ماذا بعد رمضان؟!
لئن كان شهر رمضان المبارك قد انتهى؛ فإنَّ عمل المسلم لا ينتهي، إلا بمفارقة روحه بدنه، قال -عز وجل- لنبيه صلى الله عليه وسلم: {واعبدْ ربكَ حتى يأتيك اليقين}(الحجر : 99)، وقال عيسى -عليه السلام- عن ربه -سبحانه-: {وأوصَاني بالصلاةِ والزكاة ما دمتُ حياً}(مريم: 31)، وقال صلى الله عليه وسلم : «أحبُ الأعمالِ إلى الله -تعالى-، أدْومها وإنْ قلْ». متفق عليه، وذكر لبعض السلف أناساً يجتهدون في رمضان، ثم يتركون ذلك بعده؛ فقال: بئس القومُ لا يعرفون الله -تعالى- إلا في رمضان !!
فلئن كان صيام الفرض في رمضان قد انقضى زمنه؛ فإن هذه العبادة الفريدة لا تنقضي؛ فقد شرع الله -تعالى- للسابقين بالخيرات، أياماً تُصام طوال العام في مواسم متعددة، أولها: صيام الست من شوال بعد رمضان؛ ففي صحيح مسلم: من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان، ثم أتبعه ستاً من شوال، كان كصيام الدهر».
صيام الاثنين والخميس
ويستحب أيضاً: صيام الاثنين والخميس، كما في حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تُعْرضُ الأعمال يوم الاثنين والخميس؛ فأحبُ أن يُعرض عملي وأنا صائم». رواه الترمذي .
صيام ثلاثة أيام
وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، والأولى والأحسن أن تكون أيام البيض وهي: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر من الشهر الهجري، لحديث أبي ذر رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا أبا ذر، إذا صُمْتَ من الشهر ثلاثة أيام، فصُم ثلاثَ عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة». رواه الترمذي والنسائي، وإلا صام أيَّ ثلاثة أيام من الشهر، لحديث أبي هريرة: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث، وأنْ أصوم ثلاثة أيام مِنْ كل شهر . رواه مسلم .
صيام شهر الله الحرام
وكذا صيام شهر الله الحرام؛ ففي صحيح مسلم: عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الصيام أفضلُ بعد شهر رمضان؟ قال: «أفضلُ الصيام بعد شهر رمضان ، صيامُ شهر الله المحرَّم».
صيام التسع من ذي الحجة
وصيام التسع من ذي الحجة، عَن بَعْضِ أَزوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ». أخرجه أبو داود (2436)، والنسائي (2417)، وأفضل العشر من ذي الحجة: صيام يوم عرفة؛ فإنه يُكفِّر سنتين: ماضية وباقية، كما في صحيح مسلم، وصيام عاشوراء يكفر سنةً ماضية، رواه مسلم .
قيام الليل
ولئنْ كان قيام رمضان جماعة قد انتهى؛ فإنَّ قيام الليل هو دأب الصالحين قبلنا، وعادة الأخيار دائماً، كما قال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأبُ الصالحين قبلكم، وقربةٌ إلى الله -تعالى-، ومنهاةٌ عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد» . رواه أحمد والترمذي والحاكم عن بلال رضي الله عنه، وقال -تعالى- في أهله: {تَتَجافى جُنوبُهم عن المضَاجع يدعون ربَّهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون}(السجدة: 16)، تتجافى جنوبهم: أي ترتفع وتنبو عن مواضع الاضطجاع والنوم .
ومنه قول عبد الله بن رواحة:
وفينا رسول الله يتلو كتابه
إذا انشق معروف من الصبح ساطع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه
إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وقال -سبحانه-: {وعبادُ الرحمن الذين يمشون على الأرضِ هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً والذين يبيتون لربهم سُجداً وقياماً}(الفرقان: 63)، وكذا قوله -تعالى-: {كانوا قليلاً من الليلِ ما يَهجعون وبالأسحارِ هم يستغفرون}(الذاريات: 16-17)، ليس خاصاً برمضان، بل هي سمةٌ من سماتهم، وصفة من صفاتهم .
عن أنس بن مالك في قوله : «كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، قال: يتيقظون يصلون ما بين هاتين الصلاتين, ما بين المغرب والعشاء». رواه الطبري بسند صحيح، ولما ذُكر عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- للنبي صلى الله عليه وسلم ، قال: «نِعمَ الرجل عبد الله، لو كان يقومُ من الليل؛ فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً»، رواه البخاري، وعن عبد اللَّه بنِ عمرو بنِ الْعَاصِ, قال: قال رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : «يا عبدَ اللَّهِ, لا تَكُنْ مِثْلَ فُلانٍ، كانَ يَقُومُ اللَّيْلَ ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ». رواه مسلم .
وهذا يدل على أنّ ترك قيام شيء من الليل على الدوام، نقصٌ في إيمان الرجل وعمله، وقيام الليل يتحقق ولو بركعتين من بعد العشاء، ثم يوتر بركعة، وأفضله بعد شطر الليل، أو في ثلثه الأخير.
فضل القيام
- ومن فضل القيام : ما رواه عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيها الناس، أفشوا السَّلام، وأطْعموا الطعامَ، وصِلوا الأرحام، وصَلّوا بالليلِ والناس نيام، تَدْخلوا الجنة بسلام». رواه الترمذي، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى ترم قدماه، وفي رواية: ساقاه. رواهما البخاري.
المؤمن لا يهجر القرآن
ولئن كان رمضان هو شهر القرآن الذي أنزل فيه، ويكثر فيه المسلمون من قراءته وسماعه في أيامه ولياليه؛ فإن المؤمن لا يهجر كتاب الله -تعالى- في غير رمضان، بل هو كتابه الأول يتلوه ليلاً ونهارا، سراً وجهارا، سفراً وحضراً، لا يفارقه أبداً، قال -عز وجل-: {الذين آتيناهم الكتابَ يتلونه حقَّ تلاوته أولئك يُؤمنون به}(البقرة: 121)، وقال -سبحانه-: {إنّ الذين يتلونَ كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور}(فاطر: 29)، وقد أثنى الله -تعالى- على طائفة من أهل الكتاب بقوله: {من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون}(آل عمران: 113).
أهل القرآن
وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أهل القرآن، بالمحافظة على قراءته، ومعاهدة حفظه؛ فقال: «تَعاهدوا القُرآن؛ فوالذي نفسي بيده، لهو أشدُّ تفصّياً من الإبل في عُقلها». متفق عليه، وعَن ابْن عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَال: «إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ، كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ». رواه البخاري (5031).
والمعروف أن الإبل إذا ذهبت وتفلتت من صاحبها، لا يقدر على الإمساك بها إلا بعد تعب ومشقة؛ فكذلك صاحب القرآن إن لم يتعاهد حفظه بالتكرار والمراجعة انفلت منه واحتاج إلى مشقة كبيرة لاسترجاعه.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (9/79) في شرحه لهذا الحديث: ما دام التعاهد موجوداً؛ فالحفظ موجود، كما أن البعير ما دام مشدوداً بالعقال فهو محفوظ، وخصّ الإبل الذكر؛ لأنها أشد الحيوان الإنسي نفوراً، وفي تحصيلها بعد استكمان نفورها صعوبة. انتهى .
الصدقات لا تنقضي
ولئن كان رمضان هو شهر الزكاة لأكثر المسلمين؛ فإن صدقات المتصدقين، وإنفاق المنفقين الخيرين، لا ينقضي ولا ينتهي، بل هو مستمر دائم على مرّ الأيام، بالليل والنهار، كما قال الله -عز وجل-: {الذين ينفقون أموالهم بالليل و النهار سِراً وعلانية فلهم أجرُهم عند ربّهم ولا خوفَ عليهم ولا هم يحزنون}(البقرة: 274)، وقال: {والذين في أمْوالهم حقٌ معلوم للسّائل والمحروم}(المعارج: 25- 26)، وهذا يدل على دوام إنفاقهم في كل وقتٍ وحين، وليس خاصاً بزمنٍ دون زمن؛ لأنَّ الفقراء والمساكين حاجاتهم مستمرة؛ فلا يغفل عنهم المسلم بقية العام .
قال ابن عباس : هو سوى الصدقة – أي الزكاة - يصل بها رحمه، أو يقري بها ضيفاً ، أو يحمل بها كلا، أو يُعِين بها محرومًاً. رواه الطبري .
وقد روى البخاري في صحيحه: عن عبد الله ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيُدارسه القرآن؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم أجودُ بالخير من الريح المرسَلة»؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس دوما، وكان أجود ما يكون في رمضان؛ فهو صلى الله عليه وسلم كان جوده وكرمه صفة لازمة له، بل كما وصفه أصحابه أنه ما سئل شيئاً قط؛ فقال: لا، وجوده كان بكل أنواع الجود، بالمال، وبالعلم، وبالبدن وبالجاه .
الجود أعم من الصدقة
فالجود وهو الكرم، هو في الشرع أعم من الصدقة؛ ولذا عرّفه بعضهم بأنه: إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، لكن من أعظم مظاهره: بذل المال، وإلا فالشهيد يجود بنفسه في سبيل الله -تعالى-، وفاعل الخير يجود بنفسه في خدمة إخوانه، والعالم يجود بوقته وعلمه في سبيل نشر العلم، وكهذا. وتشبيه جود الرسول صلى الله عليه وسلم بالريح المرسلة، بل هو أجود بالخير منها: فيه دلالة على أمرين عظيمين: السرعة، كالريح؛ فهو سريع في بذل جوده دون تلكؤ أو توانٍ، وأيضاً وصف جوده بالريح بالمرسلة: إشارة إلى أنها ريح خير تهبّ بالرحمة للجميع؛ فهي إشارة أيضًا إلى عموم النفع بجوده، كما تعم الريح المرسلة جميع من تهبّ عليه من البلاد.
دوام الإطعام
ولئن كان شهر رمضان هو شهر إطعام الطعام للفقراء، والأقرباء، والجيران، والأصحاب؛ فينبغي أن يدوم ذلك، كما قال -عليه الصلاة والسلام- لأبي ذررضي الله عنه : «يا أبا ذر، إذا طَبختَ فأكثر المرق، وتَعاهد جيرانك». رواه مسلم .
المسلم الحق
- وأخيرا: فالمسلم الحق : هو من يخاف من عدم قبول الأعمال، كما قال -تعالى-: {إنما يتقبل الله من المتقين}(المائدة: 27)؛ فعن أبي الدرداء؛ لأنْ أستيقن أن الله قد تقبل مني صلاة واحدة، أحب إلي من الدنيا وما فيها، إن الله يقول: {إنما يتقبل الله من المتقين}(المائدة: 27).
وكان السلف يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله، وهؤلاء الذين قال الله فيهم: {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة}(المؤمنون: 60). أي: خائفة من عدم القبول، وهذا من حذرهم أن يكون العمل فيه دغل، كأن يكون لغير الله -تعالى-، أو يكون فيه خللٌ أو نقص يوجب فساده.
تكفير السيئات
- ولا بد من العلم: أن تكفير السيئات في رمضان، مشروط بترك الكبائر من الذنوب، كما قال -عليه الصلاة والسلام- : «الصلواتُ الخمس، والجمعةُ إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفراتٌ لما بينهن، إذا اجتُنبت الكبائر». رواه مسلم؛ فاللهم نسألك دوام فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وتتوب علينا، وإذا أردت بعبادك فتنة؛ فاقبضنا إليك غير مفتونين، يا سميع الدعاء.
لاتوجد تعليقات