كيف نربي أبناءنا على القناعة في عالم استهلاكي؟
القناعة هي غنى النفس الذي يجعلها مترفِّعة عن سؤال الناس، والتكالب على زينة الدنيا، واقتناع العقل بالاكتفاء الذي يورث الشعور بالرضا، وفسَّر عدد من الصحابة -رضوان الله عليهم- وأهل العلم قوله -تعالى-: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (النحل:97) بالقناعة، وإذا كانت الحياة الدنيا منذ خلقها الله -تعالى- مزينة بألوان من الزخرف، فإن العالم الاستهلاكي يزيد زينتها لمعانًا، ويجعل التكالب على التكاثر والتفاخر أشد، وهو ما يلقي على عاتق الآباء والمربين عبئاً في تنشئة الصغار على القناعة، تلك القيمة المهمة التي تكاد تتلاشى مع وهج الدعايات، والمنتجات، والمقارنات التي لا تنتهي.
القناعة لا تتنافى مع الطموح
ومن المغالطات الشائعة في فهم (القناعة) تصور أنها تتنافى مع علو الهمة والطموح، وكأنها حالة خمود تطفئ شعلة النشاط والرغبة في التغيير، وتجعل النفس مطمئنة بالنقائص، مستسلمة للسفاسف، وهي حالة بعيدة تماماً عن القناعة التي هي غنى داخلي يشجع الإنسان على العمل، ويلهمه سبل التوفيق.
القناعة الداخلية والرضا
ويؤكد كثير من علماء النفس وخبراء التحفيز أن القناعة الداخلية، والرضا عن الحال، وتقدير النعم والشعور بالامتنان لَبِنات أساسية لتحقيق المزيد، بخلاف السخط والرفض الذي يملأ القلب قلقاً واهتياجاً فيتخبط بحثاً عن التغيير بأي وسيلة، وأيّاً كان الثمن، ويظل يلهث ويطمع دون أن يشبع، وكأنه يطارد السراب.
الطمأنينة وغنى النفس
إن حالة الطمأنينة وغنى النفس التي تورثها القناعة دافعة إلى الأمام وليس العكس؛ بل إنها من أسباب الفلاح، قال -[-: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنَّعه الله بما آتاه»، والفلاح هو الفوز العظيم الممتد إلى الآخرة، وليس مجرد متاع دنيوي، إنه النجاح الدائم المتصل بالحق، ولا يكون إلا لمن اطمأنت نفسه لرزق الله، فهو يضرب في الأرض ويبتغي من فضله -تعالى- مطمئناً واثقاً هادئ البال، لا يشتري الثراء السريع بدينه ومبادئه، ولا يبتغي العلو في الأرض بالفساد.
كيف نحقق هذه المعادلة تربويا؟
ولكن كيف نحقق هذه المعادلة تربويا، فنمهد نفوس الناشئة للقناعة بما آتاهم الله، ونحصنهم في الوقت ذاته من الخمول ووهن العزيمة ومطلق القبول؟ إنها بوصلة المربي التي تضبط اتجاهات العقول الغضَّة، فتوجِّه طاقاتهم وطموحاتهم، وتساعدهم على ترتيب أولوياتهم في الحياة، فلا يسعى إلى توطئة النفس على القناعة دون توجيه إلى معالي الأمور وشحذ الهمم لتحصيلها.
النفس التواقة الطموحة
فالنفس التواقة الطموحة يجب ألا يحاربها المربي، أو يسعى لتغييرها؛ فهي نفس شريفة أبيَّة جديرة - بإذن الله - بتحقيق خيري الدنيا والآخرة، إذا ضُبطت اتجاهاتُها، وكان التأكيد على ضبط المسار وليس وأد الطموح. قال الخليفة عمر بن عبدالعزيز - صلى الله عليه وسلم -: «إن لي نفساً تواقة، وما حققت شيئاً إلا تاقت لما هو أعلى منه، تاقت نفسي إلى الزواج من ابنة عمي فاطمة بنت عبدالملك فتزوجتها، ثم تاقت نفسي إلى الإمارة فوليتها، وتاقت نفسي إلى الخلافة فنلتها، والآن - يا رجاء - تاقت نفسي إلى الجنة؛ فأرجو أن أكون من أهلها»، ومن المهم أن تعمل الأدوات التربوية المختلفة التي سنذكرها في غرس القناعة جنباً إلى جنب مع تقوية الطموح، فهما قيمتان متكاملتان وليستا متعارضتين إذا ما ضبطت اتجاهات القيم والأولويات.
أولاً: الأدوات التربوية لتنشئة الأبناء على القناعة
تأتي القدوة دوماً في مقدمة الأدوات التربوية، ففعل رجل في ألف رجل، خير من قول ألف رجل لرجل، وأبناؤنا يتشربون سلوكياتنا ونظرتنا للحياة، وينطبعون بطبائعنا دون أدنى جهد؛ لذا فإن تعزيز قيمة القناعة داخل نفس المربي خطوة أولية لتمتع الأبناء بها، ونموذج القدوة هنا هو مربٍّ طموحٌ في الخير، صاحب أهداف، حامل رسالة، يسعى لتطوير نفسه وتحسين حياته، يعي ويعلم أن المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضَّعيف، ولكنه يسير بهذا الطموح، وتلك الهمة، من نفسية مطمئنة راضية. قد يبدو هذا الجمع بين القناعة والطموح عسيراً، ولكنه في الحقيقة قابل للاجتهاد والتطبيق، كما كان أسوتنا - صلى الله عليه وسلم - يعلِّم: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز».
القدوة الحسنة
عندما يرى الصغار مَن هم تحت رعايتهم دؤوبين في العمل، مستبشرين دوماً بفضل الله، واثقين في رزقه وعطائه، فإن هذه المعاني العظيمة تنغرس في وجدانهم، وإن الأم التي تتحسر أمام أبنائها على حالها، وتتطلع لما في يد الآخر، وتقارن نفسها دوماً بمن هم أعلى منها في الرزق، وتلاحق الشراء والتكاثر والتفاخر في الزينة والأموال، تفتح على قلوب أبنائها أبواب القلق والجشع، وترتب أولوياتهم وفق تفاهات الأمور، فتصعب عليهم القناعة، ويعز مقام الرضا، بخلاف تلك التي يراها صغارها حريصة دوماً على تطوير نفسها في الخير، والارتقاء بعقلها وترتيب حياتها، شاكرة لأنعم الله، واثقة مطمئنة في السراء والضراء. ثانياً: الحماية من طرائق الإغراق الاستهلاكي (الإعلانات - اعتياد التسوق - الثقافة المحيطة)؛ فالمجتمع الاستهلاكي متطلع دوماً للشراء، أفراده ضحايا للجذب المستمر نحو اقتناء الجديد، والاستكثار من البضائع المختلفة وتنويعها، ولتحقيق هذا كان فن الدعايات الذي يستهدف الأطفال على أنها شريحة مهمة يسهل شحذها بالصور والألوان والنهم المستمر في الاقتناء.
خطورة الإعلانات
الإعلانات بمختلف وسائلها تحيط بالأطفال، تخرج لهم عبر التلفاز، وفي الشارع، وفي المجلات، وعلى الإنترنت، ويعتمد أكثرها على رسم صورة محببة بعد اقتناء السلعة، وكذلك مراكز التسوق تبهرج الألعاب والأغراض للأطفال، وتكدسها أمامهم بطريقة تفتن أعينهم وعقولهم الصغيرة. العديد من مخرجات الثقافة والفنون تركز على المادي لصالح الجوهري، وتفتح أبواب التطلع المستمر، وأخطر ما في اعتياد الطفل على الإعلانات والتسوق ليس الضغط على والديه بالمطالب، وإنما اهتراء القناعة في قلبه، فهو دوماً قلق للحصول على ما ليس لديه، فمهما كان لدى الطفل من ألعاب فإنه إذا ذهب إلى المركز التجاري سيريد المزيد، ومهما كان لدى الفتيات من ملابس وحليٍّ، فإن مشاهدتهن للمزيد والجديد سيولد الرغبة فيها، ولا شك أن الحماية من هذا الإغراق الاستهلاكي ليست بالأمر السهل، ولكن بعض العادات الحياتية للأسرة قد تقلل من أثرها، مثل:
أولاً: عدم اعتبار التسوق نزهة: من الأمور الشائعة في حياتنا المعاصرة، التي تضعف أركان القناعة لدى الكبار والصغار، فضلاً عن أضرارها النفسية والاجتماعية الأخرى، هي عد التسوق فسحةً وترفيهاً، فيصبح الشراء متعة للنفس وليس ضرورة، وهو ما قد يُطور فيما بعد لإدمان الشراء.
التعامل مع التسوق
إن الأسرة التي تتعامل مع التسوق على أنه مهمة يؤديها الأب أو الأم باختصار وتحديد، وتقوم بها الأسرة مجتمعة على فترات وبأهداف محددة، في الوقت الذي يعتادون فيه على التنزه في أحضان الطبيعة، والزيارات واللقاءات العائلية والاجتماعية، ينشأ فيها الطفل مدركاً لما يجدد نفسه، ويزيل ملله، ويريح أعصابه بحق، من تأمل في إبداع خلق الله، واستمتاع بالهواء الطلق، والتآلف الاجتماعي، بدلاً من أن ينشأ أسيراً للشراء والاستهلاك لمداواة متاعبه وتجاوز ملله. ثانياً: عدم مشاهدة الإعلانات قدر المستطاع: تحتل الإعلانات مساحة كبيرة من المحتوى الإعلامي والفني سواء في القنوات المتلفزة أم الإلكترونية، وتعويد الطفل -منذ الصغر- على عدم مشاهدتها وتحويلها فوراً يقلل من أهميتها عنده، وليكن هذا الأمر دون ضغط وكأننا نخاف منها، ولكن باستهتار بها وعدم إضاعة الوقت في مشاهدتها.
ثالثاً: التوعائية: كلمات المربي ورأيه حول أساليب الدعاية والإعلان، والطرائق المختلفة للإغراق الاستهلاكي تؤسس لطفل واعٍ، لديه مرشحات استقبال، وكلمة بسيطة من المربي تصف الدعاية بأنها وهمية، أو مبالغ فيها، أو أنها في الغالب مجرد تلاعب بعقول المشاهد واستنزاف لأموالهم ستجعل الطفل يفكر.
لاتوجد تعليقات