ليست كلماتٍ تُردَّد ولا شعاراتٍ تُرفَع – المواطَنَة الصالحة.. إخلاصٌ وعمل ونصحٌ صادق للوطن
حب الأوطان والسعي في كل ما يعمل على تقدمها وصلاحها دليل على سلامة الفطرة، ورجاحة العقل، ونقاء الضمير، وصفاء القلب، فكرامةُ الإنسان من كرامة وطنه، وعزته فى عزة وطنه، ورفعته فى رفعة وطنه، وهذا المعنى من معالم الإنسانية الراقية والحضارة السامية، وحب الأوطان سببٌ لعمارتها، وسلامتها من الخراب، وكان يقال: «بحب الأوطان عُمرت البلدان»، ويروى عن ابن الزبير رضي الله عنه أنه قال: «ليس الناس بشيءٍ من أقسامهم أقنع منهم بأوطانهم». وقيل: «كما أنَّ لحاضنتك حق لبنها، فلأرضك حُرمةَ وطنها».
صلاح الأوطان بصلاح العقيدة
قال الشيخ عبدالرزاق عبدالمحسن البدر: صلاح الوطن يكون بصلاح العقيدة الإسلاميّة واستقامتها، قال الله - تعالى -: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (النور: 55)، ويكون بتحكيمِ الشريعةِ على أرضه وبين أهلِه وعمارةِ أرجائه بالإيمان وتقوى الرحمن، قال الله - تعالى-: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} (الأعراف: 96)، ويكون بإعلاءِ شأن الدّعوة إلى الله فيه وإقامة شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال الله -سبحانه-: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 41)، ويكون بمجانبة الذنوب والمعاصي وإقصاء الفساد والانحلال، فإنه دمارٌ للديار وهلاك لأهلها، قال الله - تعالى -: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم: 41).ويكون -عباد الله- بالبعد عن البطر وكفران النعم، قال الله -تبارك وتعالى-: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} (النحل: 112)، ويكون بلزوم الجماعة والسمع والطاعة؛ إذ إنَّ مصالح الأمة لا تتم إلا بجماعة، والجماعة لا تتم إلا بإمارة، والإمارة لا تقوم إلا على وطن.
المواطَنَة الصالحة
وأكد الشيخ البدر أنَّ المواطَنَة الصالحة ليست كلماتٍ تُردَّد ولا شعاراتٍ تُرفَع، وإنما هي إخلاصٌ وعمل ونصحٌ صادق للوطن رُعاةً ورعية، وهذه دعوةٌ أن نتقي الله -عز وجل- في أوطاننا، وأن يكون سكننا وإقامتنا فيه مبني على النصح والإصلاح والصلاح والبعد الكامل عن الشر والفساد، ولنكن في ذلك كله مراقبين لله -جل وعلا- الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي النفوس، وقد صح في الحديث عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»، قُلْنَا: لِمَنْ يا رسول الله؟ قَالَ: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ».
بطاعة الرحمن تصلح الأوطان
من جهته قال الباحث والكاتب الأردني أسامة شحادة: عمارة الأرض والإصلاح فيها من أهم المقاصد التي خلق الله البشر لأجلها، وكان الرسل -صلوات الله عليهم- يعلّمون الناس، ويصرحون لهم بذلك بوضوح، كقول صالح -[ لقومه ثمود-: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} (هود: 61)، فصالح - صلى الله عليه وسلم - ربط بين عبادَة الله -عز وجل- وبين عمارة الأرض، وهذه العلاقة تلخّص باختصار غاية الوجود البشري على الأرض، والوظيفة والمهمة المناطة بالإنسان في هذا الكون، وهي: طاعة الرحمن وعبادته، وعمارة الأرض.
الغاية من خلق الإنسان
وأضاف، لعل كثيرا من المسلمين يستحضر أن الغاية من خلق الإنسان هي عبادة لله -عز وجل- لكونها غاية واضحة في القرآن الكريم، كما في قوله -تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56)، بينما قد يظن بعض المسلمين أن عمارة الأرض والتقدم الحضاري ترف لا يحضّ عليه الإسلام، أو أنه أمر سلبي يلهي عن طاعة الرحمن، ولا سيما مع انتشار مفاهيم منحرفة للزهد، وحقيقة الإسلام عبر بعض المقولات والطرق الصوفية التي ساهمت في محاربة العلم الشرعي والدنيوي، والعمل والسعي الديني والدنيوي؛ فأنتج ذلك حالة كبيرة من الجهل بالعلوم الدينية والدنيوية واستفحال البطالة الدينية، فتركت العبادات والشعائر وأركان الإسلام، وراجت الحضرات والموالد والبدع بحجة الكرامات والوصول إلى مرحلة اليقين ورفع التكاليف الشرعية، وأدت إلى خراب العمران وتراجع الصناعات، حتى عدّ من أسباب ضعف الدولة العثمانية انحسار الصناعات العسكرية، وتدني جودتها؛ بسبب تفشي الأفكار الصوفية بين الجنود الانكشاريين، التي كانت تدعو لمحاربة العلم والتواكل بدل التوكل والاكتفاء بالموالد عن اتخاذ الأسباب العملية.
مركزية مقصد تنمية الأوطان
ولعل مما يبين لنا مركزية مقصد عمارة الأرض وتنمية الأوطان في الإسلام أن نستحضر أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ووصيته للمسلمين بعمارة الأرض حتى لو قامت القيامة! كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن قامت الساعة وفى يد أحدكم فسيلة (نخلة صغيرة)؛ فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها» رواه أحمد، والبخاري في الأدب المفرد؛ فعمارة الأرض مهمة لا تتوقف حتى قيام الساعة.
تحقيق هذا المقصد
وأكد شحادة أنّ تحقيق هذا المقصد لا يكون على وجه التمام والكمال إلا من خلال تحقيق مقصد عبادة الله -عز وجل-، ولقد ربط القرآن الكريم في آيات كثيرة بين الأمرين، من خلال مستويين: مستوى العلاقة بين مقصد عمارة الأرض وغياب مقصد عبادة الرحمن، ومستوى العلاقة بين عمارة الأرض مع حضور مقصد طاعة الرحمن، ومن تلك الآيات التي ترشد لبيان مستوى العلاقة بين مقصد عمارة الأض وغياب مقصد عبادة الرحمن؛ قوله -تعالى-: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلّهم يرجعون} (الروم: 41)، فالآية تنص على مسؤولية الناس وأعمالهم المخالفة لمنهج الرحمن عن ظهور الفساد ونقض عمارة الأض بأشكال متعددة.
مطلب كل عاقل وشريف ومخلص
وختم شحادة كلامه بالتأكيد على أنَّ عمران الأوطان وصلاح البلاد مطلب كل عاقل وشريف ومخلص، وهي غاية لا يختلف فيها الناس، بل يتسابقون لحمل شعاراتها ورفع راياتها، يتساوى في ذلك الصادقون والكاذبون والمصلحون والمفسدون، بل حتى الغزاة المحتلون تراهم يتشدقون بأنهم رسل الحرية والإعمار والنهضة، والفيصل في تمييز الصادقين المصلحين من الكاذبين المفسدين هو معرفة حقيقة أفعالهم وثمرات سياساتهم ومواقفهم، كما قال المسيح عبد الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -: «مِن ثمارهم تعرفونهم».
دور الشباب عمليا في بناء أمّتهم
لشباب الأمّة دور كبيرٌ تجاه أوطانهم وأُمَّتِهم، وينبغي توضيحه لنتعلّم ونقتدي بالسابقين، عسى الله أن يُخرج من بيننا شابًّا يعمل على عزة هذه الأمة، ويقيم راية هذا الوطن، ويعمل على نصـر هذا الدين، ومن بين الأدوار اللازمة على الشباب ما يأتي:
(1) معرفة الغاية التيخلق من أجلها
أن يتعرّف غايته التي من أجلها خلقه الله وأوجده في الحياة؛ فليعمل على تحقيقها بطريقة سليمة وصحيحة، يعبد ربّه في كل زمان، وتحت أيّ ظرف، ويستخدم وسائل العبودية وفقًا لما يرضيه -عز وجل-. ومعرفة الغاية أول طريق الالتزام بالدين التزامًا وسطيًّا يجلب الخير للناس.
(2) إقامة الإسلام في نفسه
إقامة الإسلام في النفس بأن يعيش بالإسلام قولا وسلوكًا، فيَسْلَم الناس من لسانه ويده، وإذا رآه الناس بهديه وسمته الإسلامي رأوْا الإسلام في شخصيته، فيكون بذلك سببًا في إقامة الإسلام في الأرض. ومن إقامة الإسلام في نفسه: عدم تشبه الذكور بالإناث ولا تشبه الإناث بالذكور في اللباس والألفاظ والحركات.
(3) التحصيل العلمي النافع
نريد من شبابنا أن يُطوّروا من مهاراتهم ويعملوا على تنمية طاقاتهم عبر العلم التخصصـي، والمهارات المكتسبة من دورات تدريبية متخصصة، تحقيقًا لقول الله -تعالى-: {اقـرأ باسم ربك الذي خلق}. فمن برع في مجال تخصصه العلمي (الطب، الصيدلة، الهندسة، الفيزياء، الكيمياء، الجيولوجيا......) فقد خدم أمة حبيبنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ونريد مع هذا العلم معرفة بالله -تعالى- ومخافة من الله.
(4) نشر الخير لا الشرّ من القول والفعل
نشر الخير لا الشرّ من القول والفعل: عن طريق استخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة في مرضاة الله -تعالى-، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو لا يصمت». ساهم أيها الشاب في نشـر ما يرضي مولاك لا ما يغضبه.
(5) حُسْن توظيف طاقات الشباب
بأن يعمل عملا مهنيًّا وحرفيًّا متقنًا ونافعًا له ولمجتمعه، فلا يتعطل ولا يكسل ولا يفتُر ولا يتوانى عن تحقيق ذاته عن طريق العمل والاعتماد على النفس، لا أن يكون عالة على غيره، وليأخذ من رسوله الحبيب قدوة؛ حيث كان يعمل وهو شاب في الرعي والتجارة.
لاتوجد تعليقات