مثل أمتي مثل المطر لا يُدرى أوله خير أم آخره؟
إن من المفاهيم اللازمة للوعي العام في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ أمتنا أن الخير لا ينقطع في هذه الأمة، وأن الأمة المسلمة لا تطبق على الشر والضلال، وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة في هذا المعنى، منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مثل أمتي مثل المطر، لا يُدرى أوله خير أم آخره؟» رواه الترمذي.
فشبّه النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمة المسلمة بالمطر الذي هو خير وبركة لعموم البشرية والكائنات، والتساؤل عن تفاوت الخيرية بين أوله وآخره هو من باب كثرة الخير فيه؛ بحيث قد يحتار الإنسان في الأفضل منه، ومعلومٌ قطعًا أن العصر النبوي هو أفضل العصور ولكن لا يمنع هذا من وجود أفراد من المسلمين في آخر الزمان قد يسبقون غيرهم في الزمان إلا الصحابة الكرام.
أهمية الوعي
وأهمية الوعي بهذا المفهوم في هذا الوقت تأتي من ضرورة طرد روح اليأس والقنوط التي تصيب بعض الناس ممن تضعف قلوبهم عن تحمل قهر الآلام والأحزان أو تعجز أفهامهم عن إدراك عموم الصورة الكلية لمجريات الواقع، ويتضاعف الأمر ويصعب مع كثرة الأخبار وسهولة تداولها بالصور والأشكال كافة، ولكن مَن حصَّل شيئاً ولو قليلاً من ثقافة التعامل مع الإعلام أو حاز على بعض الوعي بآلية عمل الإعلام لا بد له أن يدرك أولاً أن الإعلام -في غالبه- بيد أعداء أمة الإسلام؛ ولذلك فهناك تقصد بتضليل المسلمين في كثير مما يطرح إعلامياً عبر نشرات الأخبار المتلفزة أو عبر الإنترنت، فضلا عن وسائط التواصل الاجتماعي.
عالم الإعلام
وثانياً: إن اهتمام عالم الإعلام عموما يكون بالكوارث والمصائب وليس بالأمور الإيجابية، فنحن نسمع عن حادثة سقوط طائرة أو اصطدام قطار في أقاصي بلاد العالم فور وقوعها، لكن لن تسمع أبداً عن آلاف الطائرات والقطارات التي تنطلق وتعود سالمة كل لحظة! ولذلك سوف تنقل لك وقد تضخم الكوارث والجرائم التي تحيق بالمسلمين، ولكن لا تجد إعلامًا عاما يبث نجاحات المسلمين وإنجازاتهم، ومما يسهم في طمس الإعلام عن هذه الجهود انشغال الإعلام المحلي بكل قُطر وبلد بتشويه القطر والبلد الآخر بسبب العداوات والإحَن (الأحقاد) بين دولنا المسلمة والعربية!
الفعاليات الترفيهية
وثالثا: وسائل الإعلام لا تركز غالبا إلا على الفعاليات الترفيهية والفنية والغنائية والرياضية؛ وبسبب هذا التركيز تتضخم هذه الفعاليات في الأذهان، ويظن الناس أو بعضُهم أن المجتمع هو هذه الفعاليات وجمهورها! بينما هذا خلاف الواقع تماماً؛ فالمساجد واجتماع المصلين فيها أو تزاحم المسلمين على سماع الدروس والمحاضرات وصلاة الجمعة يوميًا أو أسبوعيًا لا محل له في الإعلام بخلاف مباريات الدروي أو حفلات الغناء أو المهرجانات.
تغييب أعمال الخير
والأعمال الخيرية للجان الزكاة والصدقات المستمدة من فريضة الزكاة التي تمتد في الزمن بعيدًا، وحمت المجتمع من كثير من المصائب والكوارث تغيب إعلاميا لصالح المبادرات المؤقتة ذات الطابع العصري والحداثي، هذا كله يُحدث خللا في تكوين صورة حقيقية للمجتمع المحلي أو المجتمع الإسلامي العالمي، فيظن بعضهم أن الفساد عمّ وطمّ، وأن الإسلام هُزم، وأن الدين انتهى، وأنه لا أمل ولا فائدة في المستقبل.
تصور خطأ ومدمر
لمحاربة هذا التصور الخطأ والمدمر، الذي هو في الحقيقة هدف الأعداء وغايتهم من السيطرة على عالم الإعلام تبرز ضرورة الوعي بديمومة الخيرية في أمة الإسلام وبث هذا الوعي وتذكير الناس بجوانب الخير التي يعيشونها في كل لحظة برغم الواقع البائس والضاغط {إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} (النساء: 104).
من صور الخير
ومن صور الخير الراسخة في أمتنا ومجتمعاتنا -التي تغيب عن الأذهان- التفاعل والإيجابية لدى عموم الناس فيما يخص هويتنا الإسلامية، ومن ذلك رفض أي تخريب أو انحراف في المناهج التعليمية، سواء بما يخص الجانب الديني أم الجانب العلمي والمعرفي والمهاري، وكذلك الفعالية الرائعة لدى كثير من الشباب لتسخير الوسائل الحديثة فيما يعود عليهم بالفائدة والمنفعة الحقيقية.
الترابط الاجتماعى
ومن أشكال الخير الترابط الاجتماعي في الأسرة -برغم المشكلات والتراجع- التي تتفوق على بقية الأمم، ومن أشكال الخير استمرار قطاع لا يستهان به من العاملين في المؤسسات العامة بتقديم الخدمة بإخلاص وإتقان برغم كل الفساد والمحسوبية وقلة الإمكانات.
التعاون في الأزمات
ومن صور الخير مسارعة عموم الناس للمساعدة والتعاون في الأزمات والحوادث وتعويض النقص الذي يظهر، ومنها حرص كثير من الجمهور على رفض الفساد ويتبين ذلك في أشكال كثيرة من آخرها انتخاب قيس سعيد رئيساً لتونس برغم عدم انتمائه لتيار أو قيامه بحملة دعائية.
واقع مجتمعاتنا
إن من يتأمل في واقع مجتمعاتنا وأمتنا خلال العقود الماضية سيجد أن هناك تقدما كبيرا على أصعدة عدة، منها: تقدم حالة التدين والتعليم والبنية الصحية والطرق والإنارة والاقتصاد، وبرغم ما تعانيه العديد من الدول اليوم من أزمات وحروب إلا أن الوضع الحالي -على سلبياته- أفضل من بداية القرن الماضى، وعليه يجب الحفاظ على ما تحقق، والمثابرة على تصحيح المائل من الأحوال، وإلا كان البديل هدم كل ما تحقق دون ثمرة حقيقية.
من لوازم الوعي
من لوازم الوعي بديمومة الخير في الأمة المسلمة إدراك أن الخير يتوفر حتى لدى المخطئ أو العاصي، الذي قد لا يبدو عليه الالتزام الديني والمحافظة، ومن نماذج ذلك (أبو هيثم) وهو رجل سارق مشهور، سُجن مع الإمام أحمد بن حنبل، وبرغم سرقته ومعصيته إلا أنه قدم للإمام أحمد نصيحة عظيمة؛ إذ قال له: أنا ضُربت 18 ألف جلدة في حياتي على ما قمت به من سرقات في طاعة الشيطان، أفلا تصبر أنت على الضرب في طاعة الرحمن من أجل الدين؟ فكان لكلامه وقع في قلب الإمام أحمد -رحمهما الله-. ومن لوازم الوعي بديمومة الخير في الأمة عدم افتراض الكمال والتمام في أصحاب الخير، بل قد يكون عندهم نقص قليل أو كثير، وكم في تاريخنا من شخصيات كان لها أثر ايجابي كبير وفي الوقت نفسه صدرت منهم أخطاء ونقائص! فلا نلغي إيجابياتهم لبعض سلبياتهم ولا نغفل سلبياتهم لإيجابياتهم، بل نوازن بالحق بينهما، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «إذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر. فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، كاللص تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته. وهذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومَن وافقهم».
الأصل الغائب
ومع الأسف فإن هذا الأصل غائب عن كثير من شباب أهل السنة اليوم ممن يتقاتلون ويتشاجرون عبر منصات التواصل الاجتماعي نصرة لدولة وبلد ضد دولة وبلد آخر، فهم لا يعترفون بالخير الذي مع خصومهم ولا يقرون بنقص مَن يؤيدون؛ ولذلك يقع الطرفان في رد شيء من الحق، ويتولد بذلك باطل جديد!
- ختاماً؛ أمتنا فيها خير كثير، وهذا الخير يجب حفظه، وتحتاج الأمة إلى المزيد من جهود أهل الخير ليزيد خيرها ويعم.
لاتوجد تعليقات