(متى وكيف اخترع الشعب اليهودي)؟! (1/2)
(متى وكيف اخترع الشعب اليهودي؟) عنوان كتاب للبروفسور (شلومو زاند), أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب, صادر عن دار فايار في باريس, وتقدم في قائمة أكثر الكتب مبيعاً في الكيان الصهيوني, الأمر الذي لم يتوقعه المؤلف، وترجم إلى اللغة الفرنسية والإنجليزية وجار ترجمته لعدة لغات.
مؤلف الكتاب شلومو زاند يعلن صراحة أن غرضه هو تفنيد ادعاءات اليهود بحق تاريخي في أرض فلسطين، أما سبيله إلى تحقيق ذلك فهو البرهنة على أنهم ليسوا شعباً ذا ماضٍ مشترك أو رابطة دم وأصل واحد إضافة إلى كونهم لا ينتمون إلى هذه الأرض.
ومدار كتاب (زاند) أنه لا يوجد مطلقاً شعب يهودي، نعم توجد فقط ديانة يهودية، وأنه لم يحدث نفي وبالتالي لم يكن هناك عودة، ويرفض الباحث معظم روايات تشكيل الهوية الوطنية في الكتاب المقدس. وأنه تم اختراع شعب وتلفيق تاريخ، وأن الرومان لم يطردوا اليهود من القدس، والشتات أسطورة لتشييد ذاكرة مزيفة، وأن الصهيونية لفقت أسطورة الأصل المشترك لليهود خدمة لأجندتها السياسية.
فقد أنكر الباحث الحكاية الصهيونية التي أقنعوا شتات اليهود بها والتي أركانها: النفي والاضطهاد، والخلاص والعودة، وأنهم عملوا على تدعيمها بنصوص توراتية محرفة، وخدمتهم البروتستانتية الصهيونية التي حولت الأسطورة إلى عقيدة تحرك الساسة والجيوش، وتضطهد الأمم والشعوب وبالأخص الأمة الإسلامية.
ولكن هذا يطرح السؤال التالي: إذا لم يتم طرد اليهود جماعياً من فلسطين - يهوذا القديمة بزعمهم - فكيف انتشر اليهود في جميع أنحاء العالم؟ للإجابة عن هذا السؤال قدم (زاند) تفسيراً للشتات اليهودي الذي تطلق عليه المراجع اليهودية مصطلح (الدياسبورا اليهودية)، مفاده أن بعض اليهود هاجروا بمحض إرادتهم، والكثير منهم من المتحولين إلى اليهودية؛ لأن اليهودية في فترة من الفترات اضطرت لأن تكون ديانة تبشيرية للحصول على أتباع جدد.
ويضيف أن «اليهودية دين وليست أمة، واليهود لم يكونوا شعباً وأمة، وذلك يثير الشكوك حول مبرر بقاء دولة يهودية تجمع شتات ما تفرق من تلك الأمة الأسطورة، فليس لليهود هوية وطنية».
وأكد ذلك بقوله: «إن قصة الشعب اليهودي وتحويل اليهود من مجموعة لها هوية ثقافية ودينية مشتركة إلى شعب مهزوم هو اختراع حديث العهد نسبيا، نشأ في القرن التاسع عشر بواسطة العلماء الصهاينة وتم دعمه من المؤسسة الأكاديمية في إسرائيل... لأنها مؤامرة فكرية من نوع ما، فالأمر كله خيال وأسطورة كانت ذريعة لقيام دولة إسرائيل».
وذهب الباحث إلى أبعد من ذلك بقوله لصحيفة (هآرتس): «فرض أن الفلسطينيين متحدرون من الشعب اليهودي القديم هو أكبر بكثير من الفرض أنني أنا أو أنت هم أحفاد الشعب اليهودي القديم». ويؤكد أنه: «ليس جديداً القول بأن بعضا من المعتقدات الشائعة بشأن التاريخ اليهودي لا أساس لها من الصحة، فالخبراء متأكدون, مثلاً, من عدم حدوث ما يعرف بحادثة طرد اليهود من أورشليم على يد الرومان عام 70 للميلاد، كما بات من الثابت علمياً أن نسب الأغلبية العظمى من اليهود المعاصرين لا تعود إلى يهود العهد القديم إنما إلى أقوام وثنية في أوروبا وشمال أفريقيا وجنوب الجزيرة العربية اعتنقت الديانة اليهودية في الألفية الميلادية الأولى وفي بداية العصور الوسطى».
وفي مجال سعيه إلى تفنيد مزاعم اليهود بحق تاريخي في الأرض, يحرص (شلومو زاند) على البرهنة على أن أصول اليهود المعاصرين لا تنتهي إلى أرض فلسطين القديمة، ويستشهد بالنظرية القائلة بأن يهود وسط أوروبا وشرقها, الذين ينتسب إليهم 90٪ من اليهود الأمريكيين ينحدرون من الخزر الذين اعتنقوا الديانة اليهودية في القرن الثامن الميلادي، وأقاموا إمبراطورية لهم في القوقاز. وهي نظرية ظهرت لأول مرة في القرن التاسع عشر واكتسبت مصداقية كبرى عندما تناولها الكاتب البريطاني آرثر كوستلر في كتابه الشهير (القبيلة الثالثة عشرة) الصادر عام 1976.
وفي مقابلة أجرتها معه صحيفة (هآرتس) العبرية, أكد (شلومو زاند) دور الاعتناق في زيادة أعداد اليهود في العالم، يقول زاند: اليهود لم ينتشروا ولكن الديانة اليهودية هي التي انتشرت. وبخلاف التوجه اليهودي الحالي إلى الانغلاق على الذات, فإن اليهودية في عهودها المبكرة كانت تسعى إلى كسب المزيد من الأتباع.
بالطريقة نفسها, يقول (زاند): تمكنت الأسطورة والذاكرة البديلة والتطلعات والرغبات من حياكة نسيج التاريخ اليهودي الذي لا يستند إلا إلى النزر القليل من الأدلة المتضاربة التي يعثر عليها في المدونات أو التنقيبات الأثرية، حيث شكلت البذرة التي تجسدت لدى الأجيال اللاحقة على شكل اعتقاد راسخ بأن اليهود شعب تعرض للنفي والاضطهاد على مدى الجزء الأعظم من تاريخه.
ويخلص شلومو زاند من هذا الاستعراض لأوهام التاريخ اليهودي إلى اتهام المؤرخين الصهاينة منذ القرن التاسع وإلى يومنا هذا بإخفاء الحقيقة وتلفيق أسطورة الأصل المشترك لليهود المعاصرين خدمة للأجندة الصهيونية العنصرية. وهو لا يدعي لنفسه الكشف عن حقائق جديدة, لكنه يقول أنه قد رتب المعرفة بنحو مغاير، وبهذا يصدق على زاند ما قاله نيكولاس لانج في كتابه (التاريخ المصور للشعب اليهودي 1997): إن كل جيل من المؤرخين اليهود قد واجه المهمة نفسها وهي: إعادة رواية الحكاية وتكييفها لكي تلائم متطلبات الأوضاع التي يواجهها ذلك الجيل.
وفي مقابلته مع صحيفة (هآرتس) يقول رداً على سؤال حول وجه الخطورة في تصور اليهود أنهم ينتمون إلى أصل واحد: هناك درجة من التشويه في الخطاب الإسرائيلي بشأن الأصول، فهو خطاب عنصري, عرقي, منغلق على ذاته. ليس هناك وجود لإسرائيل كدولة يهودية. كل من يعرف النخب الشابة من عرب إسرائيل يستطيع أن يرى أنهم لن يرضوا بالعيش في بلد يعلن أنه ليس لهم. لو كنت فلسطينياً لتمردت على دولة من هذا النوع، بل إنني أتمرد عليها مع كوني إسرائيلياً.
ويضيف الكاتب أن حرب الـ 1967 سهّلت عمليات التنقيب بشكل كبير، لكن النتائج بدأت تبرز تناقضات الإيديولوجيا الصهيونية؛ لذلك كان يؤجل الإعلان عنها أمام الجمهور عشرين عاماً. عام 1970 حصل تطور في علم الآثار تحت تأثير مدرسة الحوليات التاريخية في فرنسا وارتدى الطابع الاجتماعي للبحث التاريخي أهمية أكبر من الطابع السياسي، ووصل هذا التحوّل إلى الجامعات الإسرائيلية. هكذا بدأت تناقضات الرواية الرسمية بالبروز وهو ما يزعزع الأساطير المؤسسة ليس فقط لدولة إسرائيل بل للتاريخ اليهودي عامة.
وإن الرواية التوراتية التي يعتبرها جميع المؤرخين الإسرائيليين حجر الزاوية في الذاكرة الوطنية والمرحلة الأكثر إشراقاً والأكثر تأثيراً في التاريخ اليهودي, دحضتها أيضاً الاكتشافات الأثرية الجديدة، إنها مملكة داود وسليمان التي يفترض أنها عاشت في القرن العاشر قبل الميلاد. إن الحفريات التي تم القيام بها في 1970 في كل محيط المسجد الأقصى لم تثبت وجود أي أثر لهذه المملكة ولا حتى لأي أثر لسليمان الذي تجعله التوراة بمرتبة ملوك بابل وفارس.
وينهي زاند هذا الفصل بالقول إن الكتب المدرسية طمست كلياً عمليات التبشير لتبيان أن كل الجماعات اليهودية خارج فلسطين هي من المنفيين مما يعطيهم الحق في العودة والأرض إضافة إلى الانتماء إلى شجرة العائلة اليهودية، بدلا من أن يكونوا نتيجة تمازج عرقي بين جماعات إنسانية مختلفة وهو ما يضعف الوحدة البيولوجية للأمة.
وخلص (زاند) إلى القول إنه لا أحد له مصلحة في إحياء ذاكرة الخزر، إن الابتعاد عن التأريخ الديني لليهود وإجراء أبحاث أنثروبولوجية عن حياتهم اليومية يكشف عن غياب قاسم مشترك علماني ليهود أفريقيا وآسيا وأوروبا وبالتالي لا يسمح بالحديث عن «أمة» يهودية وهو ما تتحاشاه الرواية الرسمية لتاريخ اليهود.
ويرى زاند أن الواقع قاس جدا بالنسبة للحقوقيين الصهاينة، فلم يعد هناك في العالم أي بلد يمنع اليهود من الهجرة إلى إسرائيل والهجرة المعاكسة أصبحت أقوى، وأن الأساطير التي بنيت عليها هي التي ستؤدي إلى تفجيرها من الداخل، الأسطورة الأولى: ملكية الأرض التاريخية دفعت إسرائيل إلى استعمار شعب آخر وخلقت لها مشكلة ديموغرافية هائلة والأسطورة الثانية هي إثنيتها التي تمنع أي غريب من الدخول إليها، وهو ما أدى إلى وضع غريب: كلما انخرط الفلسطينيون في الدولة الإسرائيلية ازداد استلابهم وتعزز رفضهم لأسس هذه الدولة، وذلك لاكتشافهم حقوقهم الناقصة قياساً على الإسرائيليين اليهود. لقد ساهمت ممارسات إسرائيل العنصرية في غزة والضفة في تقوية هذا الشعور إلى حد بعيد.
وفي الفصل الثاني والذي هو بعنوان «أسطورة - تاريخ، في البداية خلق الله الشعب» أكد (زاند): أنه كان لا بد من الاستشهاد بإعلان استقلال دولة «إسرائيل»: «إن أرض «إسرائيل» هي المكان الذي نشأ فيه الشعب اليهودي، وهنا تشكَّلَ طابعه الروحي والديني والقومي، وهنا أنجز استقلاله وخلق ثقافة ذات حمولة قومية وكونية ومنح التوراة الخالدة للعالم بأسره». وللرد على ذلك استعرض الكاتب الكتابات التاريخية حول المسألة اليهودية، ويرى، من خلال كمّ هائل من المراجع والإحالات، أنها كانت متأخرة، أي بعد 1600 سنة من ظهور موسى عليه السلام، واستشهد على ذلك بتأكيد الفيلسوف الكبير باروخ سبينوزا: «بأن أسفار موسى الخمسة الأولى لم يكتبها موسى، بل هي من تأليف كاتب جاء بعد موسى بعدة قرون».
وأضاف: «لكن العديد من الدراسات والأبحاث حول المسألة اليهودية والتي كان يقوم بها مثقفون ومؤرخون يهود، خصوصا في ألمانيا، لم تكن تستهدف غير منح قيمة لهذا البحث باعتباره قنطرة إضافية تتيح دمج الجماعة اليهودية في مجتمع ألماني قادم»، أي: «يجب التذكير بأن بدايات كتابة التاريخ اليهودي في العصر الحديث لا تتميز بخطاب قومي صارم».
ولكن ما يجب ألا نغفله وهو ما يشدد عليه المؤلف بقوة هو أنه «كانت توجد، منذ البداية، علاقة وثيقة ما بين تصور التوراة كوثيقة تاريخية ثابتة و المحاولة من أجل تحديد الهوية اليهودية الحديثة بتعابير قومية وغيرها.
وخلص البروفسور (زاند) بعد سرد الكثير من الحقائق والشواهد إلى أن هناك تناقضات المؤرخين الصهاينةوأكاذيبهم فيقول: «على الرغم من أن معظم المؤرخين المهنيين عرفوا أنه لم يكن ثمّة أبدا طردٌ بالقوة لـ «الشعب اليهودي»، فقد أخذوا تسلسل الأسطورة المسيحية في التقليد اليهودي من أجل أن يتركوها تَشُقّ طريقَهَا بحرية على الساحة العمومية وفي الكتب البيداغوجية للذاكرة القومية، من دون أن يحاولوا كبح مسارها، بل إنهم شجعوها بصفة غير مباشرة وهم يعلمون أن هذه الأسطورة وحدها يمكن أن تؤمّن شرعيتها الأخلاقية للاستعمار من طرف «أُمّة منفية» لأرضٍ يحتلها آخرون»، ويوجه الكاتب انتقاداته للفكر الصهيوني: «ليس مصادفة أن الفكر الصهيوني يستمد مرجعياته من المصادر الاثنوتخييلية القديمة. يستولي عليها باعتبارها كنزا نادرا ويقوم بقولبتها على هواه في مختبراته الايديولوجية».
وأكد أنه لم يكن المسلمون الأوائل يعادون الديانة اليهودية، كما أن مسار الأسلمة الذي قام به العرب المسلمون «لم يضع حداً للمد المتواصل من أتباع اليهودية في كل جنوب إسبانيا ومن أفريقيا الشمالية. ويدلل على ذلك بقوله: المؤرخ إسحق بايير، في كتابه المهم عن يهود إسبانيا، سجّل في حينه بإعجاب «أن إسبانيا العربية بدت كأنها تحولت إلى مكان لجوء من أجل اليهود». وهكذا استطاعت الجماعة اليهودية أن تزدهر من وجهة نظر ديموغرافية، بفضل تهويد محليّ وأيضاً بفضل موجات الفتح والهجرة حيث تفتحت الجماعة اليهودية ثقافياً، في إطار تناغُم استثنائي فيما بينها وبين التسامح العربي الذي كان يسود في مملكة الأندلس».
ويقول: «ترفض إسرائيل بعد ستين سنة من نشوئها، أن تتصور نفسها كجمهورية وجدت من أجل كل مواطنيها، ما يقارب ربع سكانها لا يعتبرون يهودا، وحسب روحية قوانينها، فإن هذه الدولة ليست دولتهم. وفي المقابل تقدم «إسرائيل» نفسها باعتبارها دولة من أجل يهود العالم، على الرغم من أن الأمر لم يعد يتعلق بلاجئين مضطهدين، ولكن بمواطنين يتمتعون بكامل المساواة في الدول التي يقطنونها. بصيغةٍ ما إن عرقية مركزية من دون حدود تبرر التمييز القاسي الذي تمارسه ضد جزء من مواطنيها باستحضار أسطورة الأمة الخالدة، التي تشكلت من جديد من أجل التجمع على أرض الأجداد».
ويواصل الكاتب: من الصعب كتابة تاريخ يهودي جديد، بعيداً عن القبضة الصهيونية. إن اليهود كونوا، بشكل دائم، جماعات يهودية تكونت، في معظم الأحيان، عن طريق التهويد، في مختلف مناطق العالم. إنهم لا يشكلون إثنية حاملة لنفس الأصل الأوحد والذي يكون قد انتقل على مرّ تيه امتد عشرين قرنا.
وأضاف أن تطور الكتابة التاريخية، مثل مسار التحديث يمران كما نعرف عن طريق اختراع أمّة، والأمّة شغلت الملايين من البشر في القرن التاسع عشر وخلال جزء من القرن العشرين. في نهاية القرن العشرين، رأينا تكسّر بعض هذه الأحلام. وقد قام باحثون، وهم في تزايد مستمر، بتحليل وتشريح وتفكيك المحكيات القومية الكبرى، وبشكل خاص أساطير الأصل المشترك العزيز على قلوب إخباريي ومؤرخي الماضي. إن كوابيس الأمس الهوياتية ستترك مكانها، في قادم الأيام، لأحلامِ هوية أخرى.
وسأكمل بمشيئة الله في العدد القادم ماهية الطرح الذي نشره الباحث والبروفسور اليهودي (شلومو زاند) ولماذا هذا الكتاب وفي هذا الوقت؟ ولماذا انتشر هذا الانتشار؟ وما علاقته بالمؤرخين اليهود الجدد؟ وما الحل الذي طرحه الباحث في آخر كتابه؟ وكيف كانت الانتقادات على ذلك الكتاب من اليهود والمستشرفين والمؤرخين الغربيين؟ وما مدى استفادتنا نحن المسلمين أصحاب الحق والأرض والمقدسات مما كتبه ذلك الباحث؟
لاتوجد تعليقات