رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 30 أكتوبر، 2016 0 تعليق

{ما أريكم إلا مـا أرى}

العالم ليس نبيا مرسلا مسددا بالوحي، بل هو إن استكمل الشروط مجتهد يدور بين أجر أو عذر كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر»

 بعض الناس يعيش حالة من النرجسية والإعجاب بالنفس والاعتداد بالرأي، بحيث يرى إنجازاته بالعدسة المكبرة مضخمة، وينظر إلى إنجازات غيره بالمجهر مصغرة، دائما يصوب رأيه، ويتمسك بقراره دون أن يكون لديه تردد أو يضع احتمالا للخطأ أو السهو، كأنه معصوم من الزلل، أو مبشر بالسداد، ويعد غيره كأنه جاهل أو غرّ قليل العلم أو الخبرة، محكوم على رأيه بالخطأ، وعلى اجتهاده بالضلال.

ويتجلى هذا الأمر في بعض الزعامات التاريخية التي باءت بالفشل، وجرت على شعوبها الويلات والمحن، بسبب هذه النظرة الفردية، والأنانية المفرطة.

     وتتفاقم المشكلة حين يتجاوز الأمر السياسة والإدارة ليصل إلى مقام العلم والدعوة والأسرة والصداقة؛ فلا يقبل العالم مناقشة اجتهاده واختياراته، ولا يرضى الداعية بتقييم جهده ونشاطه، ويرفض الوالد مراجعة قراراته وتصرفاته، ويتضايق الصديق من أصدقائه إن لم يأخذوا برأيه وقناعاته.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المرض فيما قاله الله عز وجل عن فرعون حين رد نصيحة المؤمن وتوجيهه لطاعة موسى عليه السلام وعدم قتله كما أراد فرعون: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}(سورة غافر: 29).

     قال الشوكاني: «فلما سمع فرعون ما قاله هذا الرجل من النصح الصحيح جاء بمراوغة يوهم بها قومه أنه لهم من النصيحة والرعاية بمكان مكين، وأنه لا يسلك بهم إلا مسلكا يكون فيه جلب النفع لهم ودفع الضر عنهم، ولهذا قال: { ما أريكم إلا ما أرى} قال ابن زيد: «أي: ما أشير عليكم إلا بما أرى لنفسي».

     وقال الضحاك: «ما أعلمكم إلا ما أعلم»، والرؤية هنا هي القلبية لا البصرية، والمفعول الثاني هو إلا ما أرى {وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} أي: ما أهديكم بهذا الرأي إلا طريق الحق». وقال الشنقيطي: «وهذان الأمران اللذان ذكر تعالى عن فرعون أنه قالهما في هذه الآية الكريمة، قد بين في آيات أخر أن فرعون كاذب في كل واحد منهما.

     أما الأول منهما وهو قوله: { ما أريكم إلا ما أرى} فقد بين تعالى كذبه فيه في آيات من كتابه، وأوضح فيها أنه يعلم ويتيقن أن الآيات التي جاءه بها موسى حق، وأنه ما أنزلها إلا الله، وأنه جحدها هو ومن استيقنها معه من قومه ليستخفوا بها بعقول الجهلة منهم، كقوله تعالى: {فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين}.

فقوله تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} دليل واضح على أن فرعون كاذب في قوله: {ما أريكم إلا ما أرى}.

وكان غرض فرعون بهذا الكذب التدليس والتمويه; ليظن جهلة قومه أن معه الحق، كما أشار تعالى إلى ذلك في قوله: {فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين}

وأما الأمر الثاني وهو قوله: {وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} فقد بين تعالى كذبه فيه في آيات من كتابه كقوله تعالى: {فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد}، وقوله تعالى: {وأضل فرعون قومه وما هدى}».

     وقد جاء في السنة المطهرة ما يرشد إلى الانتباه لهذا الداء الخفي والحيلولة دون انتشاره فقد أخرج البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في دين كان على أبي فدققت الباب فقال: «من ذا؟» فقلت: أنا فقال: «أنا أنا» كأنه كرهها.

وقال ابن حجر: «ذكر ابن الجوزي أن السبب في كراهة قول (أنا) أن فيها نوعا من الكبر، كأن قائلها يقول: أنا الذي لا أحتاج اذكر اسمي ولا نسبي».

     فكل مسلم يستشعر نعمة الله تعالى عليه فيما آتاه من علم أو مال أو جاه أو حكمة أو غير ذلك من نعم حسية ومعنوية كما قال تعالى: {وما بكم من نعمة من الله}، فسداد الرأي، والتوفيق للصواب في القول والعمل، والمحبة في قلوب الخلق كلها من الله تعالى وحده تفضلا على عبده، فلم ينلها بحذقه ولا بنباهته ولا بشرفه؛ لذا يلزمه الشكر لمن أعطاه إياها، والتواضع لمن يعطيها له، فقد جاء في بعض الآثار: «تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ، وَتَعَلَّمُوا لَهُ السَّكِينَةَ وَالْوَقَارَ، وَتَوَاضَعُوا لِمَنْ تَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ وَلِمَنْ تُعَلِّمُونَهُ، وَلا تَكُونُوا جَبَابِرَةَ الْعُلَمَاءِ».

     فالعالم ليس نبيا مرسلا مسددا بالوحي، بل هو إن استكمل الشروط مجتهد يدور بين أجر أو عذر كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» متفق عليه، قال النووي: «قال العلماء: أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكم عالم أهل للحكم، فإن أصاب فله أجران: أجر باجتهاده، وأجر بإصابته، وإن أخطأ فله أجر باجتهاده».

وما دام كذلك فليس له أن يلزم الناس باجتهاده أو يغضب إن لم يأخذوا برأيه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ناقلا عن الأئمة: «ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه».

     وقال: «ما قاله العالم أو الأمير أو فعله باجتهاد أو تقليد، فإذا لم ير العالم الآخر والأمير الآخر مثل رأي الأول، فإنه لا يأمر به، أو لا يأمر إلا بما يراه مصلحة ولا ينهى عنه؛ إذ ليس له أن ينهى غيره عن اتباع اجتهاده، ولا أن يوجب عليه اتباعه، فهذه الأمور في حقه من الأعمال المعفوة لا يأمر بها ولا ينهى عنها بل هي بين الإباحة والعفو».

     وقال: «إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه». وكذلك الداعي إلى الله تعالى فيما يقوم به من نشاط واجتهاد في نشر الدين، عليه أن يعرف أنه يقوم بخدمة الدين، لا أنه وصي على الدين، فمن وافقه فهو مصيب، ومن خالفه فهو مخالف للدين، وإنما الحكم عند الاختلاف للكتاب والسنة قال تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} أي: هو الحاكم فيه بكتابه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم - كقوله: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} (سورة النساء: 59).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك