رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: إبراهيم بن محمد صديق 16 يوليو، 2020 0 تعليق

«كلُّكم من آدم» تميُّز الإسلام في إرساء العدل ونبذ العنصريَّة (3)

 

 

 

لا شكَّ أنَّ المظاهر التي سبق عرضها في المقالين السابقين تحمل في طيَّاتها نبذ العنصرية؛ إذ إنَّ الدعوة إلى المساواة العادلة، وعدم التَّفريق بين النَّاس في الحقوق الأساسيَّة، إنَّما هي دعوة إلى تفعيل ذلك في سائر شؤون الحياة بنبذ ما يضادُّها من العنصرية، واليوم مع المظهر الثالث وهو ذم تعيير الناس من أجل العرق واللون.

     إن كانت الشَّريعة قد ذمَّت تفضيل النَّاس بحسب العرق أو اللون، فكذلك ذمَّت التعيير بحسب العرق واللون، فعن المعرور بن سويد قال: لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلَّة وعلى غلامه حلَّة، فسألته عن ذلك، فقال: إني ساببت رجلًا فعيرته بأمِّه، فقال لي النبي -صلى الله عليه وسلم -: «يا أبا ذر، أعيرته بأمِّه؟! إنك امرؤٌ فيك جاهليَّة، إخوانكم خَوَلُكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه ممَّا يأكل، وليلبسه ممَّا يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم»، فبيَّن له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من كان تحته من العبيد فإنَّما هم إخوانه، ولا شكَّ أن تلك مرتبة سامية جاءت بها الشريعة لنبذ العصبية والعنصرية.

النَّهي عن السخرية

     ومن أجل ذلك جاءَ الأمر الإلهي في القرآن الكريم بالنَّهي عن السخرية من الإنسان أيًّا كان، وعن التَّنابز بالألقاب؛ لما فيه من تحقيرٍ للآخر، وهو عين العنصرية التي تمارس في كثير من الأحيان، يقول -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات: 11)، فالسخرية من الآخرين لأعراقهم أو ألوانهم أو أحوالهم أو طبقتهم في المجتمع هو من السخرية التي نهى عنها الله ورسوله، يقول الضَّحاك: «نزَلَت في وفد بني تميم الذي ذكرناهم، كانوا يستهزئون بفقراء أصحاب النَّبي - صلى الله عليه وسلم - مثل عمَّار وخباب وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة؛ لما رأوا من رثاثَةِ حالهم»، ويقول السعدي -رحمه الله-: «وهذا أيضًا من حقوق المؤمنين بعضهم على بعض، ألا يسخر قومٌ من قوم بكل كلامٍ وقولٍ وفعلٍ دالٍّ على تحقير الأخ المسلم؛ فإن ذلك حرام لا يجوز، وهو دالٌّ على إعجاب الساخر بنفسه، وعسى أن يكون المسخور به خيرًا من الساخر كما هو الغالب والواقع، فإنَّ السخرية لا تقع إلا من قلبٍ ممتلئٍ من مساوئ الأخلاق، متحَلٍّ بكل خلقٍ ذميم».

التَّنابز بالألقاب

     ومثل السخرية في التَّحريم: التَّنابز بالألقاب، يقول الطَّبري: «عنى بها الألقاب التي يَكرَهُ النبزَ بها الملَقَّبُ، وقالوا: إنَّما نزلت هذه الآية في قوم كانت لهم أسماء في الجاهلية، فلما أسلموا نُهُوا أن يدعُوَ بعضهم بعضًا بما يكره من أسمائه التي كان يُدعى بها في الجاهلية»، وقال ابن كثير: «وقوله: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} أي: لا تتداعَوا بالألقاب، وهي التي يسوء الشخصَ سماعُها»، وممَّا يحزن القلبَ ما يراه الإنسان في مواقع التواصل والمنتديات من تنابزٍ بالألقاب بين المسلمين أنفسِهم، بل بين أهل البلاد الواحدة، وهو -فضلًا عن كونه محرمًا في الشريعة- له آثار سيئة على التماسك المجتمعي، وإيثارٌ للفتن، وتفريقٌ للكلمة؛ ولذا سدَّت الشريعة هذا الباب بالتحريم الصريح.

تطبيق لا مجرَّد تنظير

     حين شرَّع الإسلام العدل بين النَّاس، وكفل لهم حقوقهم المشروعة، وحرَّم العنصرية وكل ما يؤدِّي إليها من قولٍ أو فعل، لم يكن ذلك مجرد تنظير، بل كان الجانب التطبيقي حاضرًا وبارزًا في تعامل الإسلام مع العنصرية، فلم يكتف الإسلامُ بوضع حلٍّ نظري لمشكلة العنصرية وتأكيد المساواة والإخاء والعدل، وإنَّما وضع نظامًا عمليًّا لمحاربة العنصرية، ويمكننا أن نرى ذلك في موضعين:

الموضع الأول:

حرصُ الشَّريعة على ما يحفظ هذا التنظير، وينقله من هذه الخانة إلى خانة التطبيق: فلم تكتف الشَّريعة بأن نظَّرت لتحريم العنصرية ومبدأ العدل بين الناس فحسب، وإنما جاءت الأحكام الإسلامية أيضًا متضمنةً لنبذ العنصرية، وتقرير العدل والمساواة الحقة، بل تكاد تكون جميع العبادات الكبرى متضمنة لهذا المعنى.

المساواة ونبذ العنصرية

     فالصَّلاة مثلًا من أكثر ما يغرس في الإنسان المساواة ونبذ العنصرية، ليس هناك أي تخصيص لأي فئة في الصلاة، فلا عبرة بكون الإنسان وزيرًا أو أميرًا أو غنيًّا أو فقيرًا، أو أبيض أو أسود، بل من أتى إلى المسجد وقف في الصف، ووقف بجانبه من جاء بعده مهما كانت منزلته، فتجد الفقير بجانب الوزير، والأبيض يحاذيه الأسود، وأستاذ الجامعة يقف بجانبه عامل النَّظافة، فترى في المساجد المساواة ونبذ العنصرية في صورتها العملية التطبيقية.

وهذا المعنى في الحج أظهر وأبيَن، حين يتخلَّص الجميع من كلِّ لباس إلا الإزار والرداء، فيتفق فيهما الجميع، يلغي الحج كل الفوارق الطبقية واللّونية والعرقية والإقليمية، ويفرض على الجميع شعارًا واحدًا، ولباسًا واحدًا، وأحكامًا يشترك فيها الجميع.

الموضع الثاني:

     حال النبي - صلى الله عليه وسلم - في نبذ العنصرية، وتحقيق ذلك في بلاد الإسلام: فمن يتأمَّل سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام يجد أروع الأمثلة للمساواة والعدل ونبذ العنصريَّة، فلا عبرة باللون أو العرق أو القبيلة أو الوضع الاجتماعي أو الاقتصادي حينما يختار النبي - صلى الله عليه وسلم - صحابته لمهامِّه، أو يجالسونه، ويؤاكلونه، ويسمعون منه، ويأتمُّون به في الصف، بل كان بلال الحبشي مؤذنَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وهي منزلة رفيعة بلا ريب، بل حين فتح الله لرسوله وللمسلمين مكَّة المكرمة أمر النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بلالًا أن يرقى الكعبة ليؤذِّن في مشهدٍ مهيب، وأمام عظماء قريش وأشرافها، واضعًا بذلك الميثاق الأعظم للأخوَّة بين النَّاس والتعامل فيما بينهم، فلا لون ولا عرق ولا إقليم يحدِّد أفضلية الشخص.

     يقول مقاتل وهو يحكي سبب نزول قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13): «لَمَّا كان يوم فتح مكة أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بلالًا حتى علا ظهر الكعبة وأذَّن، فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص: الحمد لله الذي قبَض أبي حتى لم يرَ هذا اليوم، وقال الحارث بن هشام: أمَا وجَد محمَّدٌ غير هذا الغراب الأسود مؤذِّنًا؟! وقال سهيل بن عمرو: إن يردِ الله شيئا يغيّره، وقال أبو سفيان: إنِّي لا أقول شيئًا؛ أخاف أن يخبِر به ربُّ السماء، فأتى جبريل فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قالوا، فدعاهُم وسألهُم عمَّا قالوا فأقرُّوا، فأنزل الله -تعالى- هذه الآية، وزجرهم عن التَّفاخر بالأنساب والتَّكاثر بالأموال والإزراء بالفقراء».

المعيار في الإسلام

     فالمعيار في الإسلام إذًا لا يكون باللون أو العرق أو الإقليم؛ ولذلك حين أرسل النَّبي - صلى الله عليه وسلم - سرية إلى الروم في غزوة مؤتة أمَّر عليهم زيد بن حارثة - رضي الله عنه - وكان من الموالي، وفي الجيش جعفر بن أبي طالب، فالإسلام أزال الفوارقَ التي تقومُ على أساسٍ من الجنس أو العِرق أو اللون وأذابها، وبذلك تعامل الصحابة الكرام، فهذا بلال - رضي الله عنه - يقول عنه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا»، هذه هي المساواة التي طبقها الإسلام ليكون مبنيًّا على التَّقوى؛ ولذا لم يشفع لأبي لهب أن كان من أشراف قريش، أو كان عمًّا للنَّبي - صلى الله عليه وسلم -، بينما سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - خشخشة في الجنَّة، فنظر فإذا هو بلال بن رباح - رضي الله عنه .

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك