رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: محمد محمود محمد 15 سبتمبر، 2020 0 تعليق

لفتات إنسانية في زواج النبي – صلى الله عليه وسلم –


كان من أبرز النتائج التي ترشحت عنها وقائع زواجه - صلى الله عليه وسلم - بخديجة -رضي الله عنها-، على ما ذكرت في المقال السابق، أن زواجها منه كان بطلب منها، وأن وفاءه لها لم يكن قاصراً على زمن حياتها فحسب، بل ظل وفياً محباً مكرماً لها طيلة حياته، وقد دل ذلك على أن نفسية من كان هذا سلوكه، وتلك مشاعره، لا يمكن أن تكون نفسية رجل شبق مولع بالنساء، ثم إنَّ كتب السيرة قد حفظت لنا أنه ما تزوج بعد خديجة -رضي الله عنها- زيجة إلا بسبب أيضاً إما من جهة المرأة ذاتها، أو أهلها، أو أمر سماوي حَتَّمَ عليه ذلك.

أم المؤمنين سودة -رضي الله عنها

     لقد تزوج - صلى الله عليه وسلم - من أم المؤمنين سودة -رضي الله عنها- بعد خديجة -رضي الله عنها- وهي امرأة مسنة أيضاً، بسبب ترشيح إحدى صديقاتها لها عنده، وهي خولة بنت حكيم -رضي الله عنها-، رفيقة سودة -رضي الله عنها- في الهجرة إلى الحبشة، ولخولة شأن سنذكره عما قريب؛ لأنها إحدى اللاتي وهبن أنفسهن للنبي - صلى الله عليه وسلم -، لكننا الآن مع أم المؤمنين سودة -رضي الله عنها-، لقد رأت السيدة سودة في الحبشة رؤيتين فسَّرَهُما لها زوجها السكران بن عمرو - رضي الله عنه - بأنه يموت ويتزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعده، فقال لها: وأبيك لئن صدقت رؤياك لأموتن فيتزوجك محمد - صلى الله عليه وسلم . وقد كان؛ إذ مات السكران، وعادت سودة إلى مكة، فذهبت صديقتها ورفيقتها في الهجرة خولة تعرضها على النبي - صلى الله عليه وسلم -، (الطبري في تاريخه ج11، ص600)، فتجد أن زواجه منها لم يكن برغبة مباشرة منه - صلى الله عليه وسلم - ابتداءً، إنما هي التي رأت ذلك وحققته، أضف إلى ذلك أن في زواجه بها معنى المواساة التي لم يفتأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُلِحُّ عليها في زيجاته، فهي: مؤمنة، مستضعفة مضطهدة في مكة، مات عنها زوجها، ثم هي بعد ذلك مسنة، فمن يقول إن وراء زواجه بها رغبة؟! إلا أن يكون مريض النفس، فاسد النية.

شبهة مغرضة

     إذا تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - من صغيرة رماه المغرضون بأنه كان مولعاً بالصغيرات، وإذا تزوج كبيرة رموه أيضاً بالكبيرات، وهكذا شأن المتناقضين الحاقدين على الحق منذ بزوغ فجره، يذْرون الرمال في كل الاتجاهات، فهو شاعر وساحر، ومجنون وكاهن، مولع بالقاصرات وأيضاً بالمسنات، حاشاه - صلى الله عليه وسلم -، وإذ لم يدر بخلد هؤلاء الحاقدين لحظة أن يتفكروا فيما يأتون به من تناقض، فإنما ذلك لأنهم لا يقصدون الوصول إلى شيء إلاَّ التشويه والهدم، وإن التفكر الهادئ ينبئ أن الله -تعالى- قد برَّأ نبيه من تهمة الولع بكبيرات السن، كما برأه من الولع بالصغيرات كذلك، حين قدَّرَ له في تدبيره -سبحانه- أن يتزوج نساءً من الأعمار جميعها:

- أولاً: لأن قضية العمر لم تكن حاضرة بقوة في طلبه، لقلة شغفه بذلك.

- ثانياً: لأن عرف مجتمعه قد درج على قبول ذلك التفاوت في السن بين الزوجين، زيادة أو نقصاناً، فلم يكن في زواجه - صلى الله عليه وسلم - بالكبيرات بدعاً، ولا كان في زواجه من الصغيرات مخترعاً، لأن هذا وذاك كان معروفاً وسائداً في بيئته ومجتمعه سائراً فيهم بالقبول من غير غضاضة، فزيد بن حارثة (الابن المتبنى للنبي قبل تحريم التبني) يتزوج من بَرَكة (السيدة المسنة التي أرضعت النبي - صلى الله عليه وسلم )، وعمر بن الخطاب يتزوج من أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- جميعاً.

فلم يكن ذلك الفارق الكبير في العمر عندهم يمنع من الزواج:

- أولاً: لأن علامات العجز لم تكن تظهر على كبير السن فيهم، كما تظهر على النحو الذي هو حاصل في زماننا الآن، الذي نرى فيه علامات الشيخوخة تظهر على بعض الشباب فينا والشابات، فإنهم في السابق لم يكونوا في شيء مما نحن فيه الآن، من تلوث في الهواء والغذاء، وراحة بدنية وخمول وضمور؛ إذ أكثر الأعمال الآن لا تحتاج إلى جهد عضلي، وقد كانت الحياة في أيامهم مليئة بما يشحذ الهمة، ويُبقي مع تقدم العمر أسباب الشباب.

- ثانيا: فقد كان صغر السن عندهم معه من قوة البنية ما يؤهل لحمل أعباء الزواج من غير مشقة غالباً، للحيثيات السابقة نفسها، ومن ثم لم تكن قضية الفارق بين الزوجين في العمر حاضرة عندهم بقوة؛ لأن تجاهلها لم يكن يؤثر في شيء ذي بال، فقد أثمر عمرُ من أم كلثوم حين تزوج بها (وهو أكبر من أبيها سنا!)، فأنجبت له زيداً ورقية -رضي الله عنهم-، وأثمر من قبلهما زيد من بركة أسامة -رضي الله عنهم- أجمعين.

معايير الشرع

     لذلك يجب أن يَقَرَّ في قناعاتنا أن موضوع الزواج تحكمه دائماً معايير الشرع والعرف معاً، لكن ليس عرف زماننا نحن، إنما عرف الزمن الذي كان فيه هذا الزواج أو ذاك، أما زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - خصوصا فإنه كانت تحكمه مع المعيارين العرفي والشرعي معايير إضافية أخرى إنسانية ودينية واجتماعية، فقد ظلت تلك المعايير العميقة حاضرة دائماً في زيجاته من أم حبيبة، وحفصة -رضي الله عنهما-، فقد كان زواجه منهما للسببين الديني المتمثل في تقديرهما ورفع مكانتهما، والإنساني المتمثل في مواساتهن بعد فقد أزواجهما، فضلا عن تأليف أبي سفيان للإسلام، وهو كبير قريش، وكذلك تطييب خاطر صديقه عمر حين فقدت ابنته حفصة زوجها السابق -رضي الله عنهم- جميعا.

علو قدر زوجاته - صلى الله عليه وسلم 

     على ذلك النحو السابق، لم تَخْل زيجة من زيجاته من قصد المواساة، والتقدير ورفع المكانة، وتطييب الخاطر، والتأليف للإسلام، وقد كانت كل واحدة من زوجاته -رضي الله عنهن- لها من سابقة الفضل ما يؤهلها لأرفع المنازل عند الله -تعالى-، رفيقةً له - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرة، لذلك حين نزل قول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)} (سورة الأحزاب)، فإنهن تمسكن بالبقاء في عصمته جميعا، مع ما هن فيه من القلة والحاجة، لعلمهن بأن الزواج به - صلى الله عليه وسلم - شرف لا يصلح معه هدف دون الاقتران به، فما هو إلاَّ المنزلة والمكانة عند الله في الدنيا والآخرة، ولقد بوأ الله -تعالى- أمهات المؤمنين هذه المكانة العالية بالعمل الصالح، فثبتهن على ذلك، فسودة -رضي الله عنها- كانت امرأة عابدة قوية العقل، لا هَمَّ لها إلا أن تكون قريبة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ليس لها فيه غرض جسدي، لكبر سنها، لذلك عندما عرف النبي - صلى الله عليه وسلم - منها العزوف عما تطلبه النساء من الرجال، أفصح عن الهم بطلاقها رفقا بها أن يكون سبب عزوفها الملل من رفقته، فما كان منها لموفور عقلها إلا أن وهبت ليلتها لأحب نسائه إليه، تعبيراً منها عن الحب الخالص عن الغرض، وحتى تظل في عِداد أهله، لتكون معه في الدنيا والآخرة، ولذلك أثنت عليها عائشة -رضي الله عنها- لما تميزت به عن سائر النساء من العقلانية والواقعية ونفاذ البصيرة، فقالت: «ما رأيت امرأة أحب إليَّ أن أكون في مسلاخها من سودة بنت زمعة من امرأة فيها حِدَّة، قالت: فلما كبرت جعلت يومها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة قالت: يا رسول الله قد جعلت يومي منك لعائشة، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم لعائشة يومين ويوم سودة» قال ابن الأثير: «كأنها تمنت أن تكون في مثل هديها وطريقتها».

وهكذا سائر أزواجه - صلى الله عليه وسلم 

     وهكذا سائر أزواجه - صلى الله عليه وسلم -، كانت لدى كل واحدة منهن من سابقة الفضل مع سبب إنساني آخر، ما يدفع لاقترانه بهن -رضي الله عنهن-، فحفصة كانت صوامة قوامة، وأم سلمة كانت من أرجح النساء عقلاً، مع سابقتها في الإسلام، وصبرها في سبيل الله على فقد الولد والزوج، وهجرتها إلى الله ورسوله، وأما صفية بنت حيي -رضي الله عنها-، فقد رأت هي الأخرى رؤيا زواجها من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي لا تزال على يهوديتها في بيت أبيها، وهي امرأة شريفة النسب من جهة جدها هارون أخو موسى عليه السلام، وكان قد خيرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين العتق والزواج منه، فاختارت أن تكون زوجة له، قال عنها ابن كثير في البداية والنهاية: «وقد كانت تحت ابن عمها كنانة بن أبي الحقيق فقتل في المعركة، ووجد رسول الله بخدها لطمة فقال: ما هذه؟ فقالت: إني رأيت كأن القمر أقبل من يثرب فسقط في حجري فقصيت المنام على ابن عمي فلطمني وقال: تتمنين أن يتزوجك ملك يثرب؟ فهذه من لطمته، وكانت من سيدات النساء عبادة وورعا وزهادة وبِراً وصَدَقةً، -رضي الله عنها وأرضاها».

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك