رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 8 مايو، 2017 0 تعليق

كتابة الوقف وتوثيقه


توثيق الأوقاف من أعظم أسباب حفظها واستمرارها ومنع أيدى المعتدين عنها، وهو السبيل الذي يحقق مقاصد الواقفين في بقاء أوقافهم مع تعاقب السنين، والحفاظ عليها من الضياع والاندثار، والتقيد بمصارفها كما نص عليها الواقف، وضبطها من التغيير والأهواء.

والحكمة من مشروعية التوثيق للوقف واضحة جلية، قال الشيخ العلامة السعدي -رحمه الله-: «فكم في الوثاق من حفظ حقوق، وانقطاع منازعات»! كما أن في إثبات الأوقاف وضبط إجراءاتها حفظاً لها من الاندراس والنسيان، أوالاعتداء عليها بالظلم والعدوان، وضبط جميع الحقوق المتعلقة بها، وهو مقصد معتد به في الشرع.

الكتابة أبقى من الشهادة

     وإثبات الوقف بالكتابة -أيضاً-، لأن الكتابة أبقى من الشهادة؛ لذهاب أعيان المستشهد بهم، ووقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثبتَ بدايةً بالإشهاد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبكتابة وتدوين الأحاديث النبوية الشريفة الخاصة به، ومع ذلك كتب عمر] وثيقته وأشهد عليها؛ لأن في توثيق الوقف صيانة للحقوق، وقطع للمنازعة، وديمومة للوقف.

     ونقلت لنا كتب التاريخ أن هناك من أثبت الوقف في لوحة رخامية كبيرة على مدخل الموقوف كما في المدرسة النورية الكبرى في دمشق التي بُنيت في عام  567هــ/1171م)، وفي المغرب بلغ حرصهم في المحافظة على المدارس أنهم كانوا ينقشون الموقوفات على رخام كان يبنى في جدرانها حفاظاً على استمرار إنفاقه عليها؛ فالمحافظة على الأصول الوقفية يستلزم تثبيت وضعها القانوني.

تجديد الوثائق مع تعاقب السنين

فقد عُني المسلمون - لحماية الوقف - بتجديد وثائقه مع تعاقب السنين، وقد نصت بعض الوثائق الوقفية على اشتراط الواقف في كل عشر سنين بالإثبات والتنفيذ لدى قاضي القضاة.

     وهذا التعاهد بتجديد وثيقة الوقف لحفظ الأصول على الدوام وقطع الطريق على المتلاعبين، وكان بعضهم ينقش ملخصاً لكتاب وقفه على الحجر أو الخشب داخل المنشآت التي أقامها لتكون وقفاً لله -تعالى- ليعلم الجميع أنها وقف، وكذلك ما أوقف للصرف على هذا الوقف إن كان مدرسة أو مستشفى أو نزلاً لابن السبيل أو لطلبة العلم .

وكانت الحجج الوقفية تكتب على الورق والجلود والخشب و الحجر، إلا أنه خوفاً من تلفها، ولاسيما ما كان مكتوباً على الورق أو الجلد، فقد كانت تجدد كلما مضى عليها فترة من الزمن، كما كان بعض الواقفين يشترط أن يقوم ناظر الوقف بتعهد كتابة الوقف كل عشر سنين بالإثبات والتنفيذ لدى قاضي القضاة.

     وبعض هذه الوثائق يجدد على رأس كل مائة سنة ويصاحب ذلك قراءتها في الجوامع، أو من خلال تكرار توقيع القضاة على الوثيقة الوقفية كما في وقفية صلاح الدين الأيوبي المؤرخة في سنة ( 585هـ/ 1189م)، وقد جرى توثيقها في المحكمة الشرعية في القدس في عام (1022هـ/1613م)، ولكن قبل ذلك كان القضاة المتعاقبون يضعون أختامهم على الوثيقة تأكيداً عليها والتزاماً بها، وقد رُصد خمسة عشر توقيعاً وختماً للقضاة على تلك الوثيقة خلال مئتي سنة.

تفصيل الوثيقته الوقفية

ويستحب كذلك تفصيل الواقف في وثيقته الوقفية، وذلك لضمان حفظ وقفه واستمرار نفعه، وإزالة اللبس في أعيانه وحدوده وشروطه ومصارفه، وكذلك النص على تعيين ناظره. 

لذا كان لابد من ضبط تحرير الوثائق الوقفية بما يضمن حقوق أطراف الوقف، وقد اتفق العلماء على أن شروط الواقف -في الجملة- معتبرة في الشريعة، وأن العمل بها واجب».وعبَّر ابن القيم -رحمه الله- عن هذا المعنى بقوله: الواقف لم يُـخرج ماله إلا على وجه معين؛ فلزم اتّباع ما عينه في الوقف من ذلك الوجه.

وأهل العلم رفعوها إلى منـزلة النصوص الشرعية؛ من حيث لزومها، ووجوب العمل بها، فقالوا: «إن شرط الواقف كنص الشارع، ولكن هذه الشروط لا تكون بهذه المنـزلة إلا إذا كانت محققة لمصلحة شرعية، أو موافقة للمقاصد العامة للشريعة، وهي المتمثلة في: حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال.

حيث أوضح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- بقوله: «من قال من الفقهاء: إن شروط الواقف نصوص كألفاظ الشارع، فمراده: أنها كالنصوص في الدلالة على مراد الواقف، لا في وجوب العمل بها، والشروط إن وافقت كتاب الله كانت صحيحة، وإن خالفت كتاب الله كانت باطلة».

وقد حرص الواقفون على تأكيد الوقف وتأبيده ولزومه فتضمنت وثائق الوقف تلك العبارات، فقد جاء في جُلها عبارة: «وقفاً صحيحاً شرعياً مؤبداً، وحبساً صريحاً حبسه وسبله لله -تعالى- دائما أبداً حتى يرث الله الأرض ومن عليها».

ولهذا فإن من الطرائق الوقائية والعلاجية لموضوع الاعتداءات على الأعيان الموقوفة، ضبط الحجج الوقفية عند تحريرها بضوابط تمنع ذوي الشوكة أو الموظفين المسؤولين أو النظار من التدخل بما يؤدي إلى الاستيلاء على الوقف، والنص كذلك على تأبيدها وعدم استبدالها إلا بأمر من القضاء .

فمن الأخطاء كتم الوقف وإخفاؤه؛ فالأصل في الوقف أن يُشاع بين الناس، والإخفاء يكون بداية من الواقف، ظناً منه أن ذلك أكثر أجراً، وهذا قد يدفع بعض الورثة إلى كتمان الوقف الذي أوقفه مورثهم، ويتلفون عمداً أي ورقة كتبها المورث؛ ليتصرفوا فيه بيعاً ونفعاً، فلا مرجعية في ذلك بعد أن أتلفت وثائق الوقف.

جاء في (الموسوعة الفقهية): «الشهود على التصرفات وسيلة لتوثيقها، واحتياط للمتعاملين عند التجاحد، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم  وغيرهم؛ لأن الحاجة داعية إلى الشهادة لحصول التجاحد بين الناس فوجب الرجوع إليها».

وفي العهود الإسلامية لجأ بعض الواقفين إلى الإكثار من الشهود على كتاب الوقف؛ ومما ذكره المقريزي - عند كلامه عن الدار البيسرية التي أنشاها الأمير بدر الدين الشمسي الصالحي النجمي - أنه أشهد على وقفه اثنين وتسعين عدلاً . 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك