رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر 16 سبتمبر، 2021 0 تعليق

قواعد فِي الاسْتِقــامَة والثبات على أمر الله -تعالى (2)

 

يترتَّب على الاستِقامة  سعادةُ الدُّنيا والآخرةِ، وفلاحُ العبدِ وصلاحُ أمرِه كلِّه؛ مصداقًا لقول الله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} (فصلت:30-32)، حيث ذكرنا أربعة قواعد هي: الإستقامة هبة ربانية، وأن حقيقة الإستقامة لزوم المنهج القويم والصراط المستقيم وأن أصل الإستقامة إستقامة القلب وأنها من العبد السداد فإن لم يكن فالمقاربة.

القاعدة الخامسة

     الاستقامة تتعلَّق بالأقوَال والأفعَال والنَّيَات، بمعنى أنَّ أقوال العبد ينبغي أن تكون ماضية على الاستقامة - يستقيم لسان العبد -، وأن تكون أفعاله ماضية على الاستقامة - تستقيم جوارح العبد -، وأن يكون قلبه أيضاً ماضياً على الاستقامة - بأن يستقيم قلب العبد-؛ فالاستقامة المطلوبة من العبد: استقامةٌ في الأقوال، واستقامةٌ في الأفعال، واستقامةٌ في النِّيَات؛ قال ابنُ القيِّم -رحمه الله- في كتابه مدارجُ السَّالكين: «والاستقَامةُ تتعلَّق بالأقوالِ والأفعالِ والأحوالِ والنِّياتِ»، وفي المسند للإمام أحمد من حديث أنس - رضي الله عنه - أن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ»؛ قال ابنُ رجَب: «وأعظمُ ما يُراعى استقامتُه بعدَ القلبِ مِنَ الجوارح اللِّسانُ، فإنَّه تُرجمانُ القلب والمعبِّرُ عنه».

خطورة القلبِ واللِّسان

     ولنُلاحَظ هنا خطورةَ القلبِ واللِّسان على العبدِ في باب الاستقامة أو الجُنوح عنْها، وفي هذا المعنى قال بعضُ أهل العلم: «المرءُ بأصْغَريْه: قلبِه ولسانِه»؛ اللِّسانُ مُضغَةٌ صغيرةٌ جدًّا، والقلبُ مُضغَةٌ صغيرةٌ جدًّا – قطعة صغيرة - لكن المرء بأصغريه، جَوارح العبد كلَّها تبعٌ للقلب وتبعٌ للسان؛ إذا استقامَ القلبُ استقامَت الجوارح، وإذا استقامَ اللِّسانُ استقامَت الجوارح، دليلُ الأوَّل مر معنا في حديثُ النُّعمان بن بَشِير: «ألا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً, إِذَا صَلَحَتْ, صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ, وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ, أَلَا وَهِيَ القَلْبُ»، ودليل الثَّاني ما رواه التِّرمذي من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا أصْبَحَ ابْنُ آدَمَ، فَإنَّ الأعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسانَ، فتَقُولُ: اتَّقِ اللهَ فِينَا؛ فَإنَّما نَحنُ بِكَ؛ فَإنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وإنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا»؛ فَإذَا استقامَ القَلبُ استقامَت الجَوارح، وإذا استقامَ اللِّسانُ استقامَت الجوارحُ؛ ولهذا قيل «المرءُ بأصْغَريْه» المرء من حيث الاستقامة أو عدمها بأصغريه القلب واللسان، فإذا استقام القلب واستقام اللسان استقامت الجوارح كلها، واللِّسانُ تُرجُمَان القلب وخليفتُه في ظاهر البَدن؛ فإذا أَسنَدَ القلبُ إلى اللِّسان الأمرَ نفَّذ، فاللِّسانُ تابعٌ للقلبِ؛ ولهذا كان واجبًا على كلِّ مسلمٍ أن يُعنى بصلاح قَلبه، وأن يسألَ ربَّه -تبارك وتعالى- أن يُصلِح قلبَه، وأن يُذهِبَ عنه أمراضَ القُلوب وأسقامَها وأدواءَها وسخائمَها، فإذا صلح القلب صلحت الجوارح.

القاعدة السَّادسة

 لا تكونُ الاستقامةُ إلَّا لله وبالله وعلى أمْرِ الله ومعنى ذلك ما يلي:

1ـ لله أي: خالِصة، بمعنى أن يَستقيمَ العبدُ وأن يَلزَمَ صراطَ الله المستقيم مخلِصًا بذلك الأمرَ لله -عزَّ وجلَّ-، طالبًا به ثوابه ورضَاه.

2ـ ولا تكون إلا بالله: أي مُستعينًا على تحقيقِها والقيامِ بها والثَّباتِ عليها بالله -تبارك وتعالى-{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}-(-هود:123)، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة:5)، «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بالله».

3ـ وعلى أمرِ الله: أي يَسير في استقامَتِه على النَّهج القَويم والصِّراط المستَقيم الَّذي أمَرَ الله -سبحانه وتعالى- عبادَه به، وقد مر معنا بعض الآثار عن السَّلف -رحمهم الله تعالى- في تَقرير هذا المعنَى، كقول ابن عبَّاس في قوله -تعالى-: {ثمَّ اسْتَقَامُوا} «أي استَقاموا في أداءِ الفَرائض»، قال الحَسن: «استقاموا على أمْر الله، فعَملُوا بطاعتِه، واجتَنبوا معصيتَه»، وأمْر الله -عزَّ وجلَّ-: هو شرعُه الَّذي بَعث به نبيَّه -صلواتُ الله وسلامُه عليه.

القاعدة السَّابعة

     الواجب على العبدِ ألَّا يتَّكِل على عمَلِه مهما صلح واستقام، ولا يغتَرَّ لا بعبادة ولا بذكر ولا بغيرِ ذلك مِنَ الطَّاعات، وفي هذا يقولُ ابنُ القيِّم -رحمه الله-: «والمطلوبُ منَ العبد الاستقامةُ وهيَ السَّداد، فإنْ لمْ يَقدِر عليهَا فالمُقارَبَة، فإنْ نَزل عنهَا فالتَّفريطُ والإضَاعةُ، كما في الصَّحيحين من حديثِ عائشة -رضي الله عنها- عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا؛ فَإِنَّهُ لَنْ يُدْخِلَ الجَنَّةَ أَحَدًا عَمَلُهُ، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ الله؟! قَالَ: وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ الله مِنْهُ بِمَغْفِرَةٍ ورَحْمَةٍ»؛ فجَمع في هذا الحديثِ مقاماتِ الدِّين كلِّها، فأمَر بالاستقامةِ وهيَ السَّداد والإصابَةُ في النِّياتِ والأقوالِ والأعمالِ، وأخبَر في حديثِ ثَوْبان - أي «استَقِيمُوا ولنْ تُحْصُوا، واعْلَمُوا أنَّ خَيْرَ أعْمَالِكُم الصَّلاة»- أنَّهم لا يُطِيقونَها، فنقَلَهم إلى المُقارَبة وهيَ أنْ يقرُبُوا منَ الاستقامَة بحَسب طاقَتِهم كالَّذي يَرمي إلى الغَرضِ، فإنْ لم يُصِبْه يُقارِبه، ومع هَذا – وهذا موضع الشاهد من كلامه - فأخبَرهُم: أنَّ الاستقَامَة والمقارَبة لا تُنْجي يومَ القِيامةِ، فلا يَرْكَن أحدٌ إلى عمَلِه، ولا يَعْجَب به، ولا يَرى أنَّ نَجاتَه به؛ بَل إنَّما نجاتُه برحمةِ الله وعفوِه وفضلِه».

القاعدة الثَّامنة

     مَنْ هُدِي في الدُّنيا إلى صراط الله المستقيم هُدِي في الدَّار الآخِرة إلى الصِّراطِ المستقيم المنصوبِ على مَتن جهنَّم، يوم القيامةِ يُنصب صراطٌ على مَتن جهنَّم أحَدُّ منَ السَّيف وأدقُّ منَ الشَّعر، ويُؤمَر النَّاس بالمرور عليه، ويتفَاوَتون في مرورهم عليه تفاوتَهم في الأعمالِ والاستقامةِ على صِراط الله المستقيم في هذهِ الحياةِ الدُّنيا، قال ابنُ القيِّم -رحمه الله-: «فمَنْ هُدِي في هذه الدَّار إلى صراطِ الله المستقيمِ الَّذي أرسَل به رسُلَه وأنْزَل به كُتبَه هُدِيَ هُناك إلى الصِّراط المستقيم الموصِل إلى جنَّتِه ودار ثَوابِه، وعلى قَدر ثُبوتِ قَدمِ العبدِ على هذا الصِّراط الَّذي نَصبَه الله لعبادِه في هذه الدَّار يكونُ ثُبوت قدمِه على الصِّراط المنصُوب على مَتنِ جهنَّم، وعلى قَدر سَيْره على هذه الصِّراط يكونُ سَيْرُه على ذاك الصِّراط؛ فمِنهُم من يَمُرُّ كالبَرق، ومِنهُم من يَمرُّ كالطَّرف، ومِنهُم من يَمرُّ كالرِّيح، ومِنهُم مَن يَمرُّ كشَدِّ الرِّكابِ، ومِنهُم مَن يَسعى سعيًا، ومِنهُم مَن يَمشي مشيًا، ومِنهُم مَن يحبُو حَبْوًا، ومِنهُم المخدوشُ المسَلَّم، ومِنهُم المكَرْدَس في النَّار؛ فليَنْظر العبدُ سَيرَه على ذلكَ الصِّراط مِن سَيْره على هذا حَذْو القَذَّة بالقَذَّة جزاءً وِفاقًا، {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (النمل:90)، ولْيَنظر الشُّبُهات والشَّهواتِ الَّتي تعوقُه عنْ سَيره على هذا الصِّراط المستقيم فإنَّها الكَلاليب الَّتي بجَنْبَتَي ذاك الصِّراط تَخطَفُه وتَعُوقه عنِ المرور عليه، فإنْ كَثُرت هُنا وقَويت فكذلكَ هيَ هناكَ {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (فصلت:46)»؛ مَن كانَ في هذه الحياة الدُّنيا تَخطَفُه الشُّبهات عن الصِّراط المستقيم، وتَخطَفُه الشَّهواتُ عن الصِّراط المستقيم، فأيضاً الكلاليبُ الَّتي على جَنبَتي الصِّراط يوم القيامة تخطفه مثلَ ما خطفَته الشُّبهات والشَّهوات في هذه الحياة الدُّنيا، وله كلامٌ آخر قريب من هذا في كتابِه (الجواب الكافي).

القاعدة التاسعة

     الشُّبهات والشَّهوات قواطعٌ وموانعٌ صادَّةٌ عن الاستقامَة، والسَّائرُ على صراطِ الله المستقيم يَمرُّ في سَيْره باستمرار بشبهاتٍ وشهوات تَصرِفه وتَحرِفه عن صراطِ الله المستقيم، فكُلُّ مَن يَنحرفُ عن الاستقامةِ إمَّا أن يَنحرف عنها بشهوة أو أن يَنحرف عنها بشبهة؛ والشَّهوةُ تُفضي بانحراف الإنسان بفساد عمله، والشُّبهة تحرف الإنسان بفساد علمه، قال الله -عزَّ وجلَّ-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (الأنعام:153)، جاء في حديث عبدِ الله بن مَسعود - رضي الله عنه - في مسند الإمام أحمد قال: «خَطَّ لَنَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خَطًّا ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَبِيلُ الله، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَإِنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ، فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}»؛ والشَّيطان الَّذي يدعُو إلى الانحِراف عن صراط الله المستقيم دعوتُه إلى الانحِراف عن صِراط الله المستقيم إمَّا بشُبهة أو بشَهوة -كما قال بعض السلف يُشام القلب - فإذا رأى فيه التفريط حبب إليه الشَّهوات، وإذا رأى عليه الحرص والمحافظة أدخل عليه الشبهات، ولا يبالي عدو الله إلى أي الطريقين انحرف العبد المهم أن ينحرف عن الصراط إما بشهوة أو بشبهة.

     وهنا ينبغي أن نَستَحضر مثلًا بديعًا عظيمًا ثبت في المسند والتِّرمذي وغيرهما من حديث النَّوَّاس بن سَمْعَان - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَعَلَى جَنْبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ» تصوَّر الآن المثَل ينفعُك الله به؛ «ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى جَنْبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ»: جِداران تمشي في طريق مُستقيم على يمينِك جدارٌ وعلى يسارِك جدارٌ، وفي الجدارين الذين عن يمينك وعن يسارك أبوابٌ كثيرةٌ تمرُّ بها على يمينِك وعلى يسارِك، والأبوابُ عليها ستُور مُرخاةٌ، وأنتَ تعلم أنَّ الباب الَّذي عليه سِتارةٌ ليس كالباب الَّذي عليه كوالين ومفاتيح، البابُ الَّذي عليه سِتارة بكتفك تلمسه وتدخل لا يعوق الدُّخول، فيقول «ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى جَنْبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ، فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ! ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا وَلاَ تَتَعَرَّجُوا، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ يَفْتَحُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ، قَالَ: وَيْحَكَ لاَ تَفْتَحْهُ، فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ، وَالصِّرَاطُ: الإِسْلاَمُ، وَالسُّورَان: حُدُودُ الله، وَالأَبْوَابُ المُفَتَّحَةُ: مَحَارِمُ الله، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ: كِتَابُ الله، وَالدَّاعِي مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ: وَاعِظُ الله فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ»؛ المسلم المستقيمُ إذا أرادَتْ نفسُه أن تدخُلَ في شَهوة يجدُ أنَّ قلبَه ينقبض هذا واعظ الله في قلب كل مسلم، يجد أنه غير مطمئن قلق ليس مرتاحاً، ينقبض قلبه، هذَا واعظ جعله الله -سبحانه وتعالى- في قلب كلِّ مسلمٍ.

طريق الاستقامة

     والشَّاهد مِن هذا: أنَّ طريق الاستقامة على جنبَتَيْ أبواب تُخرج الإنسانَ عن طريق الاستقامة، وهذه الأبوابُ تَرجعُ في الجملة إلى أمرين: إمَّا شُبُهاتٌ، أو شهواتٌ، وخروجُ العبد عن الاستقامة إمَّا بشُبْهة أو بشَهْوةٍ، قال ابنُ القيِّم -رحمه الله-: «وقَد نصَبَ الله -سبحانه- الجسرَ الَّذي يمُرُّ النَّاس منْ فوقِه إلى الجنَّة، ونصبَ بجانِبَيه كلاليبَ تَخطف النَّاسَ بأعمالهم، فهكَذا كَلاليبُ الباطل مِن تَشْبيهات الضَّلال وشَهوات الغَيِّ تمنَع صاحبَها من الاستقامة على طريق الحقِّ وسلوكِه، والمعصومُ من عصَمَه الله».

القاعدة العاشرة

     مشابهة المغضوب عليهم والضالين من أسباب انحراف العبد عن الصراط المستقيم، وتأمَّل هذا المعنى في الآية: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (الفاتحة:6-7)، وفسَاد اليهودِ من جِهة العَمل، وفساد النَّصارى من جِهة العِلم، اليَهود علِمُوا ولم يَعْمَلوا، والنَّصارى عَمِلوا بلا عِلم، ولهذا الفسادُ الَّذي يكون في هذا البابِ إمَّا بمُشابهةٍ لليهُود بأن يكون عند الإنسان عِلمٌ لا يعمَلُ به، أو بمشابهةٍ للنَّصارى بأنْ يعمَل بلا عِلمٍ ولا بصيرةٍ.

الانحرافَ عن الصِّراط

     وقد سمَّى شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كتابَه «اقتضَاءُ الصِّراط المستقيم مخالفةَ أصحابِ الجحِيم» وأشار فيه -رحمه الله- إلى بعض أمُور أهلِ الكتاب الَّتي ابتُلِيت بها هذه الأُمَّة، ليَجتَنِب المسلمُ الانحرافَ عن الصِّراط المستقيم إلى صراطِ المغضوبِ عليهم أو الضَّالين، وأورد قولَ الله -سبحانه-: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} (البقرة:109) «فذمَّ اليهود على ما حسَدوا المؤمنين على الهدى والعلم، وقد يُبتَلى بعضُ المنتسِبين إلى العلم وغيرهم بنوعٍ من الحسَد لمن هداه الله بعلمٍ نافعٍ أو عملٍ صالحٍ»، وأخذ يذكُر -رحمه الله- أمثلةً عديدةً من أعمال اليهودِ أو أعمال النَّصارى وقد يتشبَّه بهم فيها بعضُ المسلمِين، قد قال - صلى الله عليه وسلم -: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ».

قاعدةٍ أخيرة

     أختِم بقاعدةٍ أخيرة أو كلمةٍ جميلةٍ متينةٍ لشيخ الإسلام ابن تيميَّة -رحمه الله-؛ يقول ابن القيِّم -رحمه الله-: سمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: «أعظمُ الكرامَةِ لزُومُ الاستقامَة»، وقال شيخُ الإسلام -رحمه الله- في كتابه (الفرقان بينَ أولياء الرَّحمن وأولياء الشَّيطان): «وإنَّما غايةُ الكرامَةِ لزومُ الاستقامةِ».

     ولهذا يقول ابنُ القيِّم نقلًا عن بعضِ أهل العلم: «كُن صاحبَ الاستقامَةِ لا طالِبَ الكَرامة؛ فإنَّ نفسَك متحرِّكَةٌ في طلَبِ الكرامةِ، وربُّك يُطالبُكَ بالاستقامةِ»؛ بمعنى أنَّ العبدَ ينبغِي عليه أنْ يكونَ دومًا وأبدًا مجاهدًا لنفسِه في أن تَلزَم صراطَ الله المستقيم، وأن تُحافظَ على طاعتِه -تبارك وتعالى-، وأن يُجاهدَ نفسَه على ذلك.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك