رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: اللجنة العلمية في الفرقان 27 يوليو، 2022 0 تعليق

قواعد في الولايات العامة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية (1)

هذه قواعد وفوائد من كتاب: (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية) لشيخ الإسلام أبي العباس أحمد ابن تيمية -رحمه الله -تعالى-، تتعلق بالولايات الشرعية واجباتٍ وحقوقا مرعية، على اختلاف طبقاتها ومستوياتها في الدولة الإسلامية، وإليك هذه القواعد والفوائد:

القاعدة الأولى: الولاية أمانة

     الولايةُ أمانةٌ، ويجب أن تُؤدَّى على أكمل وجه، فلا يجوز فيها الخيانة، قال شيخُ الإسلام -في (السياسة الشرعية)-: «وقد دلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن الولاية أمانة يجب أداؤها في مواضع: مثل قوله -لأبي ذر - رضي الله عنه - في الإمارة-: «إنَّها أَمانَةٌ، وإِنَّها يومَ القيَامَة خِزيٌ ونَدَامةٌ، إلا من أخذَها بِحقّها، وأدَّى الذي عليه فيها» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا ضُيِّعتِ الأَمانةُ فَانتظرِ السَّاعةَ. قِيل يَا رسول الله: وما إِضاعتُها؟ قال: إذا وُسِّدَ الأمرُ إلى غيرِ أَهلِهِ فَانتَظرِ السَّاعةَ» انتهى.

القاعدة الثانية: الولايةُ تكليفٌ لا تشريف وابتلاء لا يشتشرف له

     فإذا كانت أمانة فهي تكليفٌ لا تشريفٌ، ولا يُولَّى من يطلبها؛ لمظنَّة الطمع فيها للدنيا، ومن طلبها فالغالب أنه لا يُوفق فيها، والولاية ابتلاءٌ، والبلاءُ لا يُستَشرفُ له، وإنما إذا جاء استعان بالله وصبر، قال شيخ الاسلام -(ص: 8)-: «ولا يُقَدِّمُ الرَّجُلَ لِكَونِهِ طلب الولاية، أو سبق في الطلب، بل يكون ذلك سبباً للمنع؛ فإن في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أن قوماً دخلوا عليه فسألوه ولاية؛ فَقَالَ: إنَّا لَا نُوَلِّي أَمْرَنَا هَذَا مَنْ طَلَبَهُ»، وقال لعبد الرحمن بن سَمُرَةَ: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ، فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا، وَإِنْ أعطيتها عن مسألة وكلت إليها» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَن طَلبَ القضاءَ واستَعانَ عليهِ وُكِلَ إليهِ، ومن لم يَطلب القضاءَ ولم يَستعِن عليه؛ أنزل الله عليه مَلَكًا يُسَدِّدهُ» رواه أهل السنن. انتهى.

القاعدة الثالثة: وجوب معرفة مقاصد الولاية ووسائلها

     المهم في الولاية معرفة مقصودها، والوسائل المعينة للوصول إلى مقصودها، والمقصود من الولايات سياسة الناس بالدين لصلاحهم في العاجل والآجل، وذلك بجلب أكمل المنافع لهم، ودفع الضر عنهم، ومعاقبة المعتدين، ومن أعظم مقاصد الولاية: إقام الصلاة والجهاد في سبيل الله، لأن قيام هذا الدين لا يكون إلا بالكتاب الهادي والسيف الناصر، قال شيخ الإسلام - (ص: 20-23)-: «وأهم ما في هذا البابِ معرفةُ الأصلح، وذلك إنما يتم بمعرفةِ مقصودِ الولاية، ومعرفةِ طريقِ المقصود؛ فإذا عرفتَ المقاصد والوسائل تَمّ الأمر».

     وقال أيضاً: «فالمقصودُ الواجب بالولايات: إصلاحُ دينِ الخلقِ الذي متى فاتَهُم خسروا خسراناً مبيناً، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم».

     وقال أيضاً: «فالمقصودُ من إرسال الرسل، وإنزال الكتب، أن يقوم الناس بالقسط في حقوق الله، وحقوق خلقه، ثم قال -تعالى-: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} (الحديد: 25). فمن عَدَلَ عن الكتابَ قُوِّمَ بالحديد؛ ولهذا كان قِوامُ الدينِ بالمصحف والسيف» انتهى.

القاعدة الرابعة: الولايةُ من أعظم واجبات الدين

     قال شيخ الإسلام -(ص: 129)-: «يجب أن يُعرف أن ولاية أمرِ النّاسِ من أعظم واجباتِ الدّين، بل لا قيامَ للدّين ولا للدنيا إلا بها؛ فإنَّ بني آدمَ لا تتم مصلحتُهم إلا بالاجتماعِ لحاجةِ بعضهم إلى بعض، ولا بدَّ لهم عند الاجتماعِ من رأسٍ، حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ» رواه أبو داود، من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة، وروى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمرو، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا يَحِلُّ لِثَلَاثَةٍ يَكُونُونَ بِفَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ إلَّا أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ»، فأوجبَ - صلى الله عليه وسلم - تأميرَ الواحدِ في الاجتماعِ القليلِ العارضِ في السفر، تنبيهاً بذلك على سائرِ أنواع الاجتماع، ولأنّ الله -تعالى- أوجبَ الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتمُّ ذلك إلا بقوةٍ وإمارة، وكذلك سائرُ ما أَوجبهُ من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم وإقامة الحدود، لا تتم إلا بالقوة والإمارة، فالواجب اتخاذُ الإمارةِ ديناً وقربةً يُتقرب بها إلى الله؛ فإنّ التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات. وإنما يَفسُد فيها حالِ أكثر الناس لابتغاءِ الرياسة أو المال بها» انتهى.

القاعدة الخامسة: الولايةُ نيابةٌ ووكالةٌ

      فالولاية لها جانبان: جانب اختياري توكيلي وجانب سلطوي، قال شيخ الإسلام: «فإن الخلق عباد الله، والولاة نواب الله على عباده، وهم وكلاء العباد على نفوسهم، بمنزلة أحد الشريكين مع الآخر، ففيهم معنى الولاية والوكالة، ثم الولي والوكيل متى استناب في أموره رجلاً، وترك من هو أصلح للتجارة أو العقار منه، وباع السلعة بثمن، وهو يجد من يشتريها بخير من ذلك الثمن، فقد خان صاحبه، ولا سيما إن كان بين من حاباه وبينه مودة أو قرابة، فإن صاحبه يبغضه ويذمه، ويرى أنه قد خانه وداهن قريبه أو صديقه» انتهى.

القاعدة السادسة: يجب اختيارُ الأصلح فالأصلح في الولاية

     قال شيخ الإسلام: «فيجبُ على وليّ الأمرِ أن يُولي على كل عملٍ من أعمال المسلمين، أصلحَ من يجده لذلك العمل، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من وَليَ من أَمرِ المسلمينَ شيئاً، فَولَّى رجلًا وهو يجدُ من هو أَصلحُ للمسلمينَ منهُ فقد خانَ اللَّهَ ورسُولَهُ»، وفي رواية: «من ولّى رجلاً على عِصابةٍ»، وهو يجدُ فِي ِتلك العصابةِ من هو أَرضَى للهِ منهُ، فقد خَانَ اللهَ ورسولهَ وَخَانَ المُؤمنينَ» رواه الحاكم في صحيحه.

 

القاعدة السابعة: يجوز العُدول عن الأصلح لمن هو دونه لمصلحة راجحة

     قال شيخ الإسلام: «وأَمَّرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّة عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل - استعطافا لأقاربه الذين بعثه إليهم- على من هم أفضل منه. وأَمَّرَ أسامة بن زيد؛ لأجل طلب ثأر أبيه، وكذلك كان يستعمل الرجل لمصلحة راجحة، مع أنه قد كان يكون مع الأمير من هو أفضل منه في العلم والإيمان» انتهى.

القاعدة الثامنة: الولايةُ لها ركنان: القوة والأمانة

     الولاية لها ركنان: القوة والأمانة، والقوة متعلِّقة بالقدرات سواء كانت علمية أو عملية، والأمانة متعلِّقة بالدِّيانة، قال شيخ الإسلام - (ص: 12-14)-: «وينبغي أن يُعرف الأصلح في كل منصب؛ فإن الولاية لها ركنان: القوة والأمانة. كما قال -تعالى-: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (القصص: 26). وقال صاحب مصرَ ليوسف -عليه السلام-: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} (يوسف: 54). وقال -تعالى- في صفة جبريل: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} (التكوير: 19 - 21).

     والقوةُ في كل ولاية بحسبها؛ فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب، وإلى الخبرة بالحروب، والخادعة فيها، فإن الحرب خدعة، وإلى القدرة على أنواع القتال: من رمي وطعن وضرب وركوب وكر وفر، ونحو ذلك...» انتهى.

     ولكن ينبغي أن نعلم أن تحقق هاتين الصفتين على الكمال والتمام قليل في الناس، ومن ثم ينبغي التسديد والمقاربة واختيار الأنسب بحسب الوظيفة، قال شيخ الإسلام في «السياسة الشرعية» (ص: 15-17): «اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، ولهذا كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: «اللَّهمَّ أَشكُو إليكَ جَلَدَ الفَاجرِ، وعجْزَ الثّقةِ».

فالواجبُ في كلّ ولاية الأصلحُ بحسبها؛ فإذا تعيَّن رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة: قُدِّم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلُهما ضرراً فيها.

       فيُقدّم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع -وإن كان فيه فجور على الرجل الضعيف العاجز، وإن كان أميناً... وإذا كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد، قُدِّم الأمين؛ مثل حفظ الأموال ونحوها؛ فأما استخراجها وحفظها، فلا بدّ فيه من قوة وأمانة، فيُولى عليها شادٌّ قوي يستخرجها بقوته، وكاتب أمين يحفظها بخبرته وأمانته» انتهى.

القاعدة التاسعة: إن تعذّر الأصلح فالأَمثَلُ الأَمثل

      طلبُ الكمال في الولاية متعذّر، ولا سيما في العصور المتأخرة، فينبغي اختيار الأَمثَلِ فَالأَمثَل، وهذا الاختيار كل بحسبه، ومن هنا لا بد من مراعاة قاعدة الموازنات بين الحسنات والسيئات، والمصالح والمفاسد، قال شيخ الإسلام -(ص: 12)-: «إذا عُرف هذا، فليس عليه أن يستعمل إلا أصلحَ الموجود، وقد لا يكون في موجوده من هو أصلح لتلك الولاية، فيختاُر الأَمثَل فالأَمثَل في كل منصبٍ بحسبه، وإذا فعل ذلك بعد الاجتهاد التام، وأخذِه للولاية بحقها، فقد أدى الأمانة، وقام بالواجب في هذا، وصار في هذا الموضع من أئمة العدل المقسطين عند الله؛ وإن اختلّ بعض الأمور بسببٍ من غيره، إذا لم يمكن إلا ذلك، فإن الله يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: 16). ويقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (البقرة: 286)... فمن أدَّى الواجبَ المقدورَ عليه فقد اهتدى، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أَمرتُكُمْ بِأَمرٍ فَأتُوا مِنهُ ما استَطَعتُم» أخرجاه في الصحيحين؛ لكن إن كان منه عجزٌ بلا حاجة إليه، أو خيانة عُوقب على ذلك» انتهى

بتصرف من مقال الشيخ فايز الصلاح

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك