لماذا نرفض التراث الصوفي للحلاج؟
فقد بدأ التصوف مِن القرون الأولى على شكل نزعةٍ للزهد، انتسب إليها كثيرٌ مِن الزُّهاد، واختلف في أصل اشتقاقها فقيل: نسبة إلى الصفة، وهي الموضع الذي بُني لإيواء فقراء المسلمين بالمسجد النبوي. وقيل: نسبة إلى الصف الأول في الصلاة. وقيل: نسبة إلى الصفاء، أو إلى قبيلة عربية جاهلية يقال لها: صوفة.
- والصحيح: أنها نسبة إلى لباس الصوف فيُقال: تصوف إذا لبس الصوف، كما يقال: تقمص إذا لبس القميص، وتبرقعت المرأة إذا لبست البرقع، وإنما نسبت الصوفية إلى لباس الصوف؛ لكثرة لبسها للصوف زهدًا وتورعًا مِن لبس فاخر الثياب.
وحيث إن مخالفة الشريعة أول طريق الانحلال، والصوفية قد انتشرت عقائدهم وعباداتهم؛ لذا تحولت الصوفية مِن مطلب اجتماعي للزهد في الدنيا إلى فلسفاتٍ خطيرةٍ، وبدعة ضالة وفسق ظاهر؛ فقد انتشر بين الصوفية معاشرة المردان، وتعاطي المخدرات التي هي الحشيشة، ويزعمون أنها: «تحرك العزم الساكن إلى أشرف الأماكن!».
كما صار هَمُّ غلاة المتصوفة الوصول إلى الغاية في الفناء في توحيد الربوبية، وهو درب الاتحاد؛ بحيث يرى أنه لا يوجد خالق ومخلوق، وأن جميع الموجودات لا حقيقة لوجودها غير وجود الله! فكل شيء -في زعمهم- هو الله وقد تجلى فيه، وما إلى ذلك مِن الترهات الكفرية، حتى إن أحدهم ليتفوه بالعظائم بسبب هذه العقائد كقوله: «ما في الجبة إلا الله!»، وما أشبه ذلك, تعالى الله عما يقول الملحدون علوًّا كبيرًا.
ومِن هؤلاء الغلاة: الحسين بن منصور الحلاج (أبو مغيث)، وهو فيلسوف، يعدونه تارة في كبار المتعبدين والزهاد، وتارة يعد في زمرة الملحدين، أصله مِن بيضاء فارس، ونشأ بواسط العراق (أو بتستر) وانتقل إلى البصرة، وحج، ودخل بغداد وعاد إلى تستر. وظهر أمره سنة 299هـ فاتبع بعض الناس طريقته في التوحيد والإيمان، ثم كان يتنقل في البلدان وينشر طريقته سرًّا، وقالوا: إنه كان يأكل يسيرًا ويصلي كثيرًا ويصوم الدهر، وإنه كان يظهر مذهب الشيعة للملوك (العباسيين) ومذهب الصوفية للعامة، وهو في تضاعيف ذلك يدعي حلول الإلهية فيه، وكثرت الوشايات به إلى المقتدر العباسي فأمر بالقبض عليه، فسجن وعذب وضرب وهو صابر لا يتأوه ولا يستغيث.
قال ابن خلكان: «وقطعت أطرافه الأربعة ثم حز رأسه وأحرقت جثته، ولما صارت رمادًا ألقيت في دجلة ونصب الرأس على جسر بغداد, وادعى أصحابه أنه لم يقتل وإنما ألقي شبهه على عدوٍّ له, وقال ابن النديم في وصفه: كان محتالًا يتعاطى مذاهب الصوفية، ويدعي كل علم، جسورًا على السلاطين، مرتكبًا للعظائم، يروم إقلاب الدول، ويقول بالحلول».
وقد ترجم له الحافظ الذهبي فقال: «الحسين بن منصور الحلاج المقتول على الزندقة، ما روى -ولله الحمد- شيئًا مِن العلم، وكان له بداية جيدة وتأله وتصوف، ثم انسلخ من الدين، وتعلم السحر وأراهم المخاريق، وأباح العلماء دمه».
وقال: «والحلاج قُتل سنة بضع وثلاثمائة وقدِموا به إلى بغداد راكبًا على جملٍ يُنادَى عليه: هذا داعي القرامطة. وأقام في الحبس مدة حتى وُجد مِن كلامه الكفر والزندقة واعترف به، مثل أنه ذكر في كتابٍ له: مَن فاته الحج فإنه يبني في داره بيتًا ويطوف به كما يطوف بالبيت، ويتصدق على ثلاثين يتيمًا بصدقةٍ ذكرها وقد أجزأه ذلك عن الحج. فقالوا له: أنت قلت هذا؟ قال: نعم. فقالوا له: مِن أين لك هذا؟ قال ذكره الحسن البصري في «كتاب الصلاة»، فقال له القاضي أبو عمر: تكذب يا زنديق أنا قرأت هذا الكتاب وليس هذا فيه، فطلب منهم الوزير أن يشهدوا بما سمعوه, ويفتوا بما يجب عليه فاتفقوا على وجوب قتله».
ويُلاحِظ بعض الباحثين أن ثمة ارتباطًا قديمًا بين نشأة الصوفية والتشيع، ولا سيما وأن أبا الهاشم الصوفي عثمان بن شريك (ت 150هـ) رُمي بالتشيع، وتسميه الشيعة: (مخترع الصوفية) (الشيبي: الصلة بين التصوف والتشيع، 2/291).
وأيًّا كان صحة هذا الأمر في مبدأ ظهور الصوفية؛ إلا أنه مِن الثابت عند العلماء أن الصوفية فيما بعد نقلوا كثيرًا مِن نظامهم عن التشيع، ومن ثم فإننا ندرك أسباب انتشار التصوف في مصر الفاطمية، وسماح العبيديين للصوفية بالانتشار في بلادهم؛ هذا فضلا عن أن الصوفية مذهب أخلاقي يمكن استغلاله؛ فقد استغل العبيديون التصوف لمنع الثورات عليهم مِن جهةٍ، ولنشر مذهبهم مِن جهة أخرى؛ إذ يلتقي التصوف والتشيع في كثيرٍ مِن الأصول والمبادئ، والتصورات المخالفة للواقع، كما أن التصوف شابَتْهُ نزعات فلسفية قوية.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن الحلاج: «وكان يظهر عند كل قوم ما يستجلبهم به إلى تعظيمه؛ فيظهر عند أهل السُّنة أنه سني، وعند أهل الشيعة أنه شيعي، ويلبس لباس الزهاد تارة، ولباس الأجناد تارة».
لاتوجد تعليقات