رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: فَتْحي بِن عَبدِ الله المَوْصِليِّ 13 نوفمبر، 2024 0 تعليق

محاضرات مؤتمر: (سكن) مقاصد تكوين الأسرة في ضوء الشريعة – الحلقة الثانية

  • السكن حاجة نفسية وجسدية والمودة حاجة غريزية والرحمة حاجة فطرية شرعية لهذا لا يمكن إشباع هذه الحاجات إلا بالنكاح الشرعي الموصوف بالخصائص الكاملة والأوصاف الجامعة
  • المقصود من وجود الأسرة تحقيق التعاون والتكامل بين أفرادها وتنظيم العلاقة الزوجية على أسس متينة وتنظيم المسؤوليات والواجبات والحقوق بين أفراد الأسرة الواحدة
  • أي خلل في السكن في جانبه النفسي المعنوي أو في جانبه الحسي المادي يقع إما لنقص المودة أو لنقص الرحمة أو لنقصهما معًا
  • كمال الحب بين الزوجين لا يكون إلا بالمودة المقترنة بالرحمة وهذا هو سر العلاقة الزوجية التي جعلها الله تعالى آية من آياته
  • من المقاصد العظيمة لوجود الأسرة وتكوينها حصول التراحم والتواصل بين أفرادها بطريقة لا يتصور وجودهما في سائر العلاقات الإنسانية الأخرى
 

ما زال حديثنا مستمرا حول مقاصد تكوين الأسرة في الشريعة الإسلامية؛ حيث ذكرنا من تلك المقاصد: المقصد الأول وهو حفظ النّسل بمعنى (حفظ وجود الإنسان وحفظ نوعه)، والمقصد الثاني: تحقيق السكن والاستقرار النفسي، وبينا مراحل حصول السكن التي ذكرها القرآن الكريم في قوله -تعالى-: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21)، وذكرنا فوائد عدة حول هذه الآية، منها أن الزواج نعمة من الله، وخصائص النكاح الشرعي، والحكمة الدينية من الزواج، وحقيقة السكن، واليوم نكمل هذه الفوائد.

الفائدة الخامسة: انتظام السكن ودوامه

السكن في الآية بمعنى الغاية والعلة، فهذه الغاية لا تدوم إلا بالوسائل، كذلك كل سكن يحتاج إلى أن يُعمر بالأسباب، لهذا جاء ذكر المودة والرحمة لأجل انتظام السكن ودوامه.

الفائدة السادسة: السكن حاجة نفسية وجسدية

        ولما كان النكاح جالبًا للحاجات الضرورية للإنسان، فالسكن هو حاجة نفسية وجسدية، والمودة هي حاجة غريزية، والرحمة هي حاجة فطرية شرعية، لهذا لا يمكن إشباع هذه الحاجات إلا بالنكاح الشرعي الموصوف بالخصائص الكاملة والأوصاف الجامعة، ومن هنا يظهر لنا أن ميل كل من الزوجين للآخر لا يكون ضعفًا، ولا نقصًا وإنما قوةً وكمالًا.

الفائدة السابعة: أسباب حفظ السكن

        ثم ذكرت الآية أسباب حفظ هذا السكن، فقال -تعالى-: {لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم:٢١)، فالمودة في العلاقة والعاطفة، والرحمة في المعاملة، فإذا كان المقصد من النكاح هو التناسل، فالعلة (الغاية) من اجتماع الزوجين تتحقق في السكن الحقيقي، أما المودة والرحمة فهما بمثابة السبب والوسيلة، لحصول المقاصد وتحصيل الغاية، فالتناسل مقصد، والسكن علة وغاية، والمودة والرحمة من أسباب قيام المقاصد ودوام الغاية.

الفائدة الثامنة: اقتران المودة بالرحمة

         المصلحة التامة للأسرة لا تقوم إلا إذا اقترنت المودة بالرحمة، والمودة التي هي المحبة تفضي إلى الرحمة، فإذا زالت المودة لأي سبب تبقى الرحمة تدير الأسرة، فإذا فقدت الرحمة، احتاج كل من الزوجين إلى تعويض فقدها بالمودة ولو بمشقة، حتى تعود الرحمة ويزول الجفاء وترفع القسوة، فإن المودة باعثة على الرحمة، والرحمة تستجلب المودة، لهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تَزَوَّجُوا ‌الْوَلُودَ ‌الْوَدُودَ، فَإِنِّي ‌مُبَاهٍ ‌بِكُمْ ‌الْأُمَمَ ‌يَوْمَ ‌الْقِيَامَةِ».

الفائدة التاسعة: أسباب حدوث الخلل في السكن

        أي خلل في السكن في جانبه النفسي المعنوي أو في جانبه الحسي المادي، يقع إما لنقص المودة، أو لنقص الرحمة، أو لنقصهما معًا، والرجل يمسك المرأة إما لمحبته لها، أو لرحمته بها، أو لمصلحة أولاده، وغالبًا ما يقع الانفصال بين الزوجين مع غياب الثلاثة.

الفائدة العاشرة: كمال الحب بين الزوجين

         وفي الآية إشارة عظيمة إلى أن كمال الحب بين الزوجين، وخالص المحبة لا يكونان إلا بالمودة المقترنة بالرحمة، وهذا هو سر العلاقة الزوجية التي جعلها الله -تعالى- آية من آياته؛ لهذا كانت مصالح التناسل الضرورية مبنية على السكن المستقر، والمودة الصادقة والرحمة الدائمة، ولما كانت المودة والرحمة واقعتين بتقدير الله، فإن ما يقع بين الزوجين من البغض والقسوة والجفاء، فإنما يقع من قبل النفس الأمَّارة بالسوء، أو من الشيطان؛ لأن المودة تمنع البغض الشديد، والرحمة تمنع الجفاء والقسوة؛ لهذا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ»، أي: لا يبغض، وفي حديث آخر عظيم تظهر الموازنة العادلة بين المودة والمحبة وبين الرحمة والشفقة في جانبها النفسي والتربوي، فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَجْلِدْ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ ثُمَّ يُجَامِعْهَا فِي آخِرِ الْيَوْمِ»، وهذه الإشارة اللطيفة الدالة على الحب الصادق.

المقصد الثالث: تنظيم العلاقة الزوجية وتحديد المسؤوليات

           المقصود من وجود الأسرة تحقيق التعاون والتكامل بين أفرادها، وتنظيم العلاقة الزوجية على أسس متينة، وتنظيم المسؤوليات والواجبات والحقوق بين أفراد الأسرة الواحدة، فتكون الأسرة بمثابة مؤسسة عريقة ومتينة ومنظمة تنظيما دقيقا، يتعاون كل فرد مع الآخر في سبيل النهوض بمهامها ومتطلبات بقائها وديمومتها، ولا نتصور قيام هذا التنظيم الدقيق بين الأفراد دون تحقيق مفهوم الأسرة نظريا وتطبيقيا.

أهداف التعاون بين أفراد الأسرة

والتعاون والتكامل والتنظيم بين أفراد الأسرة وفق الشرع يستهدف أمرين مهمين هما:
  • الأول: السرور والراحة بالطاعة.
  • والثاني: الإمامة والقدوة في مجال الدين والدعوة.
والأمران ظاهران في قوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} (الفرقان:٧٤-٧٥)، ويقول أبو السعود العمادي في تفسير الآية: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}، بتوفيقهم للطَّاعةِ وحيازة الفضائلِ فإنَّ المؤمنَ إذا ساعده أهلُه في طاعة الله -عزوجل-، وشاركوه فيها يُسرُّ بهم قلبُه وتقرُّ بهم عينُه؛ لما يشاهدُه من مشايعتهم له في مناهجِ الدِّينِ، وتوقُّعِ لحوقِهم به في الجنَّة حسبما وعد بقوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (الطور:٢١)، {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (الفرقان:٧٤)، أي: اجعلنا بحيثُ يقتدون بنا في إقامة مواسم الدِّين بإفاضة العلم والتَّوفيقِ للعمل، وهذا التعاون والتكامل بين الأفراد في ظل وجود الأسرة يكون بحسب المسؤوليات والقدرات والمهارات وطبيعة كل فرد، بما ينسجم مع الفطرة الصحيحة، قال الله -تعالى- على لسان صاحب مدين: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} (القصص: 27-28)، فتكون الأسرة بناء على الشروط الصحيحة والعهود المتينة مع مراعاة القدرات والظروف والأحوال.

مقصد التعاون والتكامل بين أفراد الأسرة

ومقصد التعاون والتكامل بين أفراد الأسرة الدقيق جاء تطبيقه في السنة النبوية على ثلاثة أمور:
  • الأول: المعاونة في أمور الأسرة الصغيرة والكبيرة.
  • والثاني: إقامة العدل في المعاملة.
  • والثالث: المعاشرة بالمعروف في جميع الأحوال.
ومن الأول: ما جاء في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده، عن عائشة أَنَّهَا سُئِلَتْ: مَا كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: «‌كَانَ ‌يَخِيطُ ‌ثَوْبَهُ، ‌وَيَخْصِفُ ‌نَعْلَهُ، ‌وَيَعْمَلُ ‌مَا ‌يَعْمَلُ ‌الرِّجَالُ ‌فِي ‌بُيُوتِهِمْ، ومن الثاني: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «‌اعْدِلُوا ‌بَيْنَ ‌أَوْلَادِكُمُ ‌اعْدِلُوا ‌بَيْنَ ‌أَبْنَائِكُمْ». ومن الأمر الثالث: عن ابن عباس - رضي الله عنه -، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أُرِيتُ ‌النَّارَ ‌فَإِذَا ‌أَكْثَرُ ‌أَهْلِهَا ‌النِّسَاءُ، ‌يَكْفُرْنَ». قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللهِ؟ قَالَ: «يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ».

المقصد الرابع: التراحم والتواصل

           من المقاصد العظيمة لوجود الأسرة وتكوينها حصول التراحم والتواصل بين أفرادها بطريقة لا يتصور وجودهما في سائر العلاقات الإنسانية الأخرى، وهذا ظاهر في قوله -تعالى-: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: ٢١)، أي: توادّا وتراحما بعصمة الزواج، بعد إن لم يكن لقاء ولا سببًا يوجب التعاطف من قرابة أو رحم، قال العلامة ابن سعدي -رحمه الله- في تفسير الآية: «بما رتب على الزواج من الأسباب الجالبة للمودة والرحمة، فحصل بالزوجة الاستمتاع واللذة والمنفعة بوجود الأولاد وتربيتهم، والسكون إليها، فلا تجد بين أحد في الغالب مثل ما بين الزوجين من المودة والرحمة».

 خطاب التكليف والتربية في السنة النبوية

        وقد تجلت الرحمة والمودة في خطاب التكليف والتربية في السنة النبوية، كما في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ ‌كَانَ ‌لَهُ ‌ثَلَاثُ ‌بَنَاتٍ ‌يُؤويهنَّ ‌ويَكْفِيهنَّ ‌ويَرْحَمَهُنَّ ‌فَقَدْ ‌وَجَبَتْ ‌لَهُ ‌الْجَنَّةُ ‌الْبَتَّةَ»، ‌فَقَالَ ‌رَجُلٌ ‌مِنْ ‌بَعْضِ ‌الْقَوْمِ: ‌وثْنَتَيْن ‌يَا ‌رسول ‌الله، قَالَ: «وثْنَتَيْن»، كما تجلت الرحمة المقترنة بالمحبة والعاطفة في السنة في التطبيقات العملية في الحياة مع الصبيان والصغار في أروع الأمثلة، بل كان دليلًا على وجود الرحمة التي خصها الله بها أهل الاسلام وأصحاب الفطرة السليمة، كما قالت عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أتقبلون صبيانكم؟! فَوالله ما نُقَبِّلُهُمْ! فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرحمة؟، وعن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ، وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسٌ، فَقَالَ الْأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا! فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ: «مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك