قواعد في الرد على المخالفين ودحض شبهاتهم (2)
الرَّدَّ على المخالفِ يُعدُّ واجبًا مِنْ واجباتِ الإسلامِ الكِبارِ على أهلِ العلمِ المتأهلينَ فيه، وَبه يُحفظُ الدِّينُ منْ عَادياتِ التبديلِ فيهِ، وغَوائلِ التحريفِ عليهِ، ولَهُ في ميزانِ الشريعةِ الغرَّاءِ شأنٌ عظيمٌ، وقدْرٌ كبيرٌ؛ ونتناول في هذه السلسلة قواعد الرد على المخالفين.
القاعدة السادسة
حكم كلام غير الشارع
ما يقوله سائر الناس من الكلام في المطالب الشرعية لابد من عرضه على الكتاب والسنة، فإن وافق الكتاب والسنة فهو حق يقبل, وإن خالفهما فهو باطل يرد، وإن احتمل الجهتين: فإما أن يعرف مراد المتكلم فيحكم له أو عليه بحسب المراد، وإما ألا يعرف مراده، فينظر في سيرته (سيرة المتكلم)، فإن كانت حسنة حمل كلامه على الوجه الحسن، {وَالبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} (الأعراف: 58)، وإن كانت سيرته سيئة حمل كلامه على الوجه السيء، {وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا (الأعراف: 58)، أما إذا عرف مراده ولم يعرف هل جاء الشرع بتصديقه أو بتكذيبه؛ فإنه يمسك عنه ولا يتكلم إلا بعلم، والعلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم .
واعتصامًا بهذه القاعدة شرح ابن القيم -رحمه الله- كتاب منازل السائرين للشيخ الهروي في كتابه القيم: (مدارج السالكين)، فقبل من كلام الشيخ ما أسنده الدليل، ورد منه ما خالفه الدليل، وحمل على أحسن المحامل ما احتمل وجوهاً، إحساناً للظن بشيخ الإسلام الهروي.
القاعدة السابعة
السكوت عما سكت
كل مسألة من مسائل الشريعة - ولاسيما مسائل الاعتقاد - لا يحكم فيها، نفيًا أو إثباتًا إلا بدليل، فما ورد الدليل بإثباته أثبتناه، وما ورد بنفيه نفيناه، وما لم يرد بإثباته ولا بنفيه دليل توقفنا، ولم نحكم فيه بشيء، لا إثباتاً ولا نفياً، ولا يعني هذا أن المسألة خالية من الدليل، بل قد يكون عليها دليل، لكن لا نعلمه، فالواجب علينا التوقف: إما مطلقاً أو لحين وجود الدليل: قال -تعالى-: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الإسراء: 36). قال قتادة: «لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم، فإن الله سائلك عن ذلك كله».
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله -عز وجل- فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان، فلا تبحثوا عنها»، قال ابن تيمية: «الأقسام ثلاثة: ما علم ثبوته أثبت، وما علم انتفاؤه نفي، وما لم يعلم نفيه ولا إثباته سكت عنه، هذا هو الواجب، والسكوت عن الشيء غير الجزم بنفيه أو ثبوته».
القاعدة الثامنة
الامتناع عن مناظرة أهل السفسطة
إذا وضح الحق وبان لم يبق للمعارضة العلمية ولا العملية محل، فإن الأمم كلها متفقة على أن المناظرة إذا انتهت إلى مقدمات معروفة، بينة بنفسها، ضرورية، وجحدها الخصم كان سوفسطائيًا؛ فلا ينبغي مناظرته بعد ذلك، قال -تعالى-: {وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29). وقال -تعالى-: {يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ...} (الأنفال: 6) فكل من جادل في الحق بعد وضوحه وبيانه فقد غالط شرعاً وعقلاً، قال المزني -رحمه الله-: «وحق المناظرة أن يراد بها الله -عز وجل-، وأن يقبل منها ما يتبين»، ولهذا كان من الأسئلة ما ليس له جواب غير السكوت والانتهاء كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته»، فإن كل نظر لابد له من ضرورة يستند إليها، فإذا احتاجت الضرورة إلى استدلال ونظر، أدى ذلك إلى التسلسل وهو باطل.
القاعدة التاسعة
لا يرد بالباطل إلا بالحق
السلف والأئمة يذمون ما كان من الكلام والعقليات باطلاً، وإن قصد به نصر الكتاب والسنة، فيذمون من قابل بدعة ببدعة، وفاسداً بفاسد، فالباطل يرد بالحق المحض، والبدعة ترد بالسنة الصحيحة: قال الخلال: «أخبرنا أبو بكر المروذي، قال: كتب إلى عبد الوهاب في أمر حسين بن خلف البحتري العكبري، وقال: إنه قد تنزه عن ميراث أبيه، فقال رجل قدري: إن الله لم يجبر العباد على المعاصي، فرد عليه أحمد بن رجاء فقال: إن الله جبر العباد، أراد بذلك إثبات القدر. فوضع أحمد بن علي كتاباً يحتج فيه، فأدخلته على أبي عبد الله، فأخبرته بالقصة، فقال: ويضع كتاباً؟ وأنكر أبو عبد الله عليهما جميعاً: على ابن رجاء حين قال: جبر العباد، وعلى القدري الذي قال: لم يجبر العباد، وأنكر على أحمد بن علي وضعه الكتاب واحتجاجه، وأمر بهجرانه بوضعه الكتاب، وقال لي: يجب على ابن رجاء أن يستغفر ربه لما قال: جبر العباد، فقلت لأبي عبد الله: فما الجواب في هذه المسألة؟ قال: {يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء} (فاطر: 8).
وهذا الفخر الرازي يرد على النصارى قولهم في إلهية عيسى بأن الإله لا يكون جسماً, ولا متحيزاً, ولا عرضاً، ومعلوم أن هذه الألفاظ لم ترد لا في الكتاب، ولا في السنة، ولا في كلام سلف الأمة وأئمتها، بل هي ألفاظ محدثة مبتدعة، فيكون قد رد باطلهم بنحوه.
وفي باب الصفات رقى المعتزلة ونحوهم - للرد على الشبهة - سلم النفي والتعطيل، قال ابن قتيبة -رحمه الله-: «وتعمق آخرون في النظر وزعموا أنهم يريدون تصحيح التوحيد بنفي التشبيه عن الخالق، فأبطلوا الصفات، مثل: الحلم والقدرة والجلال والعفو وأشباه ذلك...» وأراد بعض مثبتة القدر الرد على نفاته، فأنكروا فعل العبد واختياره.
القاعدة العاشرة
عدم العلم بالدليل ليس علماً بالعدم
كثير من المتناظرين قد يجعل عمدته في نفي وجود أمر ما، عدم علمه بالدليل على وجوده، والأصل أن عدم العلم بالدليل ليس علماً بالعدم، وعدم الوجدان ليس نفياً للوجود، فكما أن الإثبات يحتاج إلى دليل، فكذلك النفي يحتاج إلى دليل، وإلا فما لم يعلم وجوده بدليل معين، قد يكون معلوماً بأدلة أخرى، فمثلاً: عدم الدليل العقلي على وجود أمر ما، لا يعني عدم وجوده، لأنه قد يكون ثابتاً بالدليل السمعي، أو غيره.
الطرد لا العكس
فالدليل يجب فيه الطرد لا العكس، بمعنى أنه يلزم من وجوده الوجود، ولا يلزم من عدمه العدم، أي عدم المدلول عليه، قال -تعالى-: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} (يونس: 39)، فهذا نعي على كل من كذب بما قصر عنه علمه، فمن نفى كثيراً من الغيبيات كالصفات، والقدر، والملائكة، والجن، وأحوال البرزخ، والمعاد، لعدم قيام دليل الحس والمشاهدة، أو دليل العقل - كما يزعم - كان غالطاً؛ لأنه أخبر عن نفسه، ولا يمنع أن يكون غيره قد قام عنده دليل العقل، أو دليل السمع، أو دليل المشاهدة كما وقع ذلك للرسول - صلى الله عليه وسلم - في مشاهدة الجن والملائكة وأحوال البرزخ والمعاد.
رد الفخر الرازي على النصارى
وقد رد الفخر الرازي على النصارى دعواهم إلهية عيسى عليه السلام لظهور الخوارق على يديه، بأن عدم ظهور هذه الخوارق في حق غيره لا يلزم منه عدم إلهية ذلك الآخر، بل غاية ما هناك أنه لم يوجد هذا الدليل المعين، وعليه، فيجوز - كما هو لازم قولهم - حلول الله -تعالى- في كل مخلوق من مخلوقاته؛ إذ لا دليل على اختصاص عيسى -عليه السلام- بذلك؛ لأنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول.
ويستثنى من هذه القاعدة ما إذا كان وجود المدلول مستلزمًا لوجود الدليل، وقد علم عدم الدليل، فيقع العلم بعدم المدلول المستلزم لدليله؛ لأن عدم اللازم دليل على عدم الملزوم، مثاله: قد ثبت توافر الدواعي على نقل كتاب الله -تعالى- ودينه، فإنه لا يجوز على الأمة كتمان ما يحتاج الناس إلى نقله، فلما لم ينقل ما يحتاجون إليه في أمر دينهم نقلاً عاماً، علمنا يقيناً عدم ذلك، نحو سورة زائدة، أو صلاة سادسة ونحو ذلك.
لاتوجد تعليقات