ماذا بعد حظر النقاب في فرنسا?! خرق لحقوق المواطنة ووصاية على الضمير.. وتشريع للكراهية
صادق البرلمان الفرنسي يوم 13 يوليو 2010م على قانون حظر النقاب في البلاد بعد أيام من (المحاكمة) بدون حضور أي ممثل للضحايا للدفاع, أي إننا شهدنا محاكمة على غرار محاكم التفتيش في القرن لـ 15. ومن المفارقات أن يكون حظر الحجاب في القرن الخامس عشر الهجري, بينما كانت محاكم التفتيش في القرن 15 الميلادي.
وكما كانت محاكم التفتيش القروسطية (الكنسية), تعبيراً عن الجو العام المعادي لكل ما هو غير نصراني وتحديدا الكاثوليكي, فإن الأجواء التي تتم فيها عملية تفعيل (الإسلاموفوبيا) من حالة ذهنية, إلى إجراءات قروسطية علمانية, وقد دعا البعض إلى ذلك جهارا, وهو الإيغال في القرون الوسطى العلمانية, فقد بلغت نسبة المؤيدين لحظر النقاب أكثر من 75٪ بفرنسا. وقد سبقت بلجيكا فرنسا في هذا المضمار والتي أقرت قانونا مماثلا في أبريل الماضي (2010 م).
عودة محاكم التفتيش:
ما تفوقت فيه محاكم التفتيش الجديدة عن نظيرتها القروسطية, هو كم الدعاية, والديماغوجية المرافقة لطبول الحرب على النقاب، فعلى الرغم من أن القانون خرق لحقوق المواطنة, وووصاية على الضمير, فإن الضحايا وبموجب القانون أصبحوا مجبرين على الخضوع لبرنامج تأهيلي على (المواطنة) ويا للمفارقة! كما تجبر الملتزمة بالنقاب على دفع غرامة تترواح بين 150 و190 يورو, وهو نوع من الاسترقاق والسادية الثقافية. وحتى يعطى للإجراء الإرهابي بعد إنساني مزيف, ألحق بالقانون مادة تجرم من يجبر امرأة على لبس النقاب وتغرمه 15 ألف يورو, وقد تصل الغرامة إلى 19 ألف يورو؛ لتبدو العملية كما لو كانت حماية للمرأة, بينما في الحقيقة إلغاء للآخر ومسح له ووصاية عليه. وهو ما تفطنت إليه المنظمات الحقوقية كمنظمة العفو الدولية التي رفضت منطق الأبوية المزيفة, والاضطهاد الثقافي الذي يلغي الآخر لمجرد الخوف منه أو من لباسه. بينما واصل ساركوزي شطحاته, باعتبار النقاب رمزا دينيا ودليلاً على فقدان المرأة لحريتها وكرامتها وإذلالاً للجنس الآخر, وهو ما قام به فعلا, فكيف لامرأة لا تجد حريتها وكرامتها إلا في ارتداء النقاب, وترى أن منعها من لبسه إذلال لها, كيف سمح لنفسه أن يفرض عليها مفاهيمه السابقة التي تتناقض وقناعاتها?!
كيف يمكن لساركوزي أو أي ساركوزي في العالم أن يفسر معاناة المنقبات وأهاليهن؟! كذلك الفرنسي الذي طلب مساعدته على دفع الغرامات التي سلطت على زوجته, أو رجل الأعمال الفرنسي الذي عرض بعض ممتلكاته للبيع لمساعدة المنقبات الفرنسيات على دفع تلك الغرامات (العار) في تاريخ الجمهورية الفرنسية.
من يريد إثارة القلاقل بين الحكومات الغربية والمسلمين في أوروبا, من يصب الزيت على النار حتى لا تتآخى الإنسانية ويعيش كل أنموذجه من دون تنميط للآخرين, والتدخل في خصوصياتهم. من يهمه استمرار الهجوم الأيديولوجي ضد الإسلام والمسلمين, في الغرب والعالم. وهل من وقفة ضد الفاشية التي تستهدف الإسلام والمسلمين في كل مكان؟!
العالم في حاجة لثورة ثقافية للتحرر من العلمانية, بحكم أنها أصبحت «وصاية على الضمير » ونتج عن ذلك حالة مرضية داخل مراكزها وحدائقها الخلفية, اسمها « مرض التلبس» وهو مرض يرى صاحبه صورته غير المحببة لديه في الآخر، يدفعه ذلك لكراهيته, بدل كراهية الذات. وهو ما نلاحظه في عدد من الدول الأوروبية العلمانية, وبعض الدول المتخلفة, والاستبدادية في نفس الوقت, مثل النظامين التونسي والسوري؛ مما يعني أن العلمانية التي يروج لها في العالم الإسلامي, نقيض للإسلام, وليست مجرد قراءة له.
الحرب على النقاب في أوروبا:
إن دفاعنا عن النقاب, نابع من رفضنا الوصاية على الضمير, بقطع النظر عن موقفنا الشخصي. فالحرب على النقاب, قد تكون أيضا مقدمة للحرب على الحجاب (تونس نموذجا) , وربما على صلاة الجماعة, كما هي الحال في الساحة الطلابية بتونس أيضا، في الوقت الراهن. وفي هذا الإطار تأتي عملية فصل منقبة تعمل أستاذة لمادة الرياضيات في إحدى المدارس البلجيكية, بعدما رفضت خلع النقاب. وكانت إدارة المدرسة الثانوية البلجيكية والمسؤولون فيها قد قاموا في بداية العام الدراسي بإلزام المعلمة التركية الأصل بخلع النقاب, والتي كانت ترتديه خلال سنتين ونصف السنة أمضتهما في المدرسة بمدينة «شارل لاروا» الواقعة جنوب بروكسل، إلا أن المعلمة أصرت على ارتداء النقاب ورفعت دعوى قضائية. وبعد إصدار المحكمة حكما لمصلحة إدارة المدرسة, نقضت محكمة الاستئناف الحكم السابق على اعتبار أن المدرسة الثانوية المذكورة تقع ضمن إدارة ولاية «شارل لاروا» والتي لم تحدد قواعد بخصوص حظر الرموز الدينية. ثم عادت الأستاذة إلى المعهد لكن مجلس بلدية «شارل لاروا» قام بعد ذلك بتعديل قوانينه لتقضي بحظر «أي رمز ديني» مما يمنع المعلمات اللاتي يرتدين الحجاب والنقاب من مزاولة عملهن التربوي. وهكذا نرى أن السكوت على شيء في بلد ما, أو مكان ما لا يعفي الآخرين من وصول الضرر إليهم؛ لأنهم لم يرفعوا عقيرتهم برفع الوصاية على الضمير الإنساني، بعد أن أصبحت القوانين تصدر حسب المقاس, الرافض للتنوع, حتى وإن صدم قناعات البعض.
محاكم التفتيش تعود إلى إسبانيا :
لم تكن محاكم التفتيش, مرحلة تاريخية مظلمة في تاريخ أوروبا عامة, وإسبانيا خاصة, إنما حالة من (الشيزوفرينيا) المقيتة, والتلبس, تصيب أقواما يضيقون بالاختلاف, ويفرضون وصاية على الضمير, ويحتكرون تفسير النصوص, سواء تعلق الأمر بالقانون, أو الشريعة, أو غيرهما من القيم واللوائح والنظم المحلية والعالمية، فقد قررت مدينة برشلونة حظر النقاب في الأماكن العامة, لتصبح أول مدينة كبيرة في إسبانيا تحظر النقاب. وأكد المجلس البلدي في برشلونة في بيان بهذا الخصوص أن «برشلونة ستحظر ارتداء النقاب وأي شيء يعوق تحديد الهوية الشخصية في أي منشآت عامة بالمدينة » وقال ألبرتو فرنانديز مستشار الحزب الشعبي المحافظ, في برشلونة على موقعه على الإنترنت: «استخدام النقاب يقوض كرامة وحرية النساء » على حد زعمه. ودعا فرنانديز إلى ضرورة حظر ارتداء المسلمات للنقاب في الشارع, واصفا مرسوم رئيس بلدية برشلونة بأنه نصف إجراء. وكان رئيس بلدية برشلونة خوردي إيريو قد رفض نداءات لمتشددين إسبان تطالب بفرض حظر على النقاب في كل الأماكن العامة في ثانية أكبر المدن الإسبانية. كما قرر مجلس مدينة كوين الإسبانية, حظر النقاب والبرقع في الأماكن العامة والمؤسسات, وبهذا يصبح أول مجلس في (الأندلس) يحظر النقاب, وكان قد سبقه إلى ذلك عدة بلديات, في كتالونيا, مثل برشلونة, وليريدا, والفيندريل, وتارجونا, في حين امتنعت مدينة جيرونا عن اتباع هذا القرار, مؤكدة أنها ستسمح بارتداء الحجاب ولن تقوم بحظره.
ويبلغ عدد المسلمين في اسبانيا, نحو 1.4 مليون نسمة أي 3٪ من تعداد السكان, وفقا لإحصاء اللجنة الإسلامية في إسبانيا والذي أجرته العام الماضي.
وكانت حكومة باريس قد أقرت في مايو 2010م مشروع قرار يحظر ارتداء النقاب في الأماكن العامة مثل الأسواق والمكتبات. كما صوت مجلس النواب البلجيكي لصالح حظر النقاب, وقرار الحظر قيد النقاش في بلدان أخرى؛ مما يثير ولا يزال غضب الكثير من المسلمين في أوروبا والعالم.
فرنسا الظلمات :
لطالما تغنت فرنسا بأنها بلاد الأنوار والحريات, لكنها باتت اليوم, بلاد الوصاية على الضمير, واحتكار تفسير المصطلحات (الكرامة) و (التحرر) وغيرهما من المصطلحات التي يختلف تفسيرها من نظام إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى, ومن حقبة تاريخية إلى حقبة تالية. فقد جدد رئيس الوزراء الفرنسي, فرانسوا فيون, يوم 28 يونيو 2010 م هجومه على النقاب, وقال: إن حكومته ما زالت ترفض ارتداء المسلمات في البلاد النقاب, معتبرا أن النقاب «مظهر عدائي» وهو موقف مرضي كما ذكرنا في بداية هذا المقال اسمه مرض «التلبس». بل ذهب إلى أبعد من ذلك, عندما وضع نفسه في موقع المفتي بوصفه النقاب «انحرافا عن الرسالة الدينية» وبلغ به الشطط مبلغه عندما وصف المنقبات بأنهن «أعداء إسلام فرنسا» ووصل به التطرف إلى حد دعوة المسلمين إلى الوقوف في وجه المنقبات.
ما هذا يا فرنسا? هل تغيب حرية المرأة عندما تختار النقاب?! هل يمكن دعوة الناس لاضطهاد امرأة لأنها اختارت النقاب?! هل عادت محاكم التفتيش من خلال الموقف من النقاب, والذي لا يكتفى فيه بالمنع في الأماكن العامة, بل بدفع 150 يورو, وتغريم أزواجهن بغرامة 15 ألف يورو, كيف تعودون لوصاية الرجل على المرأة وتحمل المسؤولية عنها, وأنتم تزعمون أن المرأة لها حق اختيار نمط ونسق حياتها?! أمن كل ذلك البناء المختل ينهار فجأة عندما يتعلق بحرية اختيار المسلمة للباسها أو أي شيء ليس وفق مواصفاتكم؟!
بين متنقبة حقيقية وأخرى مزيفة :
ارتدت (صحافية) فرنسية تدعى إليزابيت إلكسندر, تعمل مع مجلة (ماري كلير) الفرنسية, النقاب لمدة 5 أيام, وانطلقت في شوارع باريس, بغرض الكتابة عن التجربة, وتوثيقها بالصور, ومعايشة (مشاعر) المتنقبات. وقد قامت بكتابة مقال طويل, ممتلئ بالمشاعر التي ارتسمت في مخيلتها قبل التجربة, فهي قد حصلت على ما أرادت الحصول عليه, وكتبت «كأنني تحت خيمة» و«العباءة تلتف على ساقي وأكاد أتعثر» و«كنت وكأنني ثقب أسود يشفط كل الأفكار والكلمات, كنت بالنسبة للبعض شيئا مرهقا ومتعبا وكأنني شخص مسخ ومشوه وبغيض» كانت تلك الصورة التي تنظر بها هي فعلا للمتنقبات, ثم عندما لبست ذلك الكريه والبغيض والمشوه, في نظرها, أحست بالفعل بمشاعرها الذهنية وهي مجسدة في ذلك الذي تكرهه. رأت هذه (الصحافية) نظرات الرجال كما لو كانت جماعة من المهووسين جنسيا, الذين يريدون بها وبجسدها شرا, وعليها أن تحمي طهارتها. وكانت تلك مجرد أفكار مسبقة, فهي لا تشعر بذلك إطلاقا, ولو كانت تلك مشاعر حقيقية أو قل وصفا حقيقيا لمشاعر من تلبس النقاب, لما رأينا بعض من ترسلهن مخابرات بعض الدول لتشويهه على شواطئ البحار, أو في الأماكن الموبوءة, ومن تتخفى فيه لمآرب أخرى، واستخدام لباس من أجل غايات مخالفة لغايات غير التي تدفع المتنقبات الحقيقيات للبسه, لا يبرر اتخاذ موقف مناف له, فطالما اتخذ لباس الأطباء والممرضين, وعمال النظافة, وحتى الشرطة, لارتكاب جرائم, ولم يدع أحد لمنع هذه الألبسة من التداول.
في المقابل تقول أمريكية من أصول مصرية تلبس النقاب عن قناعة وليس بخلفية إبليسية أو (تلبسية) كما سلف: «النقاب حررني» ذلك باختصار التعبير الحقيقي عن مشاعر امرأة متنقبة عن قناعة بالنقاب, مهندسة تدعى هبة أحمد والتي ارتدت الحجاب ثم النقاب في أعقاب أحداث 11 سبتمبر, وواجهت الكثير من الضغوط والاعتداءات اللفظية التي وصفتها (الارهابية) وقد نشرت صحيفة (نيويورك تايمز ) حديثا مطولا معها بتاريخ 13 يونيو 2010م ذكرت فيه أنها كانت تعتقد كما تعتقد الكثيرات, ومنهن تلك الصحافية الفرنسية, علما بأن هبة حاصلة على درجة الماجستير في الكيمياء الميكانيكية, ورأت أن النقاب هو ما يجب أن ترتديه, بقطع النظر عما يقوله الآخرون في تفسير دوافع قرار التنقب من الناحية البيولوجية والثقافية. وهكذا نجد تفسيرين مختلفين ومشاعر متناقضة لكل من المهندسة وتلك الصحافية الدخيلة على ثقافة تحتاج للإيمان وليس الممارسة فقط، فأيهما يحكم على الآخر, أم نترك كل أحد وما يراه مناسبا لحياته التي لا تخص الآخرين؟! وإذا دخلنا في مناقشات فلسفية فسنجد جميع المبررات لكلا الطرفين لفرض نموذجه, فلماذا يتعب البعض نفسه في نفي الآخر من خلال نفي اختياراته واستهجانها ورميها بكل نقيصة وعيب وحتى أبعد من ذلك?!
سورية في صف من?!
بعد حرب الاستئصال التي يشهدها الحجاب في تونس, وليس النقاب فحسب, وبعد الإجراءات المصرية ضد الطالبات المتنقبات, والصحافيات المحجبات في التلفزيون الرسمي, وبعد قرار وزير داخلية الجزائر إصدار جوازات سفر يفرض فيها على المحجبات قبل المتنقبات خلع الحجاب أو إظهار الأذنين ومقدمة شعر الرأس, أصدرت الحكومة السورية عن طريق وزير (التربية) علي أسعد قرارا يقضي بنقل 1200 معلمة متنقبة إلى وزارة الإدارة المحلية, وتحديدا إلى البلديات, في إجراء يهدف إلى ما اعتبره «الحفاظ على العمل العلماني الممنهج»، على أن تتبعها خطوات مماثلة في وزارات أخرى!!
وأشار الوزير الذي هو في الحقيقة مجرد منفذ للسياسات (العليا) إلى أن إبعاد «1000 متنقبة من السلك التربوي نصفهن من المتعاقدات كان أمرا لا بد منه؛ لأن العملية التعليمية تسير نحو العمل العلماني الممنهج، وهذا الأمر لا يتوافق مع متطلبات الواقع التربوي لتتكامل الإيحاءات والحركات وتعابير الوجه وإيصال المعلومة للطلبة» والحقيقية أن الإيحاءات والحركات المقصودة في تعبير الوزير لا تتعلق بتعابير الوجه بل بالإيحاءات والحركات التي يقوم بها النظام السوري لمغازلة الجهات الأجنبية, ومنها فرنسا. وإن اتخذ طابع الهجوم على الإسلاميين.
وإذا كان هناك من سؤال فهو كم من جرائم ترتكب باسم العلمانية? وكم من جرائم تبرر باسمها? وهل بقي شك في أن العلمانية بصورتها القذرة والخبيثة هذه, ضد حرية الإنسان, واختياراته, وإلى أي مدى تحول العلمانية دون قيام مجتمع التعايش والتعدد الفكري, وهل هناك قيمة اسمها اختلاف التنوع, في هذه العلمانية?!
لاتوجد تعليقات