رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: سليمان بالدو 17 يناير، 2011 0 تعليق

ماذا بعد الاستفتاء؟

إنه أمر محسوم أن يختار الجنوبيون الاستقلال عن الشمال في الاستفتاء حول تقرير المصير الذي يجري. بيد أن رد فعل حزب المؤتمر الوطني الحاكم على انفصال الجنوب الغني بالموارد، وصمود اللحمة الداخلية للحركة الشعبية لتحرير السودان في الجنوب بعد الاستفتاء يثيران مخاوف عميقة على الصعيد المحلي، ولدى جيران السودان العرب والأفارقة، وداخل المجتمع الدولي.

     لقد كان الوصول إلى هذه المرحلة صعبا بما فيه الكفاية؛ واقتضت إدارة عملية سلمية ممارسة ضغوط شديدة على الطرفين ومما كانت سبباً لإقناعهما بتوقيع اتفاق السلام الشامل عام 2005.

«المواطنية» ذات حدين

     بدأت الاستعدادات للاستفتاء متأخرة، وسارت المفاوضات حول المسائل الحساسة ببطء. فالمحادثات التي تمت بوساطة من الاتحاد الأفريقي حول وضع منطقة (أبيي) المتنازع عليها ومسائل مترابطة مثل ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب، والمواطنية، وتقاسم العائدات النفطية، راوحت مكانها مع عدم إظهار الجانبين استعدادا فعليا لتقديم تنازلات. في البداية، بدا أن المتشددين في الخرطوم يسعون إلى افتعال معركة على خلفية النتيجة المتوقعة. والأكثر إثارة للقلق كانت التصريحات الصادرة عن العديد من المسؤولين الحكوميين والحزبيين المنتمين إلى حزب المؤتمر الوطني الذين دعوا إلى طرد الجنوبيين الذين يعيشون في الشمال ويقدر عددهم بنحو مليوني نسمة، انتقاما من التصويت لصالح الانفصال. صحيح أن الحزب الحاكم لجم لاحقا التصريحات الرسمية المعادية علنا للجنوبيين، لكنه استمر في استخدام «المواطنية» أداة سياسية في مفاوضات الوضع النهائي عبر الإصرار على حرمان الجنوبيين الذين يعيشون في الشمال من «الحريات الأربع»، أي الإقامة والعمل والتنقل والتملك، التي منحتها الحكومة على سبيل المثال للمصريين المقيمين في السودان. من شأن تصلب المواقف في موضوع المواطنية أن يلحق الضرر بالسكان على جهتي الحدود، كون العديد من الجنوبيين مندمجين اقتصاديا في الاقتصادات الريفية للمجتمعات الشمالية المحاذية، لاسيما كعمال زراعيين وحرفيين.

النفط أمن التسوية

     بغض النظر عن التصريحات العامة المثيرة للانقسام والحملات الإعلامية الرسمية المعادية، دفعت اعتبارات براغماتية بالحركة الشعبية لتحرير السودان وحزب المؤتمر الوطني إلى الموافقة، ولو على مضض، على المسائل العالقة؛ حيث يحافظ الجنوب على اعتماده الكامل على العائدات النفطية التي يجب تقسيمها بالتساوي مع الخرطوم بموجب أحكام اتفاق السلام الشامل، في حين أصبحت الخرطوم تعتمد أيضا على الإيرادات من حقول النفط الجنوبية التي تؤمن ثلاثة أرباع الإنتاج النفطي الوطني. تصب التسوية المستندة إلى الاستمرار في تقاسم العائدات النفطية في مصلحة الطرفين؛ إذ إنه لا مخرج للجنوب إلى البحر في حين أن كل مصانع تكرير النفط وخطوط الأنابيب المستخدمة في التصدير تقع في الشمال.

دارفور وحركات التمرد

      في الوقت نفسه، استمر تدهور الوضع الأمني في دارفور مع سعي القوات الحكومية إلى معاقبة أنصار حركة العدل والمساواة وفصيلي حركة تحرير السودان في دارفور. هذه المجموعات تنتظر الآن ما ستؤول إليه الأمور، أملا في أن يدعم جنوب السودان المستقل مطالبها بوضع ترتيبات فعلية لتقاسم السلطة والثروات في دارفور وتعويضات مجدية عن ضحايا الحرب؛ الأمر الذي أظهرت الحكومة ترددا في القيام به حتى الآن.

     فضلا عن ذلك، تملك مجموعات أقلية كبرى أخرى في جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق؛ حيث كانت الحركة الشعبية لتحرير السودان شريكا في الحكم مع حزب المؤتمر الوطني طوال المرحلة الانتقالية الممتدة لست سنوات إنما من دون تعبئة عشرات الآلاف من مقاتليها، روابط إثنية وسياسية قوية مع الجنوب. وفي مؤشرمهم، أطلق قادة كبار في الحركة الشعبية لتحرير السودان في ولايتي جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق وفي المعارضة الوطنية، تهديدا يكاد يكون مكشوفا بالعودة إلى الحرب إذا جرى محو بعد الاستفتاء المكاسب التي تحققت بشق النفس لمصالح الأقليات التي يمثلونها في الشمال. من شأن التقاء حركات التمرد في دارفور وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق أن يضع شمال السودان، الدولة الجديدة الأخرى التي ستنبثق عن استفتاء يناير، على فوهة بركان.

مكامن القلق

     في الجنوب، يثير سؤالان أساسيان القلق: هل ستصمد وحدة الهدف الحالية التي ولدها الاستفتاء بعد انتهائه؟ وكيف سيحقق الجنوب المستقل الازدهار الاقتصادي؟ على الأرجح أن التشنجات الإثنية والسياسية التي لا تزال تؤجج العنف المحلي بين المتحدات المجتمعية في المنطقة سوف تتفاقم أكثر فأكثر في الدولة الجديدة الناشئة.

     وأخيرا، سيتعين على الدولة الجديدة اعتماد معايير شفافة وديموقراطية للحاكمية، كما أنه يجدر بها ألا تكون متسامحة على الإطلاق في التعامل مع فساد المسؤولين كي لا تتحول إلى دولة فاشلة.

وهم المعونات

     من البديهي الإشارة إلى أن حديث البعض عن سعي الغرب لدعم الدولة الوليدة بالمعونات والخبرة والاستثمارات أمر مشكوك فيه بقوة ولا تدعمه تجربة مماثلة، وبل العكس قد يكون الصحيح فالسعي إلى تفتيت السودان وتعميم تجربة تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ في العالم العربي هو الهدف الأهم من وراء دعم محاولات الانفصال، وليس إيجاد دولة قوية في الجنوب وليس أدل على ذلك من تجربة انفصال تيمور الشرقية عن إندونيسيا فقد قدم الغرب الوعد تلو الآخر للتيموريين بالرخاء والتنمية والمعونات وهو ما لم يتحقق، بل إن هذا الإقليم الذي كان يتمتع برعاية الدولة الإندونيسية غدا من أفقر البقاع في العالم وهو أمر مرشح للتكرر بقوة في جنوب السودان بل إن مواطني الجنوب عليهم النظر إلى دول جوارهم خصوصًا في إثيوبيا التي يعتبرها الغرب رأس حربة لمخططاته في القرن الإفريقي، فماذا قدم لشعبها الفقير ولدولة الجوار الإريترية.

     لذا فكل الأوضاع في الجنوب تسير في اتجاه وجود دولة فاشلة لا تتمتع بأدنى متطلبات الدولة، كما يؤكد السفير عبد الله الأشعل مساعد وزير الخارجية المصري السابق بقوله: نحن أمام دولة تشبه الصومال فلا بنية أساسية ولا تتوافر لها أجهزة أمنية ولا كوادر قادرة حتى على العمل بوصفهم موظفين في دواوينها ولا فريق عمل دبلوماسي قادر على تنظيم علاقاتها الخارجية ولا قوات حرس حدود قادرة على حماية حدوده ولا تماسك اجتماعي قادر على لم شملها، بل هناك خصوما أقوياء للدينكا لن يقفوا مكتوفي الأيدي تجاه هيمنتها على مقدرات الجنوب.

كيان هش

     وتابع لا شك أن التركيبة الإثنية والاجتماعية في الجنوب تشكل قنبلة موقوتة تهدد بالانفجار في أي وقت وهو ما قد يسمح بارتهان هذه الدولة الوليدة لعدد من دول الجوار بل إن هذه الأوضاع المضطربة قد تعطي فرصة سانحة لخلايا القاعدة النائمة للعمل انطلاقا من جنوب السودان مستغلين معاناة بعض قبائل الجنوب من التهميش والأوضاع السيئة جدًا لمسلمي الجنوب بل إن القاعدة تستغل حالة الفراغ الأمني لأداء  دور في الجنوب والانطلاق منه لتوجيه ضربات للقوات الدولية العاملة في دارفور.

     واعتبر الأشعل أن دولة الجنوب ستشكل تهديدًا كبيرًا لدول الجوار العربي فعلاقاتها المتميزة مع إسرائيل التي شكلت الداعم الأساسي للحركة الشعبية طوال سنوات طويلة ستترجم في تقديم تسهيلات عسكرية للدولة العبرية مقابل إمدادها بمختلف أنواع العتاد العسكري القادر على التصدي لأي مواجهة محتملة مع الشمال، بل إن الطرفين قد يعملان بقوة على زعزعة الاستقرار الهش في شمال السودان في مناطق مثل النيل الأزرق وجنوب كردفان، مدللاً على ذلك بتصريحات سيلفا كير ووصفه لإسرائيل بأنها عدوة الشعب الفلسطيني وليس لمواطني جنوب السودان.

تهديدات متلاحقة

     وإذا كان الأشعل قد وصف الدولة الوليدة بالفشل وحكم عليها بالاضطراب الأمني فإن الأوضاع لن تكون أفضل حالاً في شمال السودان بعد الانفصال سواء مر هذا السيناريو بهدوء أم شهد توترا واندلاع جولة جديدة من الحروب لاسيما في جبهة آبيي والتي يرفض الطرفان تقديم تنازلات فيما يخص مصيرها في ظل تمتعها بالكمية الأكبر من نفط السودان، فالأخير سيشهد أوضاعًا اقتصادية معقدة بعد خسارة نسبة كبيرة من إنتاج البلاد من النفط من انفصال الجنوب مما يؤثر بشدة على ميزان المدفوعات السوداني، وبل سيقف حجر عثرة أمام إتمام حكومة الخرطوم لعدد من المشروعات التنموية في مناطق الشرق والنيل الأزرق وجنوب كردفان ما سيفتح البلاد أمام اضطرابات سياسية واجتماعية وأمنية ستصعب من مهمة حكومة الخرطوم في مواجهتها.

     ولا تتوقف الصعوبات التي ستواجه السودان بعد الانفصال خصوصا أن الاستفتاء على مصير الجنوب لن يكون الأخير في تاريخ السودان الجديد في ظل إخفاق مفاوضات السلام الخاصة بدارفور  في الدوحة في الوصول لتسوية بل حديث بعض قادة التمرد في دارفور عن إمكانية تكرار سيناريو تقرير المصير في الإقليم المضطرب وهو أمر قد يتكرر في جنوب كردفان والنيل الأزرق في ظل ادعاءات قادة الحركة الشعبية بتبعية المنطقتين للجنوب واحتمالات دخول تل أبيب وجوبا على خط الأزمة بإشعال الاضطرابات في أطراف السودان لإضعافه وفتح الأبواب أمام احتمالات تفتيته.

      ومن الثابت أن انفصال جنوب السودان قد يغرق شمال السودان نفسه في خضم من الأزمات، فأحزاب المعارضة لن تترك الانفصال يمر مرور الكرام بل ستستغله لإثارة المتاعب للنظام، بل العمل على إسقاطه مستغلة حالة من السخط الشعبي لانفصال الجنوب وكذلك احتمالات تأزم الوضع الاقتصادي بشكل قد يعجز حكومة الخرطوم عن الوفاء بالتزاماتها المالية والتنموية؛ مما سيفاقم من الأوضاع الاقتصادية، وسيرفع من أعداد العاطلين بشكل قد يهيئ الأوضاع للانفجار خصوصًا في حالة تنفيذ المعارضة تهديدها بهبة شعبية تسقط حكومة الإنقاذ.

     وتتصاعد المخاوف من إمكانية أن تؤدي هذه الأجواء المتوترة إلى تهديد وحدة واستقرار ما تبقى من السودان فالدول الغربية لن تكتفي بانفصال الجنوب وحده بل تسعى لشرذمة السودان وتحويله إلى أربعة كيانات: الأول في الشمال، والثاني في الجنوب، فيما تتولى تطبيق السيناريو نفسه في دارفور والشرق وذلك لتفتيت أكبر قطر عربي وإضعافه وتمهيد الأجواء لتكرار النموذج نفسه في جنوب مصر واليمن وشمال العراق ولبنان، وفتح الأبواب على مصراعيه لبلقنة المنطقة فمثل هذه الأجواء ستسهل لهذه القوى تنفيذ مخططاتها والسطو على ثروات الأمة فيما ينصب جهد هذه الأمة على مقاومة مخططات التقسيم دون البحث عن سبل ناجحة لحل المشاكل المزمنة وهو أمر مشكوك بشدة في قدرتها على التصدي له في ظل غياب إرادة سياسية جماعية تستطيع توحيد كلمته وتشكيل جبهة موحدة تستطيع إنقاذ ما تبق من وحدة الأمة واستقرارها.

إجماع وطني

     ومن ثم فإن حكومة الخرطوم تواجه تحديات شديدة أقلها احتمالات الدخول في نزعات مسلحة مع الدولة الوليدة حول آبيي والنيل الأزرق وجنوب كردفان فضلاً عن مشكلات الديون والجنسية وتقاسم النفط وسبل نقله وغيرها من المشاكل مثل تصاعد التوتر مع المعارضة الشمالية والإخفاق في إحداث تسوية في دارفور وهي قضايا تشكل تعقيدات يصعب على التركيبة السياسية في الخرطوم بوضعها الحالي تفكيك عناصر الخطر فيها، بل إن الأمر يقتضي من حكومة الإنقاذ كما يؤكد د.هاني رسلان رئيس وحدة السودان بمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بمؤسسة الأهرام الدعوة إلي مؤتمر وطني عام يفضي لمصالحة شعبية بين جميع الفرقاء السودانيين سواء في الشمال أم في الغرب أم مع البجا في الشرق، تترجم في حكومة توافق وطني تتولى تسوية جميع المشكلات المهددة لما تبقى من السودان.

    ولفت رسلان إلى أن ملف آبيي يشكل أبرز التحديات التي تواجه حكومة السودان، فهذه القضية كان يجب تسويتها مع قضايا أخرى قبل الاستفتاء حتى لا تترك جيوب تهدد بعودة الحرب من جديد لافتًا لاحتمال تعرض حكومة الخرطوم لضغوط دولية لتقديم تنازلات في هذه القضية وهي ضغوط لن تستطيع مواجهتها إلا مدعومة من إجماع وطني.

     وتابع يجب على حكومة الخرطوم عدم رفض أي تسوية مع المعارضة الشمالية لأن تصاعد التوتر معها سيغل يد الحكومة عن التحكم بزمام المبادرة بل يجب عليه تبني خطاب واقعي يجمع الفرقاء ولا يفتح الباب أمام سيل من الاضطرابات السياسية قد تقود السودان معها للتحول لكيانات أربعة وتهدد بتكرار السيناريو اليوغوسلافي في السودان ودول الجوار العربية وفي وقت سيتصدى الغرب بقوة لإمكانية تكرار سيناريو التفتيت إلى إثيوبيا باعتباره من أبرز حلفائه في هذه المنطقة المهمة.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك