رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: عبدالوهاب السنين 13 أغسطس، 2018 0 تعليق

لا كذب إلا في ثلاث

عن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يحل الكذب إلا في ثلاث، يحدث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس»، هذه مواضع الكذب التي يجوز فيها للمسلم استخدام هذا الأسلوب.

     ولا شك أن الكذب على الزوجة ليس ذاك الكذب المخالف للحقيقة، حين يقول الرجل لزوجته: أنتِ جميلة، وهي في الحقيقة قد تكون نسبيًا أنها جميلة، أو يختلف كما هو مفهوم بين الناس الجمال من عين إلى عين، من نظرة إلى نظرة، قد يكون السواد في نظر بعض الناس جمال، وهكذا يختلف الجمال من حال إلى حال، ومن إنسان إلى إنسان؛ فحينما يتكلم الزوج إلى زوجته ويقول لها: أنتِ جميلة، غاية في الجمال، وهي ليست كذلك في نظر الآخرين، هو لم يتكلم بالكذب، قد يأتي بعبارات أخرى لصفات ليست في الزوجة، لكنها قد تكون نسبيا فيها، أو يكون فيها شيء من هذه الصفات؛ فنقول: هو أراد من ذلك أن يقرب هذه الزوجة لقلبه، أو يقرب قلبه لهذه الزوجة بهذه العبارات، وهذه الكلمات الجميلة، هل نقول عنه كذب؟ لا، ليس كذبًا، وإنما هو حقيقة يراها هذا الزوج في زوجته ونطق بها وتكلم بها.

     وأما الكذب في إصلاح ذات البين كما هو معلوم، هو كذلك لا يخرج عن المعنى الذي ذكرناه، وإنما يأتي موافقاً للحق، هذا الإنسان يريد أن يعمل على ترابط المسلمين وتآخيهم، وهذا أعظم ما يقوم به المسلم في حياته من إصلاح، وهو إصلاح ذات البين، وهو لا شك أمر عظيم.

     حدثني بعض المشايخ عن الشيخ عبد العزيز بن باز، يقول للشيخ عبد العزيز ابن باز: «ما الذي جعل هذا القبول لك بين الناس؟ فقال الشيخ عبد العزيز: لا أدري»، وسكت وهو يسبح ويحمد كعادته في هذه المواضع؛ فأعاد عليه السؤال مرة أخرى، وقال له: «يا شيخ نريد أن نتعلم ونفهم، وهذه مسألة علمية وليست تزكية للشيخ»، هنا الشيخ عبد العزيز ابن باز تنبَّه وقال: «والله لا أدري، لعل من الأمور التي أدت إلى محبة الناس وقبولهم، أنني إذا آويت إلى فراشي لا أجد في نفسي شيئا على أحد من المسلمين»، وهذا لا شك خلق عظيم، هذا خُلق كبير أن يقوم الإنسان على إصلاح قلبه حتى لا يصبح فيه شيء من الكراهية والبغضاء لأحد.

     ثم قال -رحمه الله- أي الشيخ ابن باز- وهنا بيت القصيد: «وما سمعتُ من خلافٍ بين اثنين من المسلمين إلا وذهبتُ للإصلاح بينهما»، وهذا والله أعظم من الأول، أن يقوم على الإصلاح، أن يقوم على ترميم العطب والخراب وما أفسده بعض الناس بسبب مساوئ الاخلاق؛ إذًن نقول الإصلاح هو ترابط المسلمين، وهو أمر عظيم، ولا شك أن الأخوة بين الناس، بين أهل الدين، والتقوى، والصلاح، والترابط فيما بينهم، أمر مطلوب.

فإذا أتيت ببعض العبارات لا تقصد فيها الكذب، وإنما تنقل عنه وتقول: فلان قال فيك شيء من الخير، قال فيك شيء من الطيب، ذكركَ بالعبارات الجميلة، ثم أدى هذا إلى الترابط، وأدى إلى التآخي والتعاون، هذا لا شك أنه لا يدخل في الكذب.

     وأما ذاك الذي ينقش الأخطاء، ويضع عليها الأضواء، ويجعلها تحت المكبرات، ويأتي بها ليفسد القلوب، ويخرب الصفوف ويدمر النفوس، لا شك أن هذا الإنسان هو الذي وقع في إثم عظيم أعظم من الكذب، بل هو النميمة، أما الذي يختار العبارات، وينقل الكلمات وينقل ما يؤدي إلى ترابط المسلمين، هذا أبعد ما يكون عن الكذب؛ لذلك نقول: هذا لم يأتِ بالكذب، وإنما أتى بالحقيقة التي تؤدي إلى وحدة المسلمين.

الحقيقة في مواضع التفرقة

     بعض الناس يمكن أن يتكلم بالحقيقة، لكن لا نحتاج إلى الحقيقة في مواضع التفرقة، يعني ما يترتب عليها شيء، إلا إذا كان هناك حق نريد أن نبينه للناس نعم، هنا نقول نتكلم لا بأس، لكن أحيانًا يأتي الإنسان بالحقيقة؛ فيفرق بين المسلمين، يقول فلان قال فيك كذا وكذا، وقد يكون هذا حق، لكن هذا الذي قال فيك كذا وكذا من العيب، قد خرجت منه كلمات وعبارات فيها شيء من الإحسان، لماذا لا تذكر هذه الكلمات والعبارات التي نطق بها، وهي من الإحسان حتى نقرب القلوب، ونأتي بما يفرق الصفوف؟! هذا لا شك أنه خُلقٌ مذموم؛ ولذا نقول: ابتعد عما يفرق الناس، ابتعد عما يفرق المسلمين، ابتعد عما يؤدي إلى الخلاف، والنزاع، والشقاق، ثم السباب والشتيمة ثم القتال، وهذه يا إخوان مسألة في غاية الخطورة.

أضرار الكذب

     مسألة أخرى كذلك وهي الأضرار العائدة على المسلمين من الكذب، لا شك أنها أضرار عظيمة، بعض الناس يقول لك: لا أضرا فيها! هي مجرد تسلية! نقول: لا، نحن ندعو إلى توحد أهل الإيمان وتقاربهم، والتقوى والصلاح؛ فإذا وقع الكذب واستخف الناس بهذا الخلق السيء، وظنوا ألا شيء فيه، وربما يكون فيه متعة وربما يدخل تحت الذكاء والفطنة... إلخ.

     نقول: هذا يؤدي إلى تفريق المسلمين، والأصدقاء، والأصحاب، ويؤدي إلى خراب البيوت والأسر، ويؤدي إلى التفريق بين الزوجين، وهذا أعظم عمل يفرح به الشيطان كما هو معلوم؛ حيث يجلس على عرشه ويأتيه أتباعه؛ فيقول أحدهم: أنا فعلتُ كذا وكذا من الآثام، قال: ليس أنت، ليس أنت، إلى أن يأتِي ذاك الذي يقول: أنا ما زلت بفلان حتى فرقته عن زوجته؛ فيقول: أنت، أنت اقترب، أنت المقرب، لماذا؟؛ لأنه قام بهذا الفعل المشين، وهو التفريق بين المسلمين؛ فانظر أضرار الكذب! إنه يفرق بين المسلمين ويؤدي إلى فساد القلوب، والعقول، والصفوف، إذًن نقول: الكذب لا يأتِي بخير.

     وأما الكذب في المعارك؛ فلا يحتاج إليه إلا أصحاب العسكر والمتخصصون من القادة.. إلخ؛ فهم الأعلم بشؤون المعارك وهم أدرى، والحرب كما هو معلوم خدعة، يخدع بها طرف على طرف، وكلما تقلب الخداع كان متقدمًا على خصمه، وهذا لا يعد من الكذب المذموم، بل أقول: هذا قد يعد كذبًا محمودًا؛ لأنه يدخل في قاعدة الحرب خدعة؛ ولهذا لا يوصف من يقوم بإعداد هذه الخطط العسكرية بأنه كذاب.

 

 

خطورة الكذب

 إن من الصفات المذمومة التي حرَّمها الله ورسوله، وتوعَّد صاحبها بالعذاب الأليم في الآخرة، الكذب، قال -تعالى-: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ}(النحل: 62).

     وأخبر -سبحانه- أن الكذب من صفات الكفار والمنافقين، قال -تعالى-: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}(التوبة: 107)، وقال -تعالى-: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ}(يونس: 17).

روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وَعد أَخلَف، وإذا اؤتمن خان».

يقُود صاحبه إلى النار

     وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الكذب يقُود صاحبه إلى النار، روى البخاري ومسلم مِن حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البِرِّ، وإن البِرَّ يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصْدق ويتحرَّى الصدق حتى يُكتب عند الله صدِّيقًا، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال العبد يكذب ويتحرَّى الكذب حتى يُكتب عند الله كذابًا».

يُعذَّب في قبره

     والكذاب يُعذَّب في قبره قبل يوم القيامة، روى البخاري في صحيحه من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الرؤيا الطويل: «فأتينا على رجُل مستلقٍ لِقفاهُ، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شِقَّي وجهه؛ فيشرشر شدْقه إلى قفاه، ومنْخَراه إلى قفاهُ، وعيناهُ إلى قفاهُ»، قال: «ثم يتحوَّل إلى الجانب الآخر؛ فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول؛ فما يَفرُغ من ذلك الجانب حتى يصحَّ الأول كما كان، ثم يعود؛ فيفعل به مثل ما فعل به المرة الأولى»؛ فسأل عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ فقيل له: «إنه الرجُل يَغدو مِن بيته؛ فيكذبُ الكذبة تبلُغ الآفاق».

     ورتب النبي صلى الله عليه وسلم الثواب العظيم لِمَن ترَك الكذب، وإنْ كان مازحًا، روى أبو داود في سُننه من حديث أبي أمامة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «أنا زعيمٌ ببيت في ربض الجَنَّة لمن ترَك المراء وإنْ كان مُحقًّا، وببيتٍ في وسط الجنة لمن ترَك الكذب وإنْ كان مازحًا، وببيتٍ في أعلى الجنة لمن حسَّن خُلُقَه».

قال الإمام أحمد بن حنبل: الكذب لا يَصلُح منه جدٌّ ولا هزل، وقال أيضًا: يُطبع المسلمُ على الخصال كلها، إلا الخيانة والكذب.

فساد نظام العالم

      وقال ابن القيم -رحمه الله-: الكذب متضمِّن لفساد نظام العالم، ولا يمكن قيام العالم عليه، لا في معاشهم، ولا في معادهم، بل هو متضمِّن لفساد المعاش والمعاد، ومفاسدُ الكذب اللازمة له معلومة عند خاصة الناس وعامتهم، كيف وهو منشأ كل شرٍّ، وفسادُ الأعضاء؟ لسانٌ كذوب، وكم أزيلت بالكذب مِن دول وممالك، وخربتْ به مِن بلاد، واستُلبت به مِن نعم، وتقطعتْ به مِن معايش، وفسدت به مصالح، وغرست به عداوات، وقطعت به مودَّات، وافتقر به غني، وذلَّ به عزيز، وهتكت به مصونة، ورميت به محصنة، وخلت به دُور وقصور، وعمرت به قبور، وأزيل به أنس، واستجلبت به وحشة، وأفسد به بين الابن وأبيه، وغاض بين الأخ وأخيه، وأحال الصديق عدوًّا مبينًا، وردَّ الغني العزيز مسكينًا، وهل ملئَت الجحيم إلا بأهل الكذب، الكاذبين على الله، وعلى رسوله، وعلى دينه، وعلى أوليائه، المكذِّبين بالحق حمية وعصبية جاهلية.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك