ماذا بعد الحج؟
قبل الإجابة عن تساؤل ماذا بعد الحج؟ من المعلوم أنه في الأيام القليلة الماضية، قضى الحجاج عبادة من أعظم العبادات، وقربة من أعظم القربات، وركنا من أركان الإسلام الخمسة، فتشرفوا بالطواف بالبيت العتيق، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفات، ثم بعد ذلك إلى رمي الجمرات، وبقية مناسك الحج المبارك، في رحلة من أروع الرحلات، وسياحة من أجمل السياحات.
وها هم أولاء حجاج بيت الله الحرام قد عادوا إلى أوطانهم، ورجعوا إلى أهليهم، وباشروا أعمالهم، فإلى كل من تشرف بحج البيت العتيق، إليك هذه الوقفات من قلب محب لك وناصح مشفق عليك.
الوقفة الأولى:
شكر الله -عز وجل
يا من حج بيت الله الحرام، اشكر الله -عز وجل- على ما أولاك، واحمده على ما حباك وأعطاك، من نعمه وبره، وخيره وعطائه وإحسانه، فهو -سبحانه- مصدر النعم كلها، قال -تعالى-: {وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (النحل:53). وقال -تعالى-: {وَإِنْ تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النحل:18)، وينبغي للحجاج أن يفرحوا بما آتاهم الله من فضله، ووفقهم لطاعته وعبادته، وحُق لهم ذلك؛ فهو الفرح الحقيقي الدائم، كما قال ربنا -سبحانه-: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} (يونس:58).
الوقفة الثانية:
ظُن بربك الظن الحسن
على الحاج أن يظن بربه الظن الحسن الجميل، وأن يؤمِّل به الخير الجزيل، وأن يقوّي رجاءه بالله -تعالى-، في قبولِ حجه وطاعته، ومحْوِ ما سلف من ذنوبه وسيئاته، فقد جاء في الحديث القدسي: عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «قال الله -تعالى-: أنا عند ظنِّ عبد ي بي» أخرجه الشيخان. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ حجَّ البيتَ فلم يرفث ولم يَفْسق، رجعَ من ذنوبه كيومِ ولدته أمه «متفق عليه، وعن عائشة -رضي الله عنها- زوجُ النبي - صلى الله عليه وسلم- قالت: سألت رسول الله عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} (المؤمنون 60) فقلت: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ فقال: «لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون ألا تُقبل منهم {أُوْلَـئِكَ يُسَـارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَهُمْ لَهَا سَـابِقُونَ} (المؤمنون:61). أخرجه الترمذي.
الوقفة الثالثة:
الحذر من ارتكاب المعاصي والسيئات!
يا من حجَّ البيت العتيق، وتشرف بزيارة البلد الحرام، ولبيت ربك وأجبته، مرةً بعد مرة، في هذه المناسك المباركة، ها أنت ذا الآن وقد كَمُلَ حجك، وتمَّ تفثُك، بعد أنْ وقفت على هاتيك المشاعر، وأديت تلك الشعائر، قد رجعت إلى ديارك سالما غانما، فاحذر كل الحذر من العودة إلى فعل السيئات، وارتكاب المحرمات! فتهدم ما بنيت، وتُبعثر ما جمعت، وتنقض ما أحكمت، قال -سبحانه- ناهياً {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـاثًا} (النحل:92)، فقد فتحت في حياتك صفحةً بيضاء نقية، ولبستَ بعد حجك ثيابًا طاهرة نقية، فحذار حذار من تسويد صحيفتك بالأفعال والأقوال المحرمة! فما أحسن الحسنة تتبعها الحسنة! وما أقبح السيئةِ بعد الحسنة!
الوقفة الرابعة:
للحج المبرور أمارة وعلامة
إنَّ للحج المبرور أمارة، ولقبوله علامة، سُئل الحسن البصري -رحمه الله تعالى-: ما الحج المبرور؟ قال: أنْ تعودَ زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة. وقال بعض السلف: إن من ثواب الحسنة، الحسنة بعدها، فما أجملَ أنْ يعود الحاج بعد الحج إلى أهله ووطنه، وقد ازداد إيمانه، واستقام حاله، وحسن خُلُقه، وكمل وقاره، وزاد ورعه وتقواه! فإن الحج بمناسكِه يُعرّفك بالله -تعالى-، ويذكرك بحقوقه -سبحانه-، وبخصائصِ ألوهيته -جل في علاه-، وأنه لا يستحقُ العبادةَ سواه، فمن يعودُ بعد الحج بهذه الصفات الجميلة، والخلال الجليلة، فهو حقًا من استفاد من الحجِ وأسراره، ودروسه وآثاره.
فأين أثرُ الحج فيمن عاد بعد حجَّه مُضيعًا للصلاة، مانعًا للزكاة، آكلاً للربا والرُشا، عاقا لوالديه، قاطعًا للأرحام، والغًا في الموبقات والآثام؟! فيا من امتنعتَ عن محظورات الإحرامِ في أثناء حج بيت الله الحرام، اعلم أنَّ هناكَ محظورات على الدوام، وطولَ الدهر والأعوام، فاحذر إتيانها وقربانها! قال -تعالى-: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّـالِمُونَ} (البقرة:229)، فليكن حجك حاجزًا لك عن مواقعِ الهلكات، ومانعًا لك من الموبقات المُتلفات، وباعثًا لك إلى المزيد من الخيرات، وفعلِ الصالحات، واعلم أنَّ المؤمن ليس له منتهى من صالحِ العمل إلا حلولُ الأجل، كما قال الله -تعالى-: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} (الحجر:99 ).
الوقفة الخامسة:
التوحيد الخالص
إنَّ مناسك الحج كلها تذكرك بالتوحيد وإخلاص الدين لله -تعالى-، من أول قولك: لبيك لا شريك لك، ويذكرك بأنَّ الله -تعالى- هو الأحدُ الذي تُسلَم النفس إليه وحده لا شريك له، ويوجَّه الوجه إليه، وأنه الصمدُ الذي له وحده تَصْمُد الخلائق في طلب الحاجات، وتفريج الكربات، فكيف يهون عليك بعد ذلك أنْ تصرف حقا من حقوق الله -تعالى- من الدعاء، والاستعانةِ والاستغاثة، والذبح والنذر إلى غيره؟! فأي حجٍّ لمن عاد بعد حجه يفعل شيئًا من ذلك الشركِ الصريح؟! أي حجٍ لمن حج ثم يأتي السحرة والمشعوذين، ويُصَدِّقُ أصحابَ الأبراج والتنجيمِ، ويتبرك بالأشجار، ويتمسح بالأحجار، ويعلق التمائمَ والحروز؟!
وهكذا من لبى لله في الحج مستجيبًا لندائه، كيف يلّبي بعد ذلك للدعوات أو المبادئ أو المذاهب الأرضية، التي تناقض دين الله الحق، الذي لا يُقبل من أحدٍ دينا سواه؟ من لبّى لله في الحج كيف ينقادَ لغير حُكمه، أو يرضى بغير رسالة نبيه - صلى الله عليه وسلم؟! من لبى لله في الحج، فليلبِّ له في كل مكان وزمان بالاستجابةِ لأمره، لا يتردد في ذلك ولا يتخير، ولا يتمَنَّعُ ولا يضجر، وإنما يَذِّلُ ويخضع، ويطيع ويسمع.
لاتوجد تعليقات