كيف يتحول الخلاف بين الوالدين إلى موقف تربوي للأبناء؟
لقد مَنَّ الله -تعالى- على عباده بما جعل بين الزوجين من مشاعر المودة والرحمة، وذلك السكن والاطمئنان الذي يكون بينهما قال -تعالى-: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(الروم: 21).
وهذا السكن لا يتحقق إلا بكوْن كل واحد من الزوجين معترفاً بحقوق الآخر قائماً بواجباته الشرعية تجاهه؛ فإذا أخل أحدهما أو كلاهما بشيء من هذه الحقوق والواجبات دبّ النزاع بينهما، وبدأت الأسرة في الانهيار، والأطفال لديهم حاسة مرهفة، مرتبطة بنفسية الوالدين؛ فإن أحسّوا اضطراباً في وضع الوالدين انتقل هذا الاضطراب إلى نفوسهم، وزعزع أمانهم.
أثر الخلافات
كيف تؤثر الخلافات الزوجية على شخصية الأبناء وحالتهم النفسية والصحية ؟
إذا لم يكترث الزوجان بوجود الأولاد في مكان الشجار، وأطلقا لأنفسهما العنان فأخذ كل منهما يعبر عن آلامه وأحزانه، ويكيل الاتهامات للطرف الآخر، وينعته بالأوصاف السيئة، ويكيل له الشتائم، ويدعو عليه بالهلاك والشر، مع ما يصاحب ذلك غالباً من انهيار الأم باكيةً، وارتفاع صوت الأب مهدداً ومتوعداً! عند هذه الدرجة يصبح النمو الصحي والعاطفي للأبناء في خطر!
أما إذا ازدادت الأمور سوءاً، وامتدت يد الأب إلى الأم ضارباً لها، وتكرر هذا المشهد أمام الأبناء؛ فسيترك أثراً بالغ السوء على نفوسهم، وقد يؤدي بهم إلى الانسحاب (المعنوي) من الأسرة والمجتمع والانضمام إلى رفاق السوء والجانحين في صورهم المختلفة، أو فقدان الثقة بالنفس وبالناس، والانغماس في أحلام اليقظة.
وقد أثبتت الدراسات التي أجريت على الجانحين من الأطفال النتائج التالية:
- معظم الأطفال الجانحين يأتون من منازل مفككة، ومنازل تكثر فيها الاحتكاكات بين الزوجين.
- إن سبب انحراف 70- 90 % من الأطفال الجانحين في المجتمعات الغربية يعود إلى عدم وجود وحدة في الرأي والاتفاق بين الوالدين، وأن هؤلاء الأطفال يكونون فيما بعد أفراداً غير أسوياء، ويتصفون بالخوف والكآبة والصمت، كما يتصفون بالكذب والعصيان وبعض الاضطرابات السلوكية الأخرى.
- يعد القلق الليلي من أظهر أعراض إحساس الطفل بالخطر وعدم الأمن، وتُعد المشاحنات بين الوالدين يعدّ عامل يهزّ القيم والحب والمثل العليا والأمان عند الطفل.
- الخلاف الصامت الذي يحاول الوالدان إخفاءه ظاهرياً عن الأبناء، أشدّ تأثيراً على الأبناء من الخلاف الصاخب؛ فقد عزَت بعض الآراء العلمية الحديثة أحد أسباب الإصابة بمرض الربوْ في سنوات الطفولة الأولى إلى الخلاف المكتوم بين الأبوين الذى يستشعره الطفل وإن كان خافياً.
- وأكدت الدراسات أن الطفل الذي يعيش بين زوجين مختلفين دائماً يتعرض للإصابة بالأمراض (مثل الهزال وعسر الهضم) بنسبة 40% زيادة عن الطفل العادي.
- فقد الطفل للإحساس بالأمان يأتي في مقدمة الأضرار النفسية التي تصيبه في الوقت الذي تكون فيه الحاجة للشعور بالأمن من أهم الحاجات النفسية التي ينبغي توفيرها للطفل في أسرته. ويزداد أثر ذلك عندما يعي الطفل التركيبة الاجتماعية للأسرة، وضرورة وجود الأبوين معاً لقيامها، ويظهر ذلك بوضوح بعد سن السادسة.
- في الوقت الذي يحمل الطفل صورة ذات مكانة؛ ولاسيما لوالديه؛ فإن شجار والديه عندما يتضمن سبّا أو تحقيراً لأحدهما؛ فإن ذلك يؤذي الطفل، ويؤدي إلى تشويه تلك الصورة في عقله، فتهتزّ مكانتهما لديه.
التحصيل الدراسي
أثر الخلافات الأسرية على التحصيل الدراسي للأبناء:
لا شك أنّ هناك تناسباً طردياً بين الاستقرار الأسري والتحصيل الدراسي، أكدته الأبحاث التي أجريت حول أسباب التأخر الدراسي على عينة من طلبة المدارس في مرحلة التعليم الأساسي، في إحدى مدن الوجه البحري بمصر، عام:1996م؛ حيث أكدت أنّ اضطراب الجو الأسري من معوقات التحصيل فضلاً عن التفوق الدراسي، وأنّ إهمال الأسرة أو فقرها أو خلافات الأبوين يعد من أسباب فشل الطفل في ملائمة ذاته في الحياة المدرسية؛ وذلك بسبب تشتت ذهنه. كما أنّ سماعه لصوت الشجار المرتفع بين والديه يصيبه بضعف الانتباه والتركيز؛ مما يسبب له العديد من المشكلات الدراسية مثل ضعف الانتباه والشرود الذهني داخل الفصل الدراسي، كذلك قد ينتج عن استمرار المشكلة الرسوب ثم التسرب، وترك المدرسة. وقد تؤثر الخلافات على الأداء التربوي للوالدين أنفسهما!
فكمّ الإهانات التي تحدث أثناء الشجار وما يترتب عليها من آثار، تصيب الحالة العاطفية للطرف المهان بنوع من الشروخ يصعب إصلاحها، كما يستمر إحساسه بالعار والخجل أمام الأبناء تمتد آثاره لوقت بعيد؛ مما يؤثر سلباً على أدائه التربوي، ودوره في توجيه الأبناء.
- كثرة المشكلات والمشاحنات قد تصيب أحد الوالدين بالإحباط، وانخفاض الروح المعنوية تجاه الأسرة عامة، فتكون ردة الفعل لهذه الهواجس إما السلبية بإهمال واجباته التربوية تجاه الأبناء، أو ترك البيت غير عابىء بمسؤولياته، أو سوء معاملة الأبناء (الضرب والصراخ) انتقاماً من الطرف الآخر وتفريغاً لشحنات الغضب، وأحياناً المبالغة في تدليل الأبناء لإغاظة الطرف الآخر وتكوين جبهة مضادة بانضمام الأبناء لصفّه!
كيف نحول الخلافات العادية إلى مواقف تربوية للأبناء؟
ونقصد هنا بالخلافات العادية أي: المنضبطة التي لا ينفك عنها البشر نتيجة للتفاعل اليومي بين الزوجين، بل وبين جميع أفراد الأسرة، التي تحدث دون أن يتخطى الأفراد حدود الاحترام اللفظي والمعنوي فيما بينهم، في هذه الحالة يمكن أن تتحول مواقف الخلاف إلى مواقف تعليمية تربوية للأبناء، إذا تعلمنا فنون ضبط النفس وإدارة الخلاف، بمعنى أن يكون لدى الوالدين الحنكة والمهارة في إدارة الخلافات الأسرية بينهما، وعندئذ يكون هناك بعض الآثار الإيجابية لشهود الأطفال خلافات الوالدين، مثل:
- يتعلم الطفل مما يشهد من الإدارة الذكية لخلافات والديه، أنّ الخلاف أمر وارد وطبيعي بين البشر الذين تربطهم علاقات ومعاملات، وأنّ مشاعر الغضب مسموح بها؛ بشرط ألا لاتؤذى أحداً، كما يتعلم أنّ الاختلاف في الرأي -من المفترض- أنه لا يفسد للوُدِّ قضية.
- يتعلم الأبناء أن الخلاف في وجهات النظر لا يعني بالضرورة الكراهية والفراق؛ فيتعلمون التكيف، و طريقة التعامل مع مثل هذه المواقف.
- من خلال الخلافات الراشدة يتعلم الأبناء قيماً مهمة، مثل التسامح والعفو و تقديم الاعتذار عند الخطأ، وأن ذلك لا يغض من قدر المعتذر.
- عندما ينتهي الخلاف بالوصول إلى حل يرضي الطرفين ويكون ذلك أمام الأطفال، يتعلمون كيف يكون الأسلوب الناضج لحل المشكلات، دون إساءة أو انقطاع في علاقة الأطراف المختلفة.
- يتعلم الأبناء كيفية تنفيذ وصايا النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الغضب؛ فبدلاً من الصراخ الأعمى فليكن الوضوء والصلاة والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم،عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا غضب أحدُكُم وهو قائمٌ، فليجلس؛ فإن ذهبَ عنه الغضبُ، وإلاَّ فليضطجع». رواه البيهقي في شعب الإيمان/ 7932، ثم المبادرة بتغيير جو الخلاف، كالخروج في نزهة أو ممارسة لعبة، ثم محاولة الطرف الهاديء تطييب خاطر الغاضب بطريقة يعلن من خلالها الاحترام له ولحالته الشعورية، وقد روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال لامرأته: «إذا رأيتني غضبت فرضني، وإذا رأيتك غضبى رضيتك، وإلا لم نصطحب».
لاتوجد تعليقات