لعلكم تتقون
أشار المولى -تعالى- في كتابه الكريم أن الشريعة إنما وُضعت لمصالح العباد في الدنيا والآخرة؛ ولذلك وجب على العبد أن يكون ملتزما بما تأمره وتنهاه؛ ولهذا جعلها الله -تبارك وتعالى- سبيلا للتقوى، ومن أعظم أمور الشريعة فرضية صيام شهر رمضان؛ فصيامه من أهم عوامل تحقيق التقوى قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
والحكمة من تشريع العبادة تارة تُدرك وتارة أخرى لا تُدرك، وفي كلتا الحالتين ينبغي على المسلم أن يلتزم الشريعة ويعمل بمقتضاها، سواء ظهرت الحكمة منها أم لا، وآيات الصيام ذكر فيها المولى -تعالى- الحكمة من فرضيته بقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. وهي حكمة بالغة.
قال الشيخ عمر الأشقر -رحمه الله-: فيه بيان لحكمة الصيام؛ فالمراد من شرع الصيام تحقيق التقوى في القلوب، وهذه الغاية هى الغاية من كل عبادة فرضها الله علينا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، والتقوى مخافة الله المستقرة في القلب التي تدفع إلى العمل بطاعة الله واجتناب معصيته. اهـ
وقال ابن عاشور: «والتقوى الشرعية هي اتقاء المعاصي، وإنما كان الصيام موجبا لاتقاء المعاصي؛ لأن المعاصي قسمان: قسم ينجح في تركه التفكر كالخمر والميسر والسرقة والغصب، فتركه يحصل بالوعد على تركه والوعيد على فعله والموعظة بأحوال الغير، وقسم ينشأ من دواع طبيعية كالأمور الناشئة عن الغضب والشهوة الطبيعية التي قد يصعب تركها بمجرد التفكر؛ فجعل الصيام وسيلة لاتقائها؛ لأنه يعدل القوى الطبيعية الداعية إلى تلك المعاصي ليرتقي المسلم به عن حضيض الانغماس في المادة إلى أوج العالم الروحاني، فهو وسيلة للارتياض بالصفات الملكية والانتفاض من غبار الكدرات الحيوانية. اهـ.
وهذه الآية ذكرت في سورة البقرة التي بدأها المولى -تعالى- بقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}. ولذلك تجد أن الله -تعالى- بين في أول السورة أن القرآن هدى للمتقين، وبين أن الصيام يحقق التقوى، وهذا رابط عظيم بين شهر رمضان والقرآن حتى إنه يُطلق عليه شهر القرآن.
فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة. (البخاري).
وعن عبد لله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان.
قال البقاعي: فهو صوم يُبنى عليه تقوى فيبنى عليها فرقان، كما قال تعالى: {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً}. اهـ.
أي تفرقون به بين الحق والباطل والخير والشر؛ ولأن الصيام عندما يكون صياما صحيحا؛ فإنه يكسر الشهوات، ويضيق سبل الشيطان، ويقمع الهوى؛ فيكون زاجرا ورادعا عن ارتكاب المعاصي والذنوب؛ لأنه وقاية، قال صلى الله عليه وسلم : «الصيام جنة من النار كجنة أحدكم من القتال... الحديث» أي: وقاية.
قال السعدي -رحمه الله-: إن الصيام من أكبر أسباب التقوى؛ لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه؛ حيث إن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب والجماع وما تميل إليه النفس؛ متقربا بذلك إلى الله راجيا بتركها ثوابه.
ومنها أنه يدرب نفسه على مراقبة الله فيترك ما تهوى نفسه مع قدرته عليه لعلمه باطلاع المولى عليه، وكذلك يكثر من الطاعات، والطاعات من خصال التقوى؛ ومنها أن الغني إذا ذاق ألم الجوع أوجب ذلك مواساة الفقراء المعدمين وهذا من خصال التقوى. اهـ.
فصيام رمضان شُرع من قبل الله -تعالى- على الأمم قبلنا، وشُرع لنا لتحقيق هذه الحكمة العظيمة التي سينالُ صاحبها الجزاء الأوفى يوم القيامة، ومن أراد ذلك فليراجع آيات القرآن التي تتحدث عن التقوى، وكفى بصاحب التقوى أن يكون ممن يُساق إلى جنة الرحمن جل في علاه زمرا.
ويكفي شرفا أنه سيكون من الذين يرثون جنة الرحمن -جل في علاه- القائل: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّا}، ويكفيه شرفا وأي شرف يدانيه أن يُحشر مع وفد الرحمن: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدا}.
اللهم اجعلنا منهم ومعهم وممن يحشر في وفد إلي الرحمن، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
لاتوجد تعليقات