رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الدكتور: همام عبد الرحيم سعيد 3 نوفمبر، 2014 0 تعليق

قواعد في الدعوة إلى الله تعالى (5-2) على الداعية أن يصل إلى رتبة المُبَلِّغ وأن يسعى إلى البلاغ

تناولنا في الحلقة السابقة من القاعدة الخامسة من قواعد الدعوة إلى الله الجزء الأول(1ـ2)(1) أن هذه الدعوة تكون بالوسائل البشرية، فهي تستلهم النصر والتوفيق من الله تعالى، مع توظيف عالم الأسباب، وتم تفسير قول الله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} سورة البقرة، وتصحيح الخطأ في فهم الآية، وتم ضرب الأمثلة عن كيفية استفراغ الصحابة وسعهم لإرضاء الله تعالى، وفي الجهاد في سبيله، وكانوا يلتزمون بمعيار الوسع، مع التأكيد على جانب الاستطاعة والإرادة، وبيان حدود الوسع ومعياره، مع بيان معنى قول الله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة: 41).

واليوم نستكمل بقية هذا الموضوع.

     الدعوة نُفرة في سبيل الله، والنفور في سبيل الله لا يعني صورة واحدة، وهي صورة القتال، بل هو أعمّ من هذا، والدعوة إلى الله تعالى بجميع أشكالها هي نفرة في سبيل الله؛ ولذلك فقد جاء في سورة التوبة نفسها ما يشعر بهذا، وهو قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122).

     قال الرازي: كان الواجب انقسام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قسمين، أحد القسمين ينفرون إلى الغزو والجهاد، والثاني يكونون مقيمين بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فالطائفة النافرة إلى الغزوة يكونون نائبين عن المقيمين في الغزوة، والطائفة المقيمة يكونون نائبين عن النافرين في التفقه، وبهذا الطريق يتم أمر الدين بهاتين الطائفتين (تفسير الرازي: 16/225).

ونلاحظ في الآية الربط بين النُّفْرَة للفقه والنُّفْرَة للإنذار.

     وبناء عليه فإن المسلم مطالب ببذل قصارى جهده، ومسؤول عن تكليف نفسه وسعها من أجل نصرة هذا الإسلام بصور الجهاد المتنوعة، وأولها الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وإذا كان الإسلام لا يطالب الضرير بتقديم ما يستطيعه البصير؛ فإن الضرير والبصير كلاً منهما حسب استطاعته مطالب بتقديم الاستطاعة بمقتضى الآية الكريمة: {انفروا خفافاً وثقالاً}.

     والمؤمن يعلم بأن كل جهد يبذله في مجال التقوى، فإنما هو جهد يقاس بإمكانياته البشرية الضعيفة ولا يصل هذا الجهد إلى الدرجة التي تليق بجلال الله سبحانه وتعالى، ومن هنا فهم بعض المفسرين الآية الكريمة: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (آل عمران: 102)، على أنها منسوخة بقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن : 16)، محتجين بما ورد من سبب النزول؛ أنه لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين؛ لأن حق تقاته أن يطاع فلا يُعصى طرفة عين، وأن يُشكر فلا يُكفر، وأن يُذكر فلا يُنسى، والعباد لا طاقة لهم بذلك.

وخير من النسخ أن يُقال، والله أعلم: هناك معياران للتقوى:

معيار يليق بالمعبود سبحانه.

ومعيار يتناسب مع استطاعة العبد، فهو معيار شخصي يختلف من شخص إلى آخر، ومن حال إلى حال.

وهذان الحدان والمعياران يكون المؤمن بينهما في صعود باتجاه ما يليق بجلال الله تعالى: فعلى المسلم أن يكون يومه خيراً من أمسه، وغده خيراً من يومه. وعليه أن يزداد في مدارج التقوى كلما ازداد علماً، أو حلّت به نعمة، أو تقدم به السن.

وإذا أدرك المؤمن هذا المفهوم فإنه يخشى ألا يكون قد بذل استطاعته، ويحتاط لذلك دائماً، فلا يرضى عن عمله ولا عن بذله ولا عن جهده، خشية أن يكون قد قصَّر في المطلوب. وهذا شأن المؤمنين الذين وصفهم الله تعالى بقوله : {{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ }(المؤمنون: 57-61).

إشفاق وَوَجل:

     وقد ذكرت هذه الآيات صفات للمؤمنين: منها الإشفاق والوجل «والإشفاق يتضمن الخشية مع زيادة رقة وضعف» (تفسير الرازي 23/106)، قال الرازي وزاد: «ومنهم من حمل الإشفاق على أثره، وهو الدوام في الطاعة، والمعنى: الذين هم من خشية ربهم دائمون في طاعته، جادون في طلب مرضاته، والتحقيق أن من بلغ في الخشية إلى حد الإشفاق، وهو كمال الخشية، كان في نهاية الخوف من سخط الله عاجلاً، ومن عقابه آجلاً، فكان في نهاية الاحتراز عن المعاصي» (تفسير الرازي 23/106) ومن كان كذلك فإنه يستجيب لأمر الله في الدعوة إليه والصدع بأمره ونهيه. وأما كونهم يؤتون ما آتوا وقلوبهم وَجِلة: «معناه يعطون ما أعطوا، فدخل فيه كل حق يلزم إيتاؤه؛ لأن من يُقدم على العبادة وهو وجِل من تقصيره وإخلاله بنقصان أو غيره فإنه يكون لأجل ذلك الوجل مجتهداً في أن يوفيها حقها». (تفسير الرازي 23/107).

والخوف من التقصير مع كون الخائف يبذل قصارى جهده في الاتقاء، منزلة من منازل الصديقين، وقد بين الله تعالى أن سبب هذا الوَجَل علمهم بأنهم إلى ربهم راجعون.

فيا لها من صفات سامية تحمل أصحابها إلى المقامات العلية، وتجعل نفوسهم نقية من الرياء والسمعة، وتشحذ الهمم إلى أحسن العمل.

     وبعد هذه التوجيهات الدافعة إلى رفع الكفاءة والمقدرة تأتي الآية الكريمة {ولا نكلف نفساً إلا وسعها} ويبدو التكامل بين إعطاء الفرد مسؤولية تقدير الاستطاعة، وبين ما يعلمه الله -تعالى- من حقيقة الاستطاعة التي يراقبها ويحاسب عليها، وبلوغ الداعية درجة الخشية والإشفاق حافز على الصدق في تقدير الوسع.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك