رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: علاء إبراهيم عبدالحميد 12 مايو، 2019 0 تعليق

كيفَ يُعاقِبُنا الله على المَعاصي وهو من كَتَبَها عَلَينا؟! (1)

 

 

حينَمَا يسرحُ العقلُ بعيدًا عمَّا خُلقَ له، ويفتِّشُ عن حقولٍ معرفيَّة ليسَت من اختصاصِه، ويغوصُ في بحارٍ لم يُهيَّأ للغَوصِ فيها؛ سينزَلِق في مهاوي الضَّلال بلاشَك، ومن ذلِكَ أن يُدخِلَ الإنسَانُ عقلَه فيما هو من خصَائِصِ الله ومُلكه وَتدبيره؛ فَيُحاكِم أفعالَ الله على ما يمليهِ عقلُهُ الضَّئيل والضَّئيل جدًّا، لدرجة أنَّه لا يدرك ولا يمكن أن يدرك ماذا سيحصُلُ في الثَّانية القادمة، والضَّئيل جدًّا لدرجة أنَّه لا يستَطيعُ أن يتخطَّى حجب الغيب ليطَّلِعَ ولو على جزءٍ صغيرٍ ممَّا يفعله صديقه المقرَّب في غيابه، بل الضَّئيل جدًّا لدرجة أنَّه لا يستطيع أن يعرف من تلقاء نفسه ماذا حصل لهُ بالضَّبط في حالِ نومِهِ أو غيبوبَتِه، ثمَّ يأتي ويبرِز عضَلات هذا العقل ليَعترِضَ على من أبدَعَ وأتقَنَ صُنعَ هذا العَقل، ووضَعَ فيه القدراتِ الهائِلَة التي تظهر إذَا عمِلَ في مجالاتِه وحقوله التي يجيدُ التَّعامل معَهَا.

اعتراضات منافية للعقل

     ومن أكثَر هذهِ الاعتراضات العقليَّة المُنافيَةِ للعَقل: أن يعترضَ الإنسانُ على أقدارِ الله أو يحتجَّ بها لتسويغِ معاصيه؛ فإنَّ القدر سرُّ الله الذي لم يُطْلِع عليه أحدًا، وهو من خصائص ربوبيَّته ومُلكه وتَدبيره، وقد خَرَجَ النبي صلى الله عليه وسلم يومًا على أصحابه وهم يتكلَّمونَ في القدر؛ فغضِب حتَّى كأنما تفقَّأ في وجهه حبُّ الرمان، وقال: «ما لكم تضربون كتابَ الله بعضَه ببعض؟! بهذا هَلكَ من كان قَبلكُم.

     ولذلكَ نهي الصَّحابة الكرام ومن بعدهم من كبارِ هذه الأمَّة وعقلائها عن الخوض في القدر؛ فإنَّ القدرَ بابٌ لا يُفتح إلا بمَا أراد الله إظهارهُ للنَّاس من النَّزر اليسير؛ ولذلك يقول ابن عمر -رضي الله عنهما- حين سُئل عن القدر: شيءٌ أراد الله ألا يطلِعَكم عليه، ورُغم ذلك لا بدَّ لنا من الوُقوفِ على عتبَة ذلك الباب الْمُحكم إغلاقُه؛ لننفيَ عنه حوائمَ الرَّيب والشَّكّ، ومن ذلك مسألتنا التي سنتناولها في مقالِنا هذا بعون الله.

أصل الاعتراض

     من تلكَ الاعتراضات التي تُورد في باب القدر قول بعضهم: كيفَ يُعذِّبُنا الله على معاصينا وهو قد كَتَبَهَا علينا؟! وإن شئتَ أن تُعيدَ صياغة السؤال تقول: لماذا يُعاقبنا الله ونحن مُجبَرونَ على فعل المعاصي؟! فإن لم نُصلِّ لله أو نُخرج زكاةَ أموالنا أو تعدَّينا وظلَمْنا لم يكن ذاكَ إلا بسلطة كتابَةِ الله؛ فأينَ عدلُ الله حين يجبرُنَا ثم يعاقبنا؟!

     وإن شئتَ مرةً أخرى أن تعيدَ الصياغة فاقرأ قول الله -تعالى-: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} (الأنعام: 148)، وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ}(النحل: 35)، إنَّها الشُّبهة نفسها، المنطلقات نفسها، النَّبعُ نفسه، السُّؤال نفسه القديم الذي لا يزالُ يتجدَّد في بعض الأذهان ويتداول على بعضِ الألسنة.

بينَ نتيجَتين

وحاصل هذا الاعتراضِ أنَّنَا بينَ نتيجَتين:

1- إمَّا أن نقول: إنَّ الإنسانَ لا يستطيع أن يَخرُج عمَّا هو مكتوبٌ له؛ فهو مُجبَرٌ عليه؛ فيكونُ هذا طعنًا في عدلِ الله؛ إذْ عذَّبه رغم جبره!

2- وإمَّا أن نقول عن الإنسان: إنَّهُ يستطيعُ أن يغيِّر قدره؛ فينشِئ فعلًا لم يردهُ الله ولم يكتُبهُ عليه، وفي هذا نِسْبَة العَجز إلَى الله -حاشا وكلا.

وسَنُحاوِل في هذا المقال أن نُجيب عن هذهِ الجزئية وهي:  هل الكتابَةُ السَّابقة تقتضي الجبرَ؛ فيكونُ الثَّواب والعقاب منافيًا للعدل؟

نقطةٍ مهمَّة

      قبل الإجابة عن هذا الاعتراض لابُد أن نُنبِّه على نقطةٍ مهمَّة وهي: أنَّ هذه المسألة مبنيَّة على الإقرَارِ بوجودِ الله؛ فإنَّ من لم يؤمن بوجودِهِ لا يحقُّ له الاعتراض بهذا الاعتراض؛ إذ لا وجودَ أصلًا لمن يقولُ: إنَّه قد أجبره! وهذا الاستحضار مهمٌّ جدًّا للمؤمن؛ فإنَّ الإنسان الذي يقرُّ بوجودِ الله، ويعترف بكماله وجلاله وعظمتِه، ويعجزُ عن إدراكِ كمال الله على حقيقتِه، ويتضاءل كالذَّرةِ أمامَ ملكوته العظيم، كيفَ له أن يُحيطَ بأسرارِ تقدير الله، ويعرفَ مكنونات الغيب، ويطَّلع على كُنه التَّدبير؟! فإن كان لا يمكن ذلك البتَّة تضاءَل قدر هذا الاعتراض؛ لأنَّنا ندرك أن تقديرَ الله هو من أخصِّ خصائص ربوبيَّته وكمالِه وجلالِه، وطلبُ معرفة حقيقة سرِّ التقدير لكلِّ شيءٍ هو في الحقيقة طلبٌ لمعرفة حقيقةِ كمال الله وجلالِه، وهو فوق طاقةِ عقولِ البَشر، ولا يمكنُ معرفة بعضِهِ إلا بالوحي.

جواب هذا الاعتراض

وإذا عرفنا هذا يُمكننا أن نتحصَّل جواب هذا الاعتراض من خلال المقدِّمات الآتية:

العدل والحكمة

- المقدِّمة الأولى: أنَّ الله -سبحانه وتعالى- متَّصفٌ بالعدلِ والحكمة؛ فلا يُمكنُ أن يصدر عن الله ظلمٌ أو عبثيَّة، وكلُّ ما قدَّر الله -تعالى- فهو العدلُ المطلق، وكلُّ ما كتبه ففيه الحكمة البَالغة، وقد ذكرَ الله ذلك عن نفسه مرارًا فقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: 46)، {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (الكهف: 49)، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (يونس: 44)؛ فاللهُ -سبحانه وتعالى- لا يصدرُ منه ظلمٌ ولا جور -تعالى الله عن ذلك-، وهو ممَّا أوجبهُ على نفسه كما في الحديثِ القدسي: «يا عبادي، إنِّي حرَّمتُ الظَّلم على نفسي، وليسَ للعبادِ عليه -سبحانه- حق، وإنما هو فضلٌ وإحسانٌ، كما أنَّ أفعالَه كلَّها تُنزَّه عن العبثيَّة؛ فهو الحكيم الذي له في كلِّ شيءٍ حكمةٌ عرفناها أو جهلناها؛ فما قَدَّر من خيرٍ فلحكمةٍ بالغة، وما قدَّر من شرٍّ فلحكمة كامنَةٍ لا تظهرُ لنا، فهو الذي يدبِّر أمورَنا بحكمةٍ بالغة.

الخضوع والإقرار

     وليس لِلإنسانِ إلا أن يخضَعَ ويُقرَّ ويؤمن بهذا العدلِ والحكمَة ولو لم يعرف وجهَها، فلا يُمكن معرفةُ أسرار القَدَر كلها، ولا الإحاطة بحِكَم الباري، وهذا الإنسانُ لا يزالُ يكتشف في ذاته ولاسيما نفسِه اكتشافاتٍ جديدَة كانت خافيةً عليه؛ فالإنسانُ الجاهل بما في جسَدِهِ كيفَ له أن يُحيط بحِكَمِ الله -تعالى- من أوامره ونواهيه وتقديرِه؟

وخُلاصةُ الكلام في هذهِ المُقدِّمة: أنَّ الله -سبحانه وتعالى- لا يمكن أن يصدرَ منهُ إلَّا العدل والحكمة، وكل ما قدَّره وقضاه، فهو يجري وفق عدلِه وحكمته، سواء عرفنَا ذلك أم لَم نعرفه.

العلم المطلق

- المقدمة الثانية: أنَّ الله -سُبحانه وتعالى- متصفٌ بالعلم المُطلق، وهذه المقدمة من المقتضياتِ الضَّرورية لاتِّصاف الله بصفة الخلق؛ فإنَّه لا يمكنُ انفصالُ علمِ اللهِ عن خلقه؛ فما دامَ أنَّه خالقُ الكون فإنَّه بالضَّرورة سيكونُ عالِمًا بما خَلَق، وقد ذكرَ الله في كتابِهِ سعةَ علمِه؛ فقال: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (الأنعام: 59)، يعلمُ -سبحانَهُ- عن الوَرقةِ التي ستسقُطُ من تلكَ الشَّجرة في تلكَ الغابة المليئَةِ بالأشجار وتحتَ جُنح الظَّلام، ويعلمُ تلك الحبَّة المتوارية في ظُلماتِ الأَرض، وهو -سُبحانَه- {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} (طه: 7)، قالَ الواحِدي عن هذِهِ الآية: {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ} وهو ما أسرَرْتَ في نفسِك، {وَأَخْفَى} وهُو ما ستُحَدِّث به نفسَك مِمَّا لم يكُن بعد، والمعنى: إنَّهُ يعلمُ هذا؛ فكيفَ ما جهر به؟

أفعال الإنسان

     فكلُّ مَخلوقٍ لابُدَّ وأنَّ الله قد علِم كل ما يتعلَّق به، والإنسانُ وأفعالُه لا يمكنُ أن تخرج عن هذهِ الكلِّية؛ إذ إنَّهُ جزءٌ من الكونِ المخلوق المدبَّر؛ فنَعرف مِن هَذا أنَّ الله يعلَمُ ما سيفعلُه الإنسان ضرورةً؛ وذلك لأنَّه من جُملة الأَحداث، وقد كَتَبَ الله -سبحانَهُ وتعالى- ما علِمَهُ ممَّا هو كائنٌ إلى يومِ القيَامَة، كما في الحديث الذي أخرجهُ مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنَّ النَّبي[ قال: «كَتَبَ الله مقاديرَ الخَلائق قبلَ أن يخلُقَ السَّموات والأرض بخمسين ألفَ سنة»، قال: «وعرشُهُ على الماء» ولسنَا بِصدَدِ بيانِ مرتَبةِ الكِتابَة وذكرِ أدلَّتِها، وإنَّما نُشير إلى التَّرابط الوثيق بين علمِ الله وكتابتِه، ومعرفةُ هذا التَّرابط مهمٌّ جدًّا في حلِّ هذا الاعتراض؛ فإذا عرفنا بالضَّرورة العقليَّة أنَّ الله قد علِمَ كلَّ شيء عرفنا أنَّ هذِهِ الكتابةَ مبنية على علمِه -سبحانه-؛ فحقيقةُ الكتابَة أنَّ الله -سبحانه وتعالى- قد كَتَب ما عَلِم أنَّه سيكُون؛ فالعلمُ سابقٌ للكتابة كما هو واضحٌ وظاهِر.

وخُلاصة هذه المقدِّمة: أنَّ الله -سبحانه وتعالى- يعلَمُ كلَّ شيءٍ؛ لأنَّه خالقه، وقد كَتَب مقادير الخلائق بناءً على علمه -سبحانه.

بيان السبيلين

- المقدِّمة الثالثة: أنَّ الله قد بيَّن للناس جميعهم السَّبيلَيْن، وهداهُمُ النَّجدَين؛ فَالله -سُبحانَه وتعالى- من تمامِ عدلِهِ أنَّه لا يُعذِّبُ أحدًا لم تبلُغه الحجَّة، {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (الإسراء: 15)؛ ولذلكَ أرسَلَ اللهُ الرُّسل {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء: 165)، وفي ذلِكَ يقولُ الله -سُبحانَه وتعَالى-: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (البلد: 10)، قال ابن مسعود: (الخير والشر)، وكذا رُوِيَ عن علي وابن عباس، ومجاهد، وعكرمة وغيرهم.

      وهذِهِ الأدلَّة تبيِّن أن الله -سبحانه وتعالى- قد هدى الناسَ كلَّهم هدايةَ دلالةٍ وإرشاد؛ فبيَّن لهم طريق الخير وما تؤول إليه، وطريق الشرِّ وما تؤول إليه، ولئِن قامَ النَّاس مثنى وفرادى يبحثون عن طعنٍ يطعنون به في هدايةِ الله ما وَجدُوه؛ فإنَّه سبحانه قد بيَّن أتمَّ بيان، وأرسلَ الرُّسل ليبلِّغ عنه دينَهُ وأوامرَه ونواهيَه، وقبلَ ذلكَ أقامَ الحُجج العقليَّة والضَّرورات النَّفسيَّة، ثمَّ قبلَ أن يؤاخِذَ أحدًا بذنبِه بيَّن له وعلَّمَه وأرشدَه؛ ولذلِكَ قطعَ اللهُ الطَّريق على كلِّ من حَاوَلَ أن يعترضَ على الله؛ فَحَكى اللهُ قولَهم: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (الزمر: 56-58)، ثم كان الجواب: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (الزمر: 59).

- وخلاصة المقدمة: أن التكليف قائمٌ على بيانٍ وإرشادٍ وهداية.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك