رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: كتبه: زين العابدين كامل 4 فبراير، 2013 0 تعليق

لا تهدموا البنيان وتفتتـوا الكيـان إن كنتم صادقين

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فأحيانًا يشعر الإنسان بضيق في صدره وألم في قلبه بسبب بعض التصرفات من بعض الإخوة من أبناء الدعوة، وهنا ربما يخطر ببال الإنسان أن يترك هؤلاء الإخوة ويبتعد عنهم، ولكن للفقه بالواقع وإدراكه وسعة الأفق لا يستجيب لهذه الأفكار الهدامة؛ ليحافظ على كيان الدعوة وتماسك أبنائها الذي هو في الحقيقة لبنة في بنيان الدعوة المباركة، وهكذا يجب أن نكون جميعًا.

يجب أن نقدِّم مصلحة الدعوة على المصلحة الشخصية ونتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، وأن تكون لنا نظرة واعية بشمولية عالية لمثل هذه الأمور.

     لابد أن نشعر بخطورة هدم البنيان وتفتيت الكيان وأن هذا جرم عظيم، فلابد من الإخلاص للدعوة وللمنهج، ولابد من وقفة مع النفس لتصحيح المسار، وعودة إلى المنهج النبوي وسيرة الصحابة -رضي الله عنهم- اللهم اجعل أقوالنا وأعمالنا خالصة لوجهك الكريم.

     وقد حرص الإسلام على هذا المعنى، قال -تعالى- في سورة آل عمران: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ . وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران:103-104)، وقال -تعالى- في سورة الأنفال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}(الأنفال:46).

     وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «عَلَيْكُمْ بِالجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الجَنَّةِ فَلْيَلْزَمُ الجَمَاعَةَ» (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وفي الحديث عن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كُلُوا جَمِيعًا وَلا تَفَرّقُوا؛ فَإِنَّ الْبَرَكَةَ مَعَ الْجَمَاعَةِ» (رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني)، وقال صلى الله عليه وسلم : «يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ» (رواه الترمذي وابن حبان، وصححه الألباني)، وعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي أيوب -رضي الله عنه-: «أَلا أَدُلُّكَ عَلَى تِجَارَةٍ؟» قَالَ: بَلَى، قَالَ: «صِلْ بَيْنَ النَّاسِ إِذَا تَفَاسَدُوا، وَقَرِّبْ بَيْنَهُمْ إِذَا تَبَاعَدُوا» (رواه البزار، وقال الألباني: حسن لغيره)، ولما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا وأبا موسى إلى اليمن، قال: «يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلاَ تَخْتَلِفَا» (متفق عليه).

     ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفرقة، فعن أبي ثعلبة الخشني -رضي الله عنه- قال: كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلَ رَسُولُ اللَّه[ مَنْزِلاً تَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَالأَوْدِيَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِي هَذِهِ الشِّعَابِ وَالأَوْدِيَةِ، إِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْزِلاً إِلا انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، حَتَّى يُقَالَ: لَوْ بُسِطَ عَلَيْهِمْ ثَوْبٌ لَعَمَّهُمْ». (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

     ومن ذلك أيضًا: بعض التوجيهات النبوية في أمر الصلاة، فعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا مِنْ ثَلاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلا بَدْوٍ لا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلاةُ إِلا قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ» (رواه أحمد وأبو داود، وحسنه الألباني)، وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَقِيمُوا الصُّفُوفَ وَحَاذُوا بَين المنكاكب وَسُدُّوا الْخَلَلَ وَلِينُوا بِأَيْدِي إِخْوَانِكُمْ وَلا تَذَرُوا فرجات للشَّيْطَان وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَهُ قطعه الله» (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).

     وعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: كَانَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَتَخَلَّلُ الصُّفُوفَ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَى نَاحِيَةٍ يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا وَصُدُورَنَا، وَيَقُولُ: «لا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ» (رواه النسائي وابن ماجه، وصححه الألباني)؛ وذلك من باب الحفاظ على وحدة الصف.

     فإياك - يا أخي - أن تكون سببًا في الفرقة وشق الصف، وكن سببًا في التقريب بين إخوانك، وفي أمثال العرب: «وإذا تفرقت الغنم قادتها العنز الجرباء». وفي الأمثال السائرة: «بالساعد تبطش الكف، ولن يعجز القوم إذا تعاونوا».

وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: «كدر الجماعة خير من صفو الفرد».

وقال عبد الله بن المبارك -رحمه الله-:

«لولا الجماعة ما كانت لنا سبل وكـان أضعـفـنا نـهـبًا لأقـوانـا»

     يقول الشيخ الفاضل محمد إسماعيل المقدم -حفظه الله-: «من يتسبب في الفرقة ويتسبب في تمزيق الكيان الموحد والمتناسق ويشمت بنا الأعداء، ويعين من يريد إطفاء نور الإسلام؛ لأهواء شخصية أو انتصارًا لنفسه ولو على حساب الدعوة... نذكره بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَهُ قطعه الله» (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)» اهـ.

     ومع أن الاختلاف واقع قدرًا إلا أن المطلوب منا شرعًا كيفية التعامل معه، فقد قدَّر الله على البشر الاختلاف فقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود:118-119). قيل: للرحمة خلقهم. وقيل: للاختلاف خلقهم.

     والاختلاف واقع -لا محالة- بين البشر عامة، وبين الأمة كذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا» (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، وقال: «وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلا مِلَّةً وَاحِدَةً»، قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).

     وقال الله -تعالى-: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:105)، لكن هناك فرق بين اختلاف التنوع الذي لا بأس به -بل هو مطلوب لتحقيق التكامل- واختلاف التضاد غير السائغ المذموم؛ لأنه يفرِّق ولا يجمع، وهناك فرق بين الخلاف من أجل الوصول للحق، وافتعال الخلاف من أجل الدنيا والتنافس عليها -والعياذ بالله-.

     لقد ربط الله بين قلوب الصحابة وملأها بالحب والمودة والرحمة، وإن أعظم الأدلة على ذلك أن ابن مسعود -رضي الله عنه- لما علم أن عثمان -رضي الله عنه- قد أتم الصلاة بمنى استرجع ثم قام فصلى أربعًا، فقيل له: «استرجعت ثم صليت أربعًا؟!»، فقال: «الخلاف شر».

وقال بعض العلماء: الصبر على مضض الأخ خير من معاتبته، ومعاتبته خير من القطيعة، والقطيعة أحسن من الوقيعة.

وقال محمد بن الحنفية -رحمه الله-: «ليس بلبيب من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بدًّا حتى يجعل الله له منه فرجًا».

     فعلى المبتعدين عن دعوتهم وعن إخوانهم أن يدركوا ويتدبروا مثل هذه المعاني الطيبة، وأن يجتهدوا في أن يكونوا إضافة جديدة إلى المشروع الإسلامي وألا يكونوا خصمًا يهدم البنيان، الدعوة ستستمر -بإذن الله تعالى- والمنهج لن يتأثر، بل سيقوى.

     تذكرتُ ما فعله (محمد علي باشا) لهدم دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وإجهاضها وخنقها يوم أن شن حربًا لا هوادة فيها ضد الدعوة، وجهز الحملة تلو الحملة للقضاء عليها، وقد سخر (محمد علي باشا) للحرب على الدعوة إمكانات مصر وبلاد الشام، مع الدعم غير المحدود من دولة الخلافة، وارتكب الفظائع واستباح الديار والأموال والنساء وهدم المدن، فكان هو وابنه (إبراهيم) وسائر أولاده طغاة من شر الطغاة!

     واستطاع استرداد الحجاز بما فيها مكة والمدينة والحرمين الشريفين، وزحفت قواته بقيادة ابنه (إبراهيم) على الدرعية عاصمة نجد، وتم تسويتها بالأرض بطريقة غادرة ماكرة، جسدت الخيانة ونقض العهد بصورة واضحة، وذلك في ذي القعدة 1233هـ - سبتمبر1818م.

     وبهذا تمكن من إجهاض مشروع الدولة الإصلاحية السلفية، وعزله في حدود الصحراء العربية، وقدَّم بذلك خدمة لا نظير لها للدول الغربية الاستعمارية التي كانت قد ارتاعت من هذه الحركة التوحيدية الفتية التي كانت ترفع راية الجهاد ضد الغزاة، لا سيما بريطانيا العظمى التي كانت تخطط لبسط نفوذها على شبه الجزيرة العربية والخليج العربي بهدف التحكم في الطريقين البحريين الرئيسين إلى الهند.

     وأما الدعوة السلفية في حد ذاتها فلم يستطع القضاء عليها؛ لأنها كانت قد تأصلت في القلوب وباتت جزءًا لا يتجزأ من الواقع في جزيرة العرب، كما أنها كانت قد انتشرت لا سيما لدى الخاصة من العلماء والدعاة في أنحاء عدة من بلاد العالم الإسلامي، مثل: المغرب، والهند، ومصر، واليمن، وغيرها.فاحذروا من هدم البنيان وتفتيت الكيان إن كنتم مخلصين.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك