كسر الروح القيادية عند الأطفال
يغفل الكثير منا التعامل مع الأطفال، وكأننا لم نمر بهذه المرحلة في بداية حياتنا، وننسى أو نتناسى ذكريات الطفولة، وكيف تعامل الكبار معنا؛ الأمر الذي انعكس بصورة أو أخرى في أنفسنا، وترك شرخاً في تصرفاتنا مع الآخرين إلى اليوم، ومع مرور الأيام والسنين أصبحنا غير قادرين على تغييرها؛ لأن (الطبيعة جبل)، ولم ندرك نحن في عصر التحول أنه يمكن أن تتحول الجبال، وذلك ليس بمستحيل؛ فالذي رُزق الحج قبل سنوات من الآن لو عاد إلى هذه البلدة الطيبة التي تهوي إليها أفئدة الناس، لرأى بعينيه كيف تغيرت وتحولت الجبال، فصارت قاعاً صفصفاً أو برجا مشيداً ومبنى شاهقاً.
تكوين الشخصية
الطفولة هي المرحلة التي يبدأ فيها تكوين الشخصية، بل وتؤثر في رسم المستقبل، وذلك بزراعة الثقة بالنفس التى تُغرس في هذه السنوات المبكرة؛ فكم من طفل أفقده والده أو معلمه الثقة بالنفس، فأصبح لا يثق بنفسه، فضلاً عن أن يثق به غيره، أو أن يثق في غيره حتى كبر على ذلك (من شب على شيء شاب عليه)، فهو فهو لا يتحمل أدنى مسؤولية، ولا يشارك المجتمع بشيء، وتجده خجولاً، ويتوارى عن أنظار القوم حتى رأيه لا يكاد يبديه، يظل حبيس أنفاسه، ونحن لا ندرك أهمية هذه المرحلة؛ فنتعامل مع الصغار بعدم اعتبار لهم، فهم عندنا صغار لا يفهمون إلا الحلوى واللعب واللهو، فليست لهم مشاعر ولا أحاسيس، كأنهم خشب مسندة، أو جمادات هامدة.
لا تنهر الصغار
ويخطر بخواطري درس تعلمته من أحد الدعاة، صحبته ذات يوم إلى مركز صيفي في مسجده؛ حيث يلتقي بالطلاب كعادته، ويعد لهم مسابقات تربوية وجوائز تحفيزية، فكانوا ينتظرونه على أحر من الجمر؛ فلما انتهى هذا اللقاء تدافع نحوه الأطفال بأريحية عالية، بعضهم يمسك بجلبابه، ولا يبالى بيده نظيفة أم غير ذلك، فبصوت مرتفع نهرتهم: امكثوا مكانكم، وابتعدوا عنه، هذا عيب.
وإذا بآخر تلامس يده ملابسه، فاشتد غضبي وكدت أضربه، لكنني نهرته، وزجرته أمام أقرانه؛ ولما ودعهم وانطلقنا إلى مناسبة أخرى، قال لي أثناء الطريق: لا تنهر الصغار أمام إخوانهم، فتكسر فيهم الروح القيادية، هؤلاء هم قادة المستقبل، يجب أن نزرع فيهم ذلك .
قصة الشيخ ابن عثيمين
وذكر قصة عن الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- كان إذا فرغ من صلاته مباشرة أقبل على قرءاة الأذكار، ولا يكلم أحداً من الناس حتى ينتهي، ولكن إذا سلم عليه طفل صغير قطع قراءة الأذكار وسلم عليه ولاطفه، ثم أكمل قرءاة الأذكار، فقيل له: يا شيخ يأتيك الرجل الكبير وله حاجة، فلا تجيبه حتى تفرغ من الأذكار، ويأتيك الطفل الصغير فتسلم عليه! فقال بلهجته: «إذا كسفت الصغير ما ينساها لي أبدا، ولكن الكبير يصبر»، وقتها تذكرت كيف كان عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم ، يُجْلِسُه في مجالس القوم عند الكعبة وهو صغير، وكان بعض قريش يعترض على عبد المطلب، فيرد قائلاً: إن لابني هذا شأناً عظيماً، والسيرة مليئة بنماذج من غرس الروح القيادية للأطفال، ولا ننسى الدور البطولي لمعوذ ومعاذ ابنى عفراء في قتل فرعون هذه الأمة أبي جهل في معركة بدر، كما لا ننسى جيش أسامة بن زيد، فرغم صغر سنه تولى مهمة الدفاع عن الدين وقيادة، جيش مكون ممن يفوقه علماً وسناً وفقهاً، وهذا هو النبي صلى الله عليه وسلم سيد القادة يقطع خطبة الجمعة من أجل طفلين صغيرين – كما في الحديث – فَأَقْبَلَ الْحَسَنُ، وَالْحُسَيْنُ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَعْثُرَانِ وَيَقُومَانِ فَنَزَلَ فَأَخَذَهُمَا، فَصَعِدَ بِهِمَا الْمِنْبَرَ، ثُمَّ قَالَ: «صَدَقَ اللَّهُ: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}(التغابن: 15)، رَأَيْتُ هَذَيْنِ فَلَمْ أَصْبِرْ»، ثُمَّ أَخَذَ فِي الْخُطْبَةِ .
أعدوهم للقيادة
وهنا يحضرني موقف في طفولتي: كنا مجموعة من الصغار نرتاد المسجد، ومع أننا كنا مهذبين مميزين، لا نثير فوضى ولا شغباً، كنا مع ذلك مضطهدين، مطاردين من قبل رجل عجوز، فكان حراماً علينا أن نصلي في الصف أو خارجه، فكنا لا نصلي حتى تقام الصلاة، فإذا أقيمت تسللنا وجلين إلى الصف الأخير، وإذا قضيت الصلاة ولينا هاربين خوفاً من رجل ذي سبحة كبيرة يضرب بها على الرأس، وذات يوم سمعنا خبر وفاة ذلك الرجل، ففرحنا فرحاً شديداً بموته، وقلنا: الحمد لله الذي أراحنا منه؛ أما الآن فألتمس لذلك الرجل عذراً – رغم قسوته – فهو ربما كان متأولاً للحديث الموضوع : «جنبوا مساجدكم مجانينكم وصبيانكم».
ونماذج ذلك الرجل في مجتمعاتنا كثيرة؛ اذ لا يكاد يخلو مسجد منه؛ فلم يكن يرتاد المسجد سالفاً إلا من انحنى واحدودب ظهره؛ ففي زمن الاستعمار والاحتلال كانت المساجد مهجورة، ولكننا نعيش اليوم عصر الصحوة الإسلامية للشباب؛ لذا تكمن أزمة أمتنا في كونها أزمة قادة، فلا بد من إعداد قادة منذ نعومة أظفارهم وتربيتهم على هذه المهام، جيل يتربى على الهمة العالية، وعلى القيادة والريادة والسيادة.
الروح القيادية
فلنسارع في غرس الروح القيادية لدى الأطفال، ومنحهم الثقة بأنفسهم، وإعدادهم إعدادا للأمة، وتوجيههم حين يخطئون بالتى هي أحسن، بأسلوب التوجيه، وأن نقدر كل خطأ بقدره، ليس كل خطأ يوجب الضرب، فهنالك أخطاء يكفي فيها النظرة الحادة، وأخرى يُكتفى فيها بالتوجيه، وذلك إذا كان أول خطأ، فإن لم نفلح ننتقل إلى ضرب الأمثال والعبر، بدلاً من ضرب الأبدان والأجسام، ونتحول من أسلوب إلى آخر من أساليب التربية والتوجيه، وآخر العلاج الكي _ أي الضرب – ويجب أن يكون بتوسط واعتدال، وهذا للحالات المستعصية.
ونوجه رسالة لكل أب شفوق أو معلم نصوح، أو مربٍ عطوف، فالرفق الرفق؛ فإن الرفق لم يكن في شيء إلاّ زانه ولا نُزع من شيء قط إلاّ شانه، وفي الحديث الآخر: «إِذا أَرَادَ الله بِأَهْل بَيت خيراً أَدخل عَلَيْهِم الرِّفْق». صحيح الجامع 303.
لاتوجد تعليقات