رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.عادل المطيرات 12 سبتمبر، 2019 0 تعليق

كيف نستقبل العام الهجري الجديد؟

 

 أسدل الستار على عام هجري كامل، وجزء كبير من العمر، ووقت طويل من الزمن، مضى بآماله وآلامه، وحسناته وسيئاته، وأفراحه وأتراحه، وكل غائب قد يعود، وكل مفقود قد يسترد، وكل ذاهب قد يسترجع، إلا العمر المنصرم، والزمن المنقضي، والوقت الغائب.

     إن هذا العام المنصرم جزء من أعمارنا، ونقص من آجالنا، يا ابن آدم إنما أنت أيام، كلما ذهب يومك ذهب بعضك، هكذا كان فهم العارفين، وديدن المتقين، أيقنوا أن أعمارهم مراحل إلى الآخرة، وأيامهم مطايا إلى الباقية، كان بعضهم إذا غربت الشمس من كل يوم جلس عند باب داره يبكي، فيسأل عن سبب بكائه فيقول: قطعت يوما من حياتي، إلى الدار الآخرة، ولا أدري أهي خطوات إلى الجنة أم أنها خطوات إلى النار.

إحساسنا بالزمن غريب

     كم من خطوات مشيناها، ومراحل قطعناها، وأوقات صرفناها، ومع ذلك فإحساسنا بالزمن غريب، والتأمل فيه عجيب، فما كأن العمر الذي مضى والوقت الذي انقضى إلا لحظات يسيرة، وأيام معدودة، بينما هي آلاف الأيام، وعشرات السنين، وهكذا الإحساس بالزمن مهما طالت مدته، وعظمت فترته، حتى في يوم القيامة: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (المؤمنون: 112-114).

قطار الزمن

     إن قطار الزمن الذي يمضي بسرعته الفائقة وحركته الدائمة لا يتوقف عند أحد، ولا يحابي أحدا، ولكن إذا نحن غفلنا عن أيامنا الخالية وأعمارنا الماضية، ونسينا ما عملنا، وغفلنا عما أودعنا، فالله لا يغفل ولا ينسى سبحانه، الأنفاس معدودة، والأعمال مرصودة: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} (المجادلة: 6)، {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (الإسراء: 13-14).

الإنسان محاصر

     الإنسان محاصر من جهاته جميعها، من نفسه، ومن الملائكة الكرام الكاتبين، ومن الأرض التي يسكن فيها، مسؤول عن كل أوقاته، سيواجه بما أودع في أعوامه، ويفاجأ بدقائق أيامه، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} (آل عمران: 30)، كم مضى اليوم تلو اليوم، والأسبوع بعد الأسبوع، والشهر خلف الشهر، والسنة في إثر السنة، وكثير من الناس سادر في غفلته، مفرط في شروده، مغرق في جحوده، لا عقل يتدبر، ولا فكر يتأمل، ولا نفس تردع، ولا هوى يمنع، لم يعتبر بمرور الأيام، ولم يتعظ بتعاقب الشهور والأعوام، ما استغفر ولا تاب، ولا اتسم بسمات أولي الألباب {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ} (آل عمران: 190). غافل عن الاعتبار، مخالف لأولي الأبصار، {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ } (النور: 44).

عجبا لأمر الناس

     يا عجبا لأمر كثير من الناس، إذا ما أرادوا شيئا من أمر الدنيا بذلوا وتعبوا وكدحوا ونصبوا، لا يتركون سبيلا إلا سلكوه، ولا بابا إلا طرقوه، ولا سببا إلا بذلوه، فإذا ما أرادوا جنة عرضها السموات والأرض، والنعيم المقيم، والهناء المستديم: تكاسلوا وتخاذلوا وتهاونوا وتقهقروا، فأين هم من قول الله -تعالى-: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (النجم: 39) وقوله -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} (الإنفطار: 6)، عمرتم أيامكم، وحفظتم أوقاتكم، وصنتم أعماركم، فكان هذا جزاؤكم.

الحياة فرصة

     الحياة فرصة، والعمر غنيمة، والصحة والفراغ نعمة فأين من يغتنم ذلك، صح في المسند عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ»، قال الحسن البصري: ابن آدم إنما أنت بين مطيتين يوضعانك: يوضعك النهار إلى الليل، والليل إلى النهار، حتى يسلمانك إلى الآخرة، فمن أعظم منك يا ابن خطرا.

وما هذه الأيام إلا مراحــــــل

                                   يحث بها داع إلى الموت قاصد

وأعجب شيء لو تأملت أنهــا

                                   منازل تطوى والمسافر قاعـــد

قال بعض الحكماء: كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره، وكيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله، وتقوده حياته إلى مماته.

دقات قلب المرء قائلة له

                                   إن الحياة دقائق وثواني

صح في صحيح البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي فقال: «كُنْ في الدُّنْيا كأَنَّكَ غريبٌ، أَوْ عَابِرُ سبيلٍ». وكان ابن عمر يقول: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّباحَ، وإِذَا أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ المَساءَ، وخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لمَرَضِكَ، ومِنْ حياتِك لِمَوتِكَ».

عش في دنيا كأنك غريب

     المسلم يجب أن يكون في هذه الحياة الدنيا كالغريب الذي يشتغل بدار غربته فلا يخلد لما فيها، ولا يركن إليها، فهي دار لمروره، ومحطة لعبوره، وهمه التزود للرجوع إلى وطنه، ويكون كالمسافر الذي يتزود للرحيل، ويمضي في سفره، ليله ونهاره، ويسير إلى بلد الإقامة، قال عمر رضي الله عنه: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ فِي الْحِسَابِ غَدًا، أَنْ تُحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}، العمر أمانة، والعلم أمانة، والمال أمانة، والأهل والأولاد أمانة، والإنسان مسؤول عن ذلك كله.

فضل شهر الله المحرم

     من فضل الله ورحمته بعباده أن جعل ختام العام بالطاعات والعبادات، فقد ختم العام الهجري بشهر ذي الحجة، حيث فيه العشر الأول التي هي أعظم أيام الدنيا، وفيه الحج إلى بيت الله الحرام، وفيه عيد المسلمين عيد الأضحى، وفيه شعيرة الأضحية، ثم يبدأ العام الجديد بالطاعة والعبادة أيضا، فأول شهر في بداية العام هو شهر الله المحرم، وقد حث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الصيام فيه، فقد صح في صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الَّذِي تَدْعُونَهُ الْمُحَرَّمَ». وحث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صيام العاشر منه وهو يوم عاشوراء، فقد ثبت في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: «يُكَفُّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ».

أفضل الأشهر

     قال ابن رجب: «لما كانت الأشهر الحرم أفضل الأشهر بعد رمضان أو مطلقا، وكان صيامها كلها مندوبا إليه كما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان بعضها ختام السنة الهلالية وبعضها مفتاحا لها، فمن صام شهر ذي الحجة سوى الأيام المحرم صيامها منه، وصام المحرم فقد ختم السنة بالطاعة وافتتحها بالطاعة، فيرجى أن تكتب له سنته كلها طاعة، فإن من كان أول عمله طاعة وآخره طاعة فهو في حكم من استغرق بالطاعة ما بين العملين».

شهر الحرام مبارك ميمون

                               والصوم فيه مضاعف مسنون

وثواب صائمه لوجه إلهـه

                               في الخلد عند مليكه مخـزون

علينا جميعا أيها الأخوة الكرام أن نبدأ هذا العام الجديد بالطاعة والعبادة، وخصوصا الصيام الذي حث عليه رسول الله -  صلى الله عليه وسلم -، ولنستقبل هذا العام الهجري الجديد بالتوبة النصوح لعلها تمحو ما قدمنا من الذنوب.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك