رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر 10 يوليو، 2018 0 تعليق

قَوَاعِد فِي تَزْكِيَة النَّفْس (1)

كلُّنا يعلم خطورة النفس وعظمَ شأنها، ويكفي إدراكًا لعظم هذا الأمر ما جاء في سورة الشمس؛ حيث أقسم الله -جل وعلا- بآياتٍ عظيمات ومخلوقاتٍ متنوعات أقسامًا متعددات على النفس؛ مفلِحها وغير مفلحها {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}(الشمس: 9-10)، يكفي هذا إدراكًا لعظم هذا الأمر، وأن الواجب على كل إنسان أن تعظم عنايته بنفسه تزكيةً لها، ومباعدةً لها عن التدسية؛ إذ النفوس نفسان:

نفسٌ شريفة، همُّها المطالب العالية، والمنازل الرفيعة، والأعمال الفاضلة .

ونفسٌ دنيئة تحوم حول الدناءات، وحقير الأشياء وخسيسها.

     ومن زكى نفسه؛ فقد أفلح، ومن دساها خاب وخسر، والحياة الدنيا معترك لهذا الأمر العظيم، والناس بين مفلح وخاسر؛ ولهذا كان متأكدًا على كل ناصحٍ لنفسه أن يعمل جاهدًا على تزكيتها، وزمِّها بزمام الشرع العظيم، وأطرها على الحق أطرا، حتى تصبح نفسًا زكية شريفة، وأن يحذر أشد الحذر من إهمالها، والتفريط في شأنها، لئلا يبوء بالخيبة والخسران، وهذا الباب -باب تزكية النفس- تكلم فيه أهل العلم كثيرًا وبيَّنوا فيه بيانًا شافيا، وما سأذكره -بإذن الله عز وجل- يُعد خلاصات مهمة في هذا الباب العظيم؛ حيث سأذكر عشر قواعد في تزكية النفوس مع مراعاة الاختصار؛ لأن كل قاعدة منها موضع تفصيل والحديث فيها يطول .

توحيد الله -جل في علاه

- القاعدة الأولى: إن أصل ما تزكو به النفوس توحيد الله -جل في علاه-؛ فهو أصل الأصول وأساس التزكية، ولا زكاة لنفسٍ دونه، وهو الغاية التي خلق الله -جل وعلا- الخلق لأجلها وأوجدهم لتحقيقها، قال -عز وجل-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(الذاريات:56)، وقال -سبحانه-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}(النحل:36)، وقال -تبارك وتعالى-: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}(البينة:5)، وقال -جل وعلا-: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}(الزمر:3) ، وقال -جل وعلا-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}(الأنبياء:25)، والآيات في هذا المعنى كثيرة.

الوعيد الشديد

     ولقد توعَّد الله -جل وعلا- من لا يزكي نفسه بتوحيد الله الوعيد الشديد، قال -جل وعلا-:{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}(فصلت: 6-7)، ومعنى {لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} في قول أكثر المفسرين كما قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- أي: لا يوحدون الله؛ فالزكاة هنا التوحيد؛ وبهذا يُعلم أن التوحيد أصل زكاة العباد، وأنه لا زكاة لهم دونه، فإذا وُجد في العبد -عياذًا بالله- ضده وهو الشرك، بطل كل شيء عند العبد، وفسد وفارق الزكاة جملةً وتفصيلا، حتى لو قُدِّر أن عنده شيئا من الأعمال الصالحة، قال الله -تعالى-: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(المائدة:5)، وقال -تعالى-: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }(الزمر:65)، وقال -تعالى-: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ}(التوبة:54) .

     فتوحيد الله -عز وجل- أصل التزكية وأساسها الذي عليه تقوم، ومثل التوحيد في تزكيته للنفس كالشجرة التي لا قيام لها ولا نماء إلا على أصلها؛ فإن فسد أصلها فسدت، وإن طاب طابت، قال الله -تبارك وتعالى-: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (إبراهيم: 24-25)؛ فأصل تزكية النفوس توحيد الله -عز وجل- وضده أصل التدسية والخسران التام في الدنيا والآخرة .

الدعاء مفتاح تزكية النفوس

- القاعدة الثانية: الدعاء مفتاح تزكية النفوس؛ لأن زكاة النفوس بيد الله -جل في علاه-، {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ}(النساء:49)، {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ}(النور:21)، وقال -تعالى-: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)  فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(الحجرات:7-8)، وقال -تبارك وتعالى-: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}(النساء:83)، وقال -تعالى-: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}  (الحجرات:17)؛ فالأمر بيده، يهدي من يشاء، ويزكي من يشاء، ويضل من يشاء، الأمر أمره والخلق خلقه .

اللجوء إلى الله -جل وعلا

     ولهذا كان مفتاح تزكية النفس اللجوء إلى الله -جل وعلا- لا تثق بنفسك ولا بفهمك ولا بعلمك ولا بذكائك وفطنتك، وإنما الجأ إلى الله -عز وجل- طالبًا منه -جل وعلا- أن يزكي نفسك، وأن يمن عليك بالزكاء والهداية؛ فالأمر بيده، قال أحد السلف: «تأملت في جماع الخير، فإذا الخير كثير الصلاة والصيام وغير ذلك، وإذا كل ذلك بيد الله؛ فأيقنت أن الدعاء جماع كل خير»؛ ولهذا من وفق صدقًا للدعاء، فقد وفق للخير {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(البقرة:186)، قال -تعالى-: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(غافر:60)، وقال -تعالى-: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}(إبراهيم:39)، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «إني لا أحمل همَّ الإجابة، ولكن أحمل همَّ الدعاء»؛ لأن الله تكفل بإجابة من دعاه وصدق في الالتجاء إليه -سبحانه وتعالى-؛ فهو لا يخيب من دعاه ولا يرد من ناداه، بل جاء في الحديث عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللهِ -تَعَالَى- مِنَ الدُّعَاءِ»، وقال صلى الله عليه وسلم : «مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ». وفي هذا الباب، باب تزكية النفس، ثبت في صحيح مسلم من دعاء نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم  أنه قال في دعائه: «اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا ، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا ؛ أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا»، وهي دعوة عظيمة للغاية، جديرٌ بكل مسلم أن يعنى بها مراتٍ وكرات في أيامه ولياليه، وكان من أكثر دعاء نبينا صلى الله عليه وسلم: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك