قواعد في الدعوة إلى الله تعالى (3) الأجر يقع بمجرد الدعوة ولا يتوقف على الاستجابة
أ- وهذه القاعدة تعالج خطأ شائعاً عند كثيرين، وهو أن الأجر يترتب على النتيجة الدنيوية الظاهرة. مشبهين ذلك بالأعمال الدنيوية التي يُنظر فيها إلى النتائج المحسوسة. ولو كان الأمر في الدعوة كذلك، لكان كثير من أنبياء الله -صلوات الله عليهم- محكوماً عليه بالإخفاق، وحاشا لأنبياء الله أن يوصفوا بهذا، رغم قلة المؤمنين بدعوتهم. فهذا نوح -عليه السلام- يدعو قومه ويمكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} سورة العنكبوت الآية: 14. وظاهر سياق الآية كما يقول ابن كثير: إنه مكث في قومه يدعوهم إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاماً» تفسير ابن كثير 5/413.
ورغم هذا المكث الطويل فإنه لم يؤمن من قومه إلا قليل، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} سورة هود الآية: 40.
ويلاحظ الاستثناء في الآية بعد قوله: (ومن آمن) حتى لا يُفهم بأن عدد المؤمنين كان كبيراً قال: (وما آمن معه إلا قليل).
وكذلك كان أمر أكثر الأنبياء فإنهم يحشرون يوم القيامة، ومع بعضهم الواحد والاثنان والثلاثة، وبعضهم لا يكون معه أحد من المؤمنين. أخرج الترمذي من طريق ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم جعل يمر بالنبي والنبيين ومعهم القوم، والنبي والنبيين ومعهم الرهط، والنبي والنبيين وليس معهم أحد».
ولذلك فقد وجه الله -تعالى- رسوله محمداً -صلى الله عليه وسلم - إلى هذا المعنى عندما أمره بالدعوة والتبليغ ولم يطالبه بالنتيجة، فقال: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُﮣ} سورة الشورى الآية: 48.. وقال: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِين} سورة النحل الآية: 35.. وقال: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} سورة النور الآية: 54.
فأمر الهداية بيد الله تعالى، وهو القائل: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} سورة القصص الآية: 56.
ب- ومن فقه هذه القاعدة أن الداعية لا يقع تحت الإحباط والضغوط النفسية الناشئة عن إعراض الناس وعدم استجابتهم. ولقد رفع الله -تبارك وتعالى- الحرج عن نبيه صلى الله عليه وسلم ولم يكلفه إلا بما يستطيع، فقال: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } سورة البقرة الآية: 272. وقال له: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} سورة الكهف الآية: 6. وقال: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} سورة فاطر الآية: 8. وقل: {ولاتحزن عليهم} سورة النحل الآية: 127. وفي هذه الآيات تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ حيث كان حريصا على إيصال الخير والهداية إليهم ولكنهم عموا وصمّوا.
والقلب الرحيم يتقطع عندما يرى الناس يتهافتون في النار تهافت الفراش، وكذلك كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء التوجيه الرباني: (فلعلك باخع نفسك؟!) أي مهلكها أسىً وأسفاً عليهم لأنهم لم يؤمنوا بالقرآن الكريم. قال قتادة (لعلك قاتل نفسك غضباً وحزناً عليهم ؟! وقال مجاهد: جزعاً والمعنى متقارب، أي لا تأسف عليهم بل أبلغهم رسالة الله، {فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}(الزمر:41). تفسيرابن كثير 4/367..
وكذلك رُفع هذا الحرج عن الدعاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إن لم يهتد الناس ولم يستجيبوا لهم بعد استنفاد غاية الجهد معهم؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.
ج- وفي هذه القاعدة علاج لأولئك المتعجلين من الدعاة الذين ينتظرون النتائج الدنيوية الظاهرة، ويجعلونها شرطاً للمواصلة والسير في طريق الدعوة. وهذا التلازم إنما هو سوء فهم من جهة، ومخالفة صريحة لقواعد الدعوة في القرآن والسنة من جهة أخرى.
ولقد أكد القرآن الكريم عدم التلازم بين الدعوة والاستجابة، فقد يبذل الداعية قصارى جهده، ولا يجد من المدعو سوى الإعراض، وقد جعل القرآن الكريم بين الدعوة والاستجابة مرحلة وسيطة يبدو أنها ضرورية، وهي مقتضى قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ}. وهي مرحلة {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } والوصول إلى هذه المرحلة وسيط بين الدعوة وبين المرحلة الثالثة{جَاءَهُمْ نَصْرُنَا } سورة يوسف الآية: 110.
قال ابن كثير: «يذكر تعالى أن نصره ينزل على رسله -صلوات الله وسلامه عليهم- أجمعين عند ضيق الحال وانتظار الفرج من الله في أحوج الأوقات إليه» تفسير ابن كثير 4/160)، كقوله تعالى: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} سورة البقرة 214.
وقد فهمت عائشة -رضي الله عنها- أن هذا الظن إنما هو ظن الأتباع لا ظنُّ الرسل أنفسهم، وذلك عندما قال لها عروة: فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن، قالت: أجل، لعمري لقد استيقنوا بذلك، فقلت لها: وظنوا أنهم قد كُذبوا؟ قالت: معاذ الله لم تكن الرسل تظن ذلك بربها. قلت فما هذه الآية؟ قالت:هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم، فطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر، حتى ظن الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم. وذلك بناء على قراءة عائشة رضي الله عنها بتشديد (كُذبوا) فيكون الفاعل الأتباع لا الرسل (الكشف عن وجوه القراءات 4/16.) وهو توجيه يليق بمقام الرسل الكرام. وإذا جعلنا الضمير للرسل كان ظنهم حينئذ أن قومهم قد كذبوهم. ولا مانع من الجمع بين المكذبين من أقوام الرسل وبين المتعجلين الظانين بالله ظن السوء.
د- ولا يعني هذا أن الداعية غير مطالب ببذل قصارى جهده، واستخدام أحسن ما يستطيع من الأساليب والوسائل، وهذا ما سنذكره في قاعدة البلاغ التالية بمشيئة الله تعالى.
لاتوجد تعليقات