رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: اللجنة العلمية في الفرقان 26 أكتوبر، 2022 0 تعليق

كيف نربي أبناءنا على القناعة في عالم استهلاكي؟    (2)

ما زال حديثنا موصولا عن كيفية تربية أبنائنا على القناعة في عالم استهلاكي؛ حيث تكلمنا في الحقبة الماضية عن مفهوم القناعة، ثم ذكرنا الأدوات التربوية لتنشئة الأبناء على القناعة وذكرنا منها، وسائل الحماية من طرائق الإغراق الاستهلاكي وذكرنا منها: عدم اعتبار التسوق فسحة، عدم مشاهدة الإعلانات قدر المستطاع، ثم التوعية، واليوم نكمل هذه الوسائل.

 

رابعاً: الكرم والكفاية

      بين الإسراف والتقتير تقع فضيلة الكرم، والآباء الذين يضيِّقون على أبنائهم لن يتقبلوا منهم النصح، ولن يصدقوا توعيتهم، وإذا كان عدم استرسال الوالدين مع رغبات الأطفال، والضغوط الاستهلاكية أمراً مهما، فإن كفاية الطفل، وإشباع احتياجاته، ضرورة لاستقامة إحساسه بالنموذج الأبوي، يريد الآباء أن يمنحوا أطفالهم كل شيء، وألَّا يحرموهم من شيء، ولكن الإسراف مدمر لوعي الطفل وسلوكه، كما هو الحال مع البخل والتقتير، أما الكرم والعطاء فيكون بتعويد الطفل أن يشتري بوعي، وينقد رغبته في الاقتناء قبل الاسترسال فيها، ويدرك قيمة المال، فيصلح الموجود قبل أن يبحث عن المفقود.

خامساً: الشكر والامتنان

     القناعة القلبية تثمر الرضا القلبي الذي بدوره يبعث في النفس الرغبة في شكر المنعم، والاعتياد على الامتنان لنعم الخالق -تبارك وتعالى-، كما أن تنشئة الأبناء على الاستبصار بالإيجابيات، ونقاط القوة، وعميم فضل الله -تعالى-، دعائم لا غنى عنها في تأسيس عقلية القناعة.

سادساً: الانتباه في استخدام المقارنة

     يعمد كثير من الآباء والمربين إلى المقارنة للتحفيز والتغيير، وقد تأتي المقارنة بنتائج سريعة، فيغار الطفل من فلان الذي ينال إعجاب أبويه، ويسعى للتفوق عليه، ولكنْ للمقارنة آثار سلبية عديدة، تجعل ضرها أقرب من نفعها؛ فهي تزرع الغيرة والحقد في نفس الطفل، وتجعله واهن الثقة، كلما أنجز شيئاً تضعضعت ثقته أمام من حقق إنجازات أكبر، وكلما أخفق في شيء شعر بالهزيمة وكأنه في سباق وتنافس دائم مع الآخر.

عيوب التربية بالمقارنة

     ومن أكبر عيوب التربية بالمقارنة أنها تضعف القناعة؛ فالتعود على وجود آخر يثير الغيرة ويتسابق معه الإنسان يباعده عن القناعة واستقرار قلبه رضاً بما لديه، ويظهر ضعف تأثير المقارنة عندما يكون المحيط سلبياً وضعيفاً، فيشعر النشء الذي اعتاد على مقارنة نفسه بالآخرين أنه أفضل منهم دينيا أو أخلاقياً أو علمياً، فتضعف همته، وتخور قوته في التطور والإنجاز. ولدينا أصل نبوي في هذا الباب يجب ألَّا يغيب عن المربين؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ اللَّه -[-: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ هو أَسفَل مِنْكُمْ وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوقَكُم؛ فهُوَ أَجْدَرُ أَن لا تَزْدَرُوا نعمةَ اللَّه عَلَيْكُمْ»، وقال بعض أهل العلم: «انظر في أمر دنياك لمن هو دونك، وانظر في أمر آخرتك لمن هو فوقك».

ضبط لبوصلة المربي

     وهنا ضبط لبوصلة المربي؛ ففي أمور الدنيا لا يقارن نفسه، ولا طفله، بمن هم أعلى منه، بل على العكس، ينظر لحال من هو أدنى، فيمتلئ قلبه رضاً وشفقة، لا سخطاً وحقداً. وفي الحديث الآخر: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ، رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً، فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَآنَاءَ النَّهَارِ».

     فهنا الغبطة ليست على العلم والمال مجردين، وإنما على اغتنام الخير بهما، على السلوك الإيماني المصاحب للنعمة، الذي تؤدي المقارنة والرغبة في التشبه به إلى تعميمه وشيوعه، وترتيب سلم التقدير والانبهار في عقل الفرد والمجتمع؛ فاستخدام المقارنة من قِبَل المربي، يجب أن يكون محدوداً، ويركز على السلوك الإيماني الطيب، لا على شخص مَن يقوم به، فيصبح تنافساً شريفاً، لا يفرق القلوب، ولا يضعف العزائم، كما قال -تعالى-: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْـمُتَنَافِسُونَ} (المطففين: 26)، بعيداً عن المقارنة التي تؤجج التباغض والحسد الذي نهى عنه نبينا الكريم - صلى الله عليه وسلم -: «ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا».

سابعاً: إرادة الآخرة

     أولئك الذين يمشون على الأرض هوناً ليسوا ضعاف الرغبة، ولا فاقدي التوق إلى التنعم، ولكنهم آثروا الآخرة لأنها {خَيْرٌ وَأَبْقَى} (الأعلى: 17)، ولا يمكن أن تقنع هذه النفس الإنسانية التي جُبلت على التطلع والتكاثر، في ظل فتنة الدنيا الخضرة الحلوة، ولا أن تشبع عين ابن آدم التي لا يملؤها إلا التراب، فابن آدم إذا كان له واد من ذهب لتمنى وادياً آخر، إلا إذا كان لديه يقين في نعيم مقيم يتزود من أجله بالخيرات في هذه العاجلة. ومن أعظم القيم التربوية التي تحتاجها النفوس الغضَّة وهي تُقْبِل على الحياة، إرادة الآخرة، وتخليص هذه الإرادة الشريفة من شبهة الضعف والتراخي عن النجاح والفلاح الدنيوي، فالإرادة هي عمل قلب، ورُبَّ كسول سلبي ولكن قلبه يريد الدنيا ويبكي عليها، وآخر يكد ويعمل وعينه على الآخرة. قال -تعالى-: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِـمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً (19) كُلّاً نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} (الإسراء: 18- 20)، فإشعال التوق والترغيب في نعيم الآخرة، يجعل الإنسان قانعاً بما يرزقه الله في الدنيا، غيرَ متحسر على فوات حظ من حظوظها، على أن يكون مدركاً لأهمية التزود، وقيمة العمل والإنجاز، فيصبح شعاره: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص: ٧٧)، وختامًا فإن تربية الأبناء على القناعة تورثهم عزة النفس، وترفعهم عن الذل والسؤال، أو بيع دينهم لعرض من الدنيا.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك