قواعد وأصول مهمة (3) خطورة تكفير أئمة الإسلا م
استكمالا لما بدأنا الحديث عنه من ظاهرة الطعنِ في بعض الأئمة الذين اتُّفِقَ على مكانتهم وصدقهم وعدالتهم وعِلمهم وأمانتهم ورسوخ قدمهم، كالإمام أبي حنيفة والإمام النووي والحافظ ابن حجر وغيرهم من أئمة الإسلام والعلماء الأعلام رحمهم الله جميعًا، وقلنا :إنَّ هذه الفتنة كانت قد أطلَّت بقرنها منذ عقودٍ يسيرةٍ، وظهر من يجهَر -بلا خوفٍ ولا حياءٍ- بالطعن في هؤلاء الأئمّة الأعلام، بل ويكفِّر طائفةً منهم، كالإمام النووي والحافظ ابن حجر، ويَدعُو لحرق كُتُبهما وتحريم النظر فيها؛ بدعوى أنهما من الأشاعرة، وأن الأشاعرة جهمية، وأن السلف متَّفقون على تكفير الجهميّة، ثم ذكرنا أن هناك قواعد وأصول بينها العلماء في تناول هذه المسألة، ذكرنا منها: الأصل الأول: في خطورة تكفير المسلمين، والأصل الثاني: منهجية التعامل مع الكلمات المنقولة عن السلف، واليوم مع الأصل الثالث: التفريق بين الحكم المطلق والحكم على المعيَّن.
فتكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به كفرٌ بلا خلاف، كما قال -تعالى-: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} (الزمر: 32)، أما الحكم على شخصٍ معيَّن بالكفر إذا أنكر شيئًا مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنَّ ذلك يتوقَّف على استيفاء الشرائط وانتفاء الموانع.بيان هذين الأصلين
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في بيان هذين الأصلين:- الأصل الأول: أن العلم والإيمان والهدَى فيما جاء به الرسول، وأن خلاف ذلك كفر على الإطلاق، فنفي الصفات كفر، والتكذيب بأن الله يُرى في الآخرة، أو أنه على العرش، أو أن القرآن كلامه، أو أنه كلم موسى، أو أنه اتخذ إبراهيم خليلا كفر، وكذلك ما كان في معنى ذلك، وهذا معنى كلام أئمة السنة وأهل الحديث.
- والأصل الثاني: أن التكفير العام كالوعيد العام، يجب القول بإطلاقه وعمومه، وأما الحكم على المعين بأنه كافر أو مشهود له بالنار، فهذا يقف على الدليل المعين؛ فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه.
إنكار معلوم من الدين بالضرورة
ولذلك اتَّفق السلف على تكفير من أنكر معلومًا من الدين بالضرورة؛ لأنه يُجزم بتكذيبه للرسول - صلى الله عليه وسلم -، بخلاف من أنكر ما دون ذلك، فإنه لا يمكن تكفيره إلا بعد إقامة الحجة الرسالية التي يفهمها مثله، ويُكفَّر منكرها، ولا فرق في هذا بين الأمور العلمية الخبرية والأمور العملية، فمن أنكر وجوب الصلوات الخمس أو صوم رمضان أو تحريم الزنا والخمر ونحوها فهو كافر، وهي أمور عملية. ومن نازع في رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ربَّه ليلة المعراج، وفي نبوة الخضر ومريم وغيرهما ممن اختلف العلماء في نبوتهم، فإنه لا يكفر، بل ولا يبدع ولا يضلل، مع أنها مسائل اعتقادية علمية.مرد التكفير أو التضليل
فليس مرد التكفير أو التضليل إلى كون المسألة اعتقادية أو عملية، أو من مسائل الأصول أو الفروع؛ فإن هذا التقسيم محدث لا دليل عليه، ولا يجوز بناء الأحكام عليه، وهو من كلام المعتزلة، بل مرد ذلك من جهة النوع: لكون المسألة تكذيبًا لله ورسوله، ومن جهة العين: لتحقق ذلك في الشخص المعيَّن باستيفاء الشروط وانتفاء الموانع. ومن هذه الموانع: الجهل والتأويل؛ فإن التأويل من موانع التكفير؛ لأن صاحبه لا يكذب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإنما يخطئ في تأويل كلامه.التفريق بين النوع والعين في الأحكام
وهذا التفريق بين النوع والعين في الأحكام هو مما استفاضت الأدلَّة به، واتفق عليه السلف -رضي الله عنهم-، فمن أدلة ذلك من القرآن: قوله -تعالى-: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البقرة: 286)، وقوله -تعالى-: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (الأحزاب: 5)، قال شيخ الإسلام: «فهذا عامّ عمومًا محفوظًا، وليس في الدلالة الشرعية ما يوجب أن الله يعذِّب من هذه الأمة مخطئًا على خطئه». وقال -تعالى-: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (المائدة: 112)، قال المعلمي اليماني -رحمه الله-: «فالآية ظاهرةٌ في أن القوم كانوا قد أسلموا، وأخذوا بحظٍّ من الإيمان، ولكن بقي في قلوبهم شيءٌ من الجهل والشكِّ، ولم يوجب هذا أن يُعَدُّوا كفَّارًا أو مرتدِّين». أدلة السنة النبوية ومن أدلة السُنَّة النبويَّة: حديث أبي هريرة -رضي الله الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -[- قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ: فَإِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ وَاذْرُوا نِصْفَهُ فِي البَرِّ، وَنِصْفَهُ فِي البَحْرِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ العَالَمِينَ! فَأَمَرَ اللَّهُ البَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ البَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: لِمَ فَعَلْتَ؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ، فَغَفَرَ لَهُ». فهذا رجل شكَّ في قدرة الله -تعالى- على بعثِه بعدما أُحرق وذري، ومع ذلك غفر الله له؛ لأنه كان جاهلا، قال ابن قتيبة -رحمه الله-: «هذا رجل مؤمن بالله، مقرٌّ به، خائف منه، إلا أنه جهل صفةً من صفاته، فظن أنه إذ أُحرق وذري في الريح أنه يفوت الله -تعالى-، فغفر الله -تعالى- له بمعرفته ما بنيته وبمخافته من عذابه جَهْلَهُ بهذه الصفة من صفاته. وقد يَغْلطُ في صفات الله -تعالى- قومٌ من المسلمين، ولا يُحكم عليهم بالنار، بل تُرجأ أمورهم إلى من هو أعلم بهم وبنياتهم».لا يسع أحد رد أسماء الله وصفاته
وقال الشافعي -رحمه الله-: «لله أسماء وصفات، جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيه - صلى الله عليه وسلم - أمته، لا يسع أحدًا قامت عليه الحجة ردها؛ لأن القرآن نزل بها، وصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القول بها، فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر، فأما قبل ثبوت الحجة فمعذور بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل، ولا بالروية والفكر، ولا نكفر بالجهل بها أحدًا، إلا بعد انتهاء الخبر إليه بها، ونثبت هذه الصفات، وننفي عنها التشبيه كما نفاه عن نفسه، فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيْر} (الشُّوْرَى: 11)».ثبوت العذر بالجهل
والأدلة على ثبوت العذر بالجهل والخطأ والتأويل كثيرة مشهورة، ومما يؤكد ذلك: عدم تكفير الصحابة -رضي الله عنهم- للخوارج، فعلي -رضي الله عنه- لما سئل عنهم: أكفارٌ هُم؟ قال: من الكفر فرّوا، قيل: فمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلّا قليلا، وهؤلاء يذكرون الله كثيرا. قيل: فما هم؟ قال: قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا، ولا شكَّ أن سيرته معهم تدلُّ على أنه -ومعه الصحابة- لا يكفرونهم، فلم يبدؤوهم بقتال إلا حينما سفكوا الدم الحرام، ولم يعاملوهم معاملة المرتدين.عدم تكفير الخوارج على ضلالتهم
قال الخطابي: «أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج -مع ضلالتهم- فرقة من فرق المسلمين، وأجازوا مناكحتهم وأكل ذبائحهم، وأنهم لا يُكفَّرون ما داموا متمسكين بأصل الإسلام»، هذا مع كون الخوارج يكفِّرون الصحابة الذين ثبت فضلهم بالقرآن والسنة، ويستحلون الدم الحرام والمال الحرام، ولكن لما كان ذلك كله بتأويل امتنع تكفيرهم. وقال ابن قدامة -رحمه الله-: «وأكثر الفقهاء على أنهم (أي: الخوارج) بغاة، ولا يرون تكفيرهم، قال ابن عبد البر: لا أعلم أحدًا وافق أهل الحديث على تكفيرهم وجعلِهم كالمرتدين». وقال أيضا: «وإن استحلَّ قتل المعصومين وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل فكذلك، وإن كان بتأويل كالخوارج فقد ذكرنا أن أكثر الفقهاء لم يحكموا بكفرهم مع استحلالهم دماء المسلمين وأموالهم، وفِعْلِهم لذلك متقربين به إلى الله -تعالى-، وكذلك لم يحكم بكفر ابن ملجم مع قتله أفضل الخلق في زمنه، متقربا بذلك، وقد عُرِف من مذهب الخوارج تكفيرُ كثيرٍ من الصحابة ومن بعدهم، واستحلال دمائهم وأموالهم، واعتقادهم التقرب بقتلهم إلى ربهم، ومع هذا لم يحكم الفقهاء بكفرهم؛ لتأويلهم».عدم تكفير الصحابة لمانعي الزكاة
ومن أدلة ذلك أيضا: عدم تكفير الصحابة لمانعي الزكاة، مع أن منعهم للزكاة كان لاعتقادهم عدم وجوبها بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونفي وجوب الزكاة كفر بلا شك؛ لأنه تكذيب للقرآن، ولكن لما كان ذلك بتأويل امتنع تكفيرهم، وهؤلاء هم الذين اختلف أبو بكر مع عمر -رضي الله عنهما- في قتالهم، فإنهم لم يختلفوا في قتال منِ ارتدوا لعبادة الأوثان، أو اتّبعوا مدعي النبوة؛ لوضوح شأنهم، وإنما اختلفوا في مانعي الزكاة؛ لوجود الشبهة عندهم، واستقرّ الأمر على قتالهم قتال الطوائف الممتنعة عن شرائع الإسلام، وهو لا يستلزم تكفير أعيانهم كما هو معلوم.عدم تكفير عمر -رضي الله عنه- لمن استباحوا الخمر
ومن أدلة ذلك: عدم تكفير عمر -رضي الله عنه- والصحابة لمن استباحوا الخمر، كقدامة بن مظعون متأولًا قوله -تعالى-: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوا وَّآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوا وَّآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوا وَّأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (المائدة: 93)؛ وذلك لوجود الشبهة، مع أن استحلال الخمر كفر وتكذيب للقرآن، ولكن لما كان ذلك بتأويل لم يكفر قدامة بن مظعون -رضي الله عنه- بذلك، وإن عاقبه عمر على ذلك بالجلد.كلّ جاهل بشيء لا يحكم بكفره
قال ابن قدامة -رحمه الله-: «وكذلك كلّ جاهل بشيء يمكن أن يجهله لا يحكم بكفره حتى يعرف ذلك، وتزول عنه الشبهة، ويستحلّه بعد ذلك، وقد قال أحمد: من قال: (الخمر حلال) فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه. وهذا محمول على من لا يخفى على مثله تحريمه لما ذكرنا».
لاتوجد تعليقات