قواعد في الدعوة إلى الله تعالى 9- مجال الدعوة واسع فليتخير الداعية لدعوته
عندما تكون الدعوة في طور التأسيس والتكوين، فإن الجهد المبذول قد يقع في مكانه المناسب إذا راعى الداعية مبدأ التخيُّر لدعوته.
فليبدأ بالقريب قبل البعيد، فإنه لا داعي لقطع المسافات من أجل دعوة إنسان ما، ولاسيما إذ كان لا على التعيين، في حين أن الأقربين والمجاورين في السكنى أو العمل محتاجون لمثل هذه الدعوة، وهؤلاء الأقربون معروفون عند الداعية، ولا يحتاج إلى جمع المعلومات عنهم، وهم يعرفونه فلا داعي لكثير من المقدمات، وهم يعتبون عليه إذا أهملهم وذهب إلى الأبعدين، وهو يعيش بينهم، فهم العين الساهرة في الخير والشر، وهم الشهداء على السراء والضراء، وهو عند الله مسؤول عنهم فقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم على قومه أنهم لا يفقهون جيرانهم ولا يُعَلِّمونهم فتوعدهم بالعقوبة وأمهلهم سنة للقيام بهذا التكليف (مجمع الزوائد 1/164).
وعندما بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة أمره الله تعالى أن ينذر عشيرته الأقربين، فقال: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (الشعراء: 214.) قال الرازي: «ثم أمره بدعوة الأقرب فالأقرب، ذلك لأنه إذا تشدد على نفسه أولاً ثم على الأقرب فالأقرب ثانياً، لم يكن لأحد فيه مطعن البتة، وكان قوله أنفع وكلامه أنجع»(تفسير الرازي الآية : 24/172). أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: «لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صعد النبي صلى الله عليه وسلم الصفا فجعل ينادي: يا بني فِهْر، يا بني عَدِيّ، لبطون قريش، حتى اجتمعوا ، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تُغير عليكم أكنتم مصدقيَّ؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد).
وفي رواية أخرى للبخاري عن أبي هريرة: قال صلى الله عليه وسلم : «يا معشر قريش، أو كلمة نحوها، اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئاً».
يقول ابن حجر: «والسر في الأمر بإنذار الأقربين أن الحجة إذا قامت عليهم تعدتهم إلى غيرهم، وإلا كانوا علة للأبعدين في الامتناع» (فتح الباري 8/503).
وليبدأ بالصغير قبل الكبير: وذلك لأن الصغير لم يصلب عوده على فكر معين أو سلوك معين، والتعامل معه أسهل من التعامل مع الكبير الذي اختار طريقه، وكثرت ارتباطاته ومسؤولياته، وحقق مركزاً اجتماعياً أو مكاسب دنيوية يخشى عليها، ثم إن الصغير الذي يُقبل على الدعوة يدخل مباشرة في الصياغة والتكوين، ولا يبذل الداعية معه وقتاً طويلاً في تخليته من الشوائب والعادات الجاهلية، وإنما ينصرف إلى تحليته وتعبئته بالفضائل والعادات الإسلامية. والصغار هم الذرية الذين من طبيعتهم أن يكونوا أتباع الرسل والدعوات. ففي قصة موسى عليه السلام يقول الله تعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ ۚ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ } (يونس:83). ولا أعني بقولي هذا إهمال الكبار، وإنما أعني أن إقبال الصغار والناشئة على الدعوة أسرع، وإن صغير اليوم هو رجل الغد، والناشئة هم مستقبل الأمة.
وليبدأ بالمتواضع قبل المتكبر؛ لأن التواضع يدل على إمكان قبول الحق، في حين أن التكبر يدل على سفه الحق وغمط الناس. ومن هنا وجدنا أتباع الرسل هم من فئة الشاكر المتواضع أو الفقير الصابر الضعيف. والجهد مع هذا الصنف من الناس يؤتي ثماره في الغالب، ولا يعني هذا حرمان الأصناف الأخرى من الدعوة.
إن كسب المواقع الجديدة القريبة السهلة الممكنة يساعد على كسب المواقع البعيدة الصعبة؛ لأن الانتشار الواسع يعطي الدعوة دماء جديدة، وحيوية وطاقة تصرف في الوصول إلى المواقع الأبعد، ثم إن الفكرة عندما تشيع ويكثر أنصارها، فإن كثيرين يراجعون موقفهم منها على ضوء ذلك.
وليبدأ بالمثقف قبل الأمي؛ وذلك للدور الذي يقوم به المثقف في المجتمع، إلى جانب أن المثقف أقدر من غيره على محاكمة الآراء واختيار الأفكار، ومن يختار الفكرة عن وعي، فإنه في الغالب يلتزم بها، ثم إن المثقفين هم موضوع الاختلاف بين أصحاب المذاهب والمادة المتنازع عليها بينهم.
وليبدأ بغير المنتمي (لجماعة) قبل المنتمي (لجماعة)؛ لأن غير المنتمي يقع في مركز وسط بين المذاهب والتجمعات، وأما المنتمي فقد انتقل من المركز إلى الطرف الآخر. والجهد المطلوب لنقله إلى مركز التأثر أضعاف الجهد المطلوب لغير المنتمي؛ علماً بأن المنتمي إذا غير انتماءه عن قناعة وفكر، فإنه سيتحول إلى الدعوة مع خبرة واسعة واستعدادات كبيرة، ولكنّ هذا قليل.
وليبدأ بزميله في العمل أو المهنة قبل غيره؛ لأن أفراد كل مهنة بينهم تعاون تلقائي، ومجالات الحديث بينهم مهيأة، ونقاط الاشتراك كثيرة. فالطبيب مع الأطباء أقدر منه بين المهندسين، والمحامي بين المحامين أقوى منه بين المعلمين. ولما كان الداعية يمتاز بنظافة السلوك -وهذا متوقع- وبالبعد عن روح التنافس الدنيوي فإنه مؤهل للاتصال بزملائه والتأثير فيهم.
والمفروض أن يراعى التخير وفقاً للمرحلة التي تمر فيها الدعوة، فقد تكون المرحلة مرحلة تجميع وسعة انتشار، وقد تكون المرحلة مرحلة عمل محدد، تربوي أو اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي، وفي كل مرحلة تُراعى مقتضياتها، ويكون التخير وفق هذه المقتضيات. وقد نفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم : «اللهم أعزّ الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك، بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب» (رواه أحمد، والترمذي وحسنه، وحسنه الألباني) على ضوء المرحلة التي كانت تمر فيها الدعوة في مكة، فقد انتشرت الدعوة بين الضعفاء والفقراء، ووصلت إلى مرحلة تريد أن تعلن فيها عن نفسها، وشخصية كشخصية عمر تناسب المرحلة الجديدة، وهذا ما حدث يوم أن دخل عمر رضي الله عنه في دين الله، فقد دخلت الدعوة طوراً جديداً هو طور العلن بعد السر.
وعندما ذهب مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى المدينة جاءه «أُسيد بن حُضير» وكان مشركاً فقال «لمصعب» و«لأسعد بن زرارة» ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا؟ وكان أسعد قد قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك، فاصدق الله فيه، فدعاه مصعب إلى الله تعالى، وقرأ عليه القرآن، ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فَتَطَهّرُ وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي. فقام فاغتسل، وطهر ثوبيه، وتشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، سعد بن معاذ، ولما أقبل سعد عليهما، قال أسعد بن زُرارة: أيْ مصعب جاءك والله سيد من وراءه من قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان. ولما عرض عليه مصعب الإسلام أسلم، ثم انطلق إلى قومه بني عبد الأشهل فقال: كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا، وأوصلنا، وأفضلنا رأياً، وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله وبرسوله، قالا: فو الله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلماً ومسلمة (سيرة ابن هشام 1/435-437 بتصرف).
ونستفيد من هذه الحادثة أمراً مهماً، وهو أن توجيه الدعوة إلى بعض مراكز القوة في المجتمع يُسهم في الإسراع بعملية التغيير، وقد يغير كثيراً في المعادلة لصالح الدعوة، ونستفيد منها أيضاً مراعاة المرحلية في الدعوة.
لاتوجد تعليقات