك