قواعد في الرد على المخالفين ودحض شبهاتهم
الرَّدَّ على المخالفِ يُعدُّ واجباً مِنْ واجباتِ الإسلامِ الكِبارِ على أهلِ العلمِ المتأهلينَ فيه، وَبه يُحفظُ الدِّينُ منْ عَادياتِ التبديلِ فيهِ، وغَوائلِ التحريفِ عليهِ، ولَهُ في ميزانِ الشريعةِ الغرَّاءِ شأنٌ عظيمٌ، وقدْرٌ كبيرٌ؛ ونتناول في هذه السلسلة قواعد الرد على المخالفين.
القاعدة الأولى
(إن كنت ناقلا فالصحة
كل دعوى لابد من إقامة الدليل عليها، وإلا كانت مجرد دعوى خالية من البرهان، والدليل إما أن يكون نقلياً أو عقلياً، والمطلوب في النقلي تحرير صحته، وفي العقلي إظهار صراحته وبيان حجته: قال -تعالى-: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) فهذا عام في كل دعوى، لابد من تصديقها بالدليل، وقال -تعالى-: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الأحقاف: 4) فطالبهم أولا بالطريق العقلي، وثانيا بالطريق السمعي، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «فالكتاب هو الكتاب - أي جنس الكتب المنزلة من عند الله - والأثارة كما قال من قال من السلف: هي الرواية والإسناد. وقالوا: هي الخط أيضاً، إذ الرواية والإسناد يكتب بالخط، وذلك لأن الأثارة من الأثر، فالعلم الذي يقوله من يقبل قوله يؤثر بالإسناد، ويقيد ذلك بالخط، فيكون ذلك كله من آثاره».
ومن هنا قال علماء أدب البحث والمناظرة: «إن كنت ناقلاً فالصحة، أو مدعياً فالدليل»، ولهذا تجد كثيراً من أهل البدع يستدل على بدعته، بنقل ضعيف، أو موضوع، أو دلالة ضعيفة، أو بعقل فاسد.
القاعدة الثانية
(موافقة النصوص لفظاً ومعنى أولى من موافقتها في المعنى دون اللفظ)
وذلك أن متابعة الكتاب والسنة في اللفظ والمعنى أكمل وأتم من متابعتها في المعنى دون اللفظ؛ فالرسول - صلى الله عليه وسلم - علم البراء بن عازب كلمات يقولهن إذا أخذ مضجعه، وفيها «... آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت» قال البراء: «فرددتهن لأستذكرهن فقلت: آمنت برسولك الذي أرسلت. قال (أي النبي) - صلى الله عليه وسلم - قل آمنت بنبيك الذي أرسلت» تحقيقاً لكمال الموافقة، في اللفظ والمعنى.
ولهذا منع جمع من العلماء نقل حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمعنى، ومن أجازه اشترط أن يكون الناقل عاقلاً عالماً بما يحيل المعنى من اللفظ، مدركاً لأساليب العرب حتى يستبين الفروق.
موافقة الكتاب والسنة
فالناس في موافقة الكتاب والسنة أقسام:
الأول: من يوافقهما لفظًا ومعنى
وهذا أسعد الناس بالحق.
الثاني: من يوافقهما في المعنى
كمن يتكلم في المعاني الشرعية الصحيحة بألفاظ غير شرعية، وهذا كالألفاظ المجملة التي تحتمل حقاً وباطلاً، كمن يتكلم في نفي الجهة عن الله -تعالى- قاصداً نفي الجهة المخلوقة، أو ينفي الحيز والمكان المخلوقيْن وغير ذلك من الألفاظ التي لم ترد لا في الكتاب ولا في السنة، بل تحتمل معاني صحيحة وأخرى فاسدة، فإذا عرف مراد صاحبها وكان موافقاً للمعنى الصحيح، قُبِل مرادُه، ومُنع من التكلم باللفظ المجمل، وعلم الألفاظ الشرعية في ذلك، وكذلك يدخل فيهم من نفى ظاهر نصوص الصفات قاصدًا نفي المعنى الظاهر المختص بالمخلوق، فنفيه صحيح، لكن ظاهر النصوص لم يدل على باطل، حتى يستوجب هذا النفي، وإنما نفى هذا ما توهمه أنه ظاهر النص، وإن لم يكن كذلك في نفس الأمر.
الثالث: من يوافقهما
وهؤلاء كبعض الطوائف الذين ممن يعبرون عن عقائدهم الفاسدة بألفاظ شرعية.
الرابع: من يخالفهما لفظاً ومعنى
الرابع: من يخالف الكتاب والسنة لفظاً ومعنى، وأهل الكفر والملاحدة ونحوهم.
القاعدة الثالثة
(لا ينبغي بتر الدليل، والاستدلال بجزئه)
وهذا هو شأن أهل الابتداع حتى يجدوا من الكلمات الشرعية ما يسوغ لهم بدعتهم، ويجعلها تروج عند ضعفاء المسلمين، ولما احتج غيلان الدمشقي أمام عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه على مقالته في القدر بقوله -تعالى-: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (الإنسان: 2-3) قال له عمر: «اقرا آخر السورة: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (الإنسان: 30- 31) ثم قال عمر: وما تقول يا غيلان، قال: أقول: قد كنت أعمى فبصرتني، وأصم فأسمعتني، وضالاً فهديتني...» فتاب، ثم رجع إلى مقالته في عهد هشام بن عبد الملك؛ فصلبه.
القاعدة الرابعة
(الحق يقبل من أي جهة جاء)
الحق يقبل لكونه موافقاً للدليل، فلا أثر للمتكلم به في قبوله أو رفضه، ولهذا كان أهل السنة يقبلون ما عند جميع الطوائف من الحق، ويردون ما عندهم من الباطل، بغض النظر عن الموالي منها أو المعادي، قال -تعالى-: {فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (البقرة: 213) وفي دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: «... اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك, إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»، قال ابن القيم -رحمه الله-: «فمن هداه الله -سبحانه- إلى الأخذ بالحق؛ حيثما كان ومع من كان، ولو كان مع من يبغضه ويعاديه، ورد الباطل مع من كان ولو كان مع من يحبه ويواليه، فهو ممن هدى الله لما اختلف فيه من الحق»، وقال -تعالى-: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8) ومن العدل فيهم قبول ما عندهم من الحق، ولما دل الشيطان أبا هريرة -رضي الله عنه- إلى آية الكرسي لتكون له حرزاً من الشيطان، وذلك مقابل فكه من الأسر، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «صدقك وهو كذوب».
وكان معاذ بن جبل -رضي الله عنه- يقول: «اقبلوا الحق من كل من جاء به، وإن كان كافراً -أو قال فاجراً- واحذروا زيغة الحكيم، قالوا: كيف نعلم أن الكافر يقول كلمة الحق؟ قال: إن على الحق نوراً}، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية - مبيناً منهجه في التعامل مع المخالفين له من أهل الكلام وغيرهم-: «وليس كل من ذكرنا شيئاً من قوله - من المتكلمين وغيرهم - يقول بجميع ما نقوله في هذا الباب وغيره، ولكن الحق يقبل من كل من تكلم به».
القاعدة الخامسة
(الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف رجاله)
الحق ما وافق الدليل من غير التفات إلى كثرة المقبلين، أو قلة المعرضين، فالحق لا يوزن بالرجال، وإنما يوزن الرجال بالحق، ومجرد نفور النافرين، أو محبة الموافقين لا يدل على صحة قول أو فساده، بل كل قول يحتج له خلا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه يحتج به، ومن المعلوم أنه لا يوجد أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولاً عامًّا، يتعمد مخالفة النبي - صلى الله عليه وسلم - في شيء من سنته، لا دقيق ولا جليل، بل هم متفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب متابعته، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويرد، إلا الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وذلك لأجل ثبوت العصمة له، أما غيره فيعتريه من نقص العلم والفهم ما يستوجب عرض قوله على الشرع طلباً للإجازة والتزكية.
لاتوجد تعليقات