كُفْرُ أهلِ الكتاب من الثوابت التي يُراد العبثُ بها
تمر الأمة بفتن لا حصر لها، وأعظم تلك الفتن تلك التي تكون بيد أبناء هذا الدين؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن أخوف ما أخاف على أمتي: كل منافق عليم اللسان؛ وذلك لأثره في تحريف الدين وتبديله، ومن تلك القضايا – التي تقوم محاولات التحريف فيها على قدم وساق اليوم - قضية كفر اليهود والنصارى، وذلك بادعاء أنهم ليسوا بكافرين.
وتنوعت شبهاتهم التي يروجون بها لباطلهم هذا، فأولوا صريح القرآن، وكذبوا بالسنة المتواترة فما دونها، وأنكروا المعلوم من الدين بالضرورة على أزمان متطاولة.
وفي مقالنا هذا نبين الأدلة الثابتة الواضحة الدلالة على كفرهم، ثم ما تعلّقوا به لتأييد باطلهم: وقد جعلناه على قسمين: أولا، الأدلة على كفر أهل الكتاب، ثانيًا: الشبهات والجواب عنها.
الأدلة من القرآن الكريم
من أدلة القرآن الكريم قوله -تعالى-: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}(المائدة: 17)، وقوله -تعالى-: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ}(المائدة:73)، وقوله -تعالى-: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (آل عمران:19)، وقوله -تعالى-: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(آل عمران:85)، وقوله -تعالى-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ}(آل عمران:98).
الأدلة من السنة النبوية
ومن السنة النبوية: قول النبي صلى الله عليه وسلم : «والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار»، وقوله صلى الله عليه وسلم : «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة»، وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه حين أرسله إلى اليمن: «إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله»، وقوله صلى الله عليه وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي، وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله».
الإجماع
أما الإجماع، فقال ابن تيمية: «والمقصود هنا أن الذي يدين به المسلمون من أن محمدًا رسولٌ إلى عموم الثقلين الإنس والجن، أهل الكتاب وغيرهم، وأن من لم يؤمن به فهو كافر، مستحق لعذاب الله، مستحق للجهاد، وهذا مما أجمع أهل الإيمان بالله ورسوله عليه.
الشبهات والجواب عنها
منهم من زعم أن الآيات الدالة على كفر النصارى إنما هي في النصارى الذين كانوا يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، أما النصارى اليوم فلا يقولون ذلك، بل يقولون: إنه إله واحد، ومن قال ذلك فهو مؤمن.
والجواب عن هذه الشبهة: أن ما زعموه عن النصارى غير صحيح، فإن عقيدة النصارى اليوم قائمة على عقيدة التثليث، ومن نفى ذلك فقد كابر، وعلى فرض صحة ذلك، فإنهم كافرون أيضًا لنسبتهم الولد إلى الله، وقد قال -تعالى-: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} (مريم:88-91).
وعلى فرض أنهم يؤمنون بأن الله واحد لا شريك له، وأن عيسى عبد الله ورسوله؛ فلا يكونوا مؤمنين حتى يقروا بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، كما في الأحاديث السابقة، وهذا هو مقتضى شهادة أن محمدًا رسول الله.
التفريق بين أهل الكتاب والكافرين
ومنهم من زعم أن هناك فرقاً بين أهل الكتاب والكافرين، فيقولون: إن الله خاطبهم بأهل الكتاب، ولم يخاطبهم بالكافرين، ولا يلزم من كونهم أهل كتاب أن يكونوا كافرين، ويستدلون بقوله -تعالى-:{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ}(البينة:1)، على أن أهل الكتاب منهم من كفر ومنهم من لم يكفر.
والجواب عن هذا: أن أهل الكتاب منهم مؤمنون وكافرون قبل البعثة، فمن آمن أن عيسى عبد الله ورسوله من أهل الكتاب قبل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم فهو مؤمن، ومن زعم أنه إله يعبد من دون الله فهو كافر، أما بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم : فلا يقبل من أهل الكتاب إلا الإسلام.
وأمر آخر: وهو أن ما بعد هذه الآية من الآيات يرد عليهم، فقد قال -تعالى- عن أهل الكتاب: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (البينة:5)، ثم إن دعواهم أن الله لم يخاطبهم بالكافرين غير صحيحة، فقد قال -تعالى-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ}(آل عمران:98).
كفر دون كفر
ومنهم من زعم أن المراد بالكفر في الآيات الدالة على كفر اليهود والنصارى فيقولون: إنه كفر دون كفر، وهذا إذا ما عجزوا عن تحريف المراد بالآية؛ كما في الآية السابقة.
والجواب عن ذلك من وجوه عدة:
- أولًا: أين الدليل على أن هذا كفر دون كفر؟
- ثانيًا: ما بعد الآية من الآيات يرد عليهم، قال -تعالى-:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}(آل عمران:99-100).
- ثالثًا: أنه يلزم من هذا الباطل أن من لم يؤمن بنبوة النبيصلى الله عليه وسلم غير كافر، وهذا نقض لشهادة أن محمدًا رسول الله.
التلبيس على السامع
ومنهم من استدل بآيات في كتاب الله ليس فيها دلالة لهم، لكن يلبّسون بها على السامعين، كقوله -تعالى-: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}(المائدة:82)، فزعموا أنهم بذلك غير كافرين.
والجواب في الآية التي تليها مباشرة، وهو قوله -تعالى-: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}(المائدة:83).
إذاً فهذه الآية في حق من آمن بما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بنص الآية، فكيف يزعم أحد أن اليهود والنصارى بعد بعثة النبي ليسوا كفارًا ؟
كذلك زعموا أن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}(البقرة: 62) دليلٌ على إيمانهم.
- والجواب: أن هذا فهمٌ لا تدل عليه الآية مطلقًا، فإن معنى الآية أن هؤلاء الأصناف: اليهود والنصارى والصابئين إذا آمنوا بالله واليوم الآخر، وليس معناها أن اليهود والنصارى قد آمنوا بالله واليوم الآخر!
واستدلوا كذلك بقوله -تعالى-: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(البقرة: 136).
فزعم قائلهم أن كل من آمن بنبيٍ فليس بكافر، فكل اليهود ليسوا كفارًا، وكل النصارى ليسوا كفارًا.
- والجواب: أن هذا ليس معنى الآية، ولفظ الآية لا يدل على هذا الفهم المعوج، وإنما معناها لا نفرق بينهم في الإيمان بهم؛ فيجب الإيمان بالأنبياء جميعًا، ومن كذّب نبيًا واحدًا فقد كذّب كل الأنبياء؛ لأنه يكون قد فرّق بينهم في الإيمان بهم، وهذا يقتضي كفر كل يهودي ونصراني لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم .
الخلاصة أن وصف اليهود والنصارى بأنهم أهل كتاب ليس معناه أنهم ليسوا كافرين؛ فالكتاب والسنة والإجماع على أن من لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو من الكافرين، وليس في الكتاب والسنة خلاف ذلك، والحمد لله رب العالمين.
لاتوجد تعليقات