رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر 30 سبتمبر، 2019 0 تعليق

قواعد في الاستقــامة والثبات على أمر الله -تعالى(1)

 

 

قال الله -سبحانه-: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأحقاف:13-14)، قال الله جلَّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} (فصلت:30-32).

فالاستِقامة يترتَّب عليها سعادةُ الدُّنيا والآخرةِ، وفلاحُ العبدِ وصلاحُ أمرِه كلِّه؛ فكان حقيقاً بالنَّاصح لنفسِه الرَّاغب في سعادتِها أن يُعْنَى بالاستقامة عظيمَ العنايةِ علمًا وعملًا وثباتًا على ذلك إلى الممات، مستمدًّا العونَ من الله -تبارك وتعالى.

 الاستقامةِ وحقيقتِها

     وكثيرًا ما تَردُ الأسئلة من النَّاس لأهل العلم وطلَّابه والدُّعاة إلى الله -عزَّ وجلَّ- والمصلِحين عن الاستقامةِ، وعن حقيقتِها، وعن الأمور المعينة على الثَّبات على صراط الله المستقيم، إلى غير ذلك منَ السُّؤالات الَّتي تَرد في هذا الباب، وقد رأيتُ جمعَ بعضِ القواعدِ المهمَّةِ الجامعةِ في هذا الباب لتكون لنا ضياءً ونبراسًا.

القاعدة الأولى

     الاستقامة منَّةٌ إلهيةٌ وهِبةٌ ربَّانيةٌ، ففي آياتٍ كثيرة من كتاب الله -سبحانه وتعالى- يضيف الله -عزَّ وجلَّ- إلى نفسه الهدايةَ إلى صراطِه المستقِيم، وأنَّ الأمرَ كلَّه بيدِه -عزَّ وجلَّ- يهدي مَن يشاءُ ويُضلُّ مَن يشاءُ، وبيده -سبحانه وتعالى- قلوب العباد، فمَن شاءَ أقامَه -تبارك وتعالى- على الصِّراط، ومن شاء أزاغَه، قال الله -تعالى-: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} (النساء:66-68)، فالهداية إلى الصِّراط بيد الله -عزَّ وجلَّ-، وقال الله -تعالى-: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} (النساء: 175)، وقال الله -تعالى-: {وَالله يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (يونس:25)، وقال الله -تعالى-: {وَالله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (النور:46)، والآيات في هذا المعنى كثيرةٌ.

التَّوجُّهُ الصَّادقُ

     فالهدايةُ بيد الله -عزَّ وجلَّ-، يمُنُّ بها -سبحانه وتعالى- على مَن يشاء من عِباده، ولهذا كانَ من أوَّلِ قواعدِ الاستقامةِ وأُسُسِها: التَّوجُّهُ الصَّادقُ إلى الله -عزَّ وجلَّ- في طلبِها؛ لأنَّها بيدِه وهو -سبحانَه وتعالى- الهادي إلى صراطه المستقيم، وقد كانَ أكثرُ دعاءِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» وهذا هو الثَّبات على الاستقامَةِ، قالت أمُّ سَلَمة: فقُلْتُ يَا رَسُولَ الله، أَوَ إِنَّ القُلُوبَ لَتَتَقَلَّبُ؟ قَالَ: نَعَمْ؛ مَا مِنْ خَلْقِ الله مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ بَشَرٍ إِلاَّ أَنَّ قَلْبَهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الله، فَإِنْ شَاءَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ».

الاستقامةُ بيَد الله

     فالاستقامةُ بيَد الله؛ فمَنْ أرادَها لنفسِه فليطْلُبها منَ الله وليُلِحَّ على الله -تبارك وتعالى- بالسُّؤال، وقد جاء في صحيح مسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها أنَّها سُئِلت بأيِّ شيءٍ كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يفتَتِحُ صلاتَه من اللَّيل؟ قالت: إذا قامَ من اللَّيل افتتَح صلاتَه: «اللهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتَلَفْتُ فِيهِ مَنِ الحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»؛ هذا كان - صلى الله عليه وسلم - يقولُه كلَّ ليلةٍ في افتتاحِه لصلاةِ اللَّيل «إنَّك تَهدِي مَنْ تَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ».

أعظمَ المطالبِ

     ولما كان هذا المطلَبُ - أعني سؤالَ الله -تبارك وتعالى- الهدايةَ - أعظمَ المطالبِ وأجلَّها أوجبَ الله -سبحانه وتعالى- على عباده أن يسألوه الهدايةَ إلى صراطِه المستقيم مرَّات متكَرِّرةٍ في اليوم واللَّيلة، وذلك في سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}، قال بعضُ أهل العلم: ينبَغي أن يُنبَّه العوامُّ إلى أنَّ هذا دعاءٌ؛ لما تقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المسْتَقِيمَ} أنتَ تدعو اللهَ، وهذه الدَّعوة أوجبَها الله عليكَ، يجب عليك في اليوم والليلة أن تدعو الله بهذه الدعوة سبع عشر مرَّة؛ بعدد ركعاتِ الصَّلاة المكتوبة التي كتبها الله على عباده؛ ولهذا ينبَغي على المسلم أنْ يستَشعِر أنَّ هذا دعاء.

أنفعَ الدعاء

     وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «تأمَّلتُ أنفعَ الدعاء؛ فإذا هو سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}»، وقال -رحمه الله- -تعالى-: «أُمِرَ العبد بدوام دعاء الله -سبحانه- بالهداية إلى الاستقامة»؛ فأنت مطلوبٌ منكَ أن تُداومَ على هذا الدُّعاء -دعاء الله الهدايةَ للاستقامة- وهو موجودٌ في سورة الفاتحة، وكان الحسَن البَصري -رحمه الله- -تعالى- إذا قَرأ قولَ الله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قال: «اللَّهُمَّ أنتَ ربَّنا فارزُقْنا الاستقامَةَ».

القاعدة الثانية

     أصلُ الاستقامَةِ استقامةُ القلبِ، قد جاء في الحديث عن نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ» رواه الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. فأصلُ الاستقامةِ استقامةُ القَلب، فالقلبُ إذا صَلَحَ واستقَامَ تبعَه البدنُ، قال الحافظ ابن رجَب -رحمه الله- -تعالى-: «فأصلُ الاستقامةِ استقامةُ القلب على التَّوحيد، كما فسَّر أبو بكر الصِّدِّيق وغيرُه قولَه {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} بأنَّهم لم يلتفتوا إلى غيره، فمتَى استقامَ القلبُ على معرفةِ الله، وعلى خشيتِه، وإجلاله، ومهابتِه، ومحبَّتِه، وإرادته، ورجائه، ودعائه، والتوكُّلِ عليه، والإعراض عمَّا سواه، استقامَت الجوارحُ كلُّها على طاعتِه، فإنَّ القلبَ هو ملِكُ الأعضاء وهي جنودهُ؛ فإذا استقامَ الملِكُ استقامَت جنودُه ورعاياه»، وفي الصَّحيحين عن النُّعمان بن بَشير -رضي الله عنهما- قال: سمعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «أَلَا إِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلَا وَهِيَ القَلْبُ».

     ويقول ابنُ القيِّم: في مقدِّمة كتابه إغاثة اللَّهفان من مصائد الشَّيطان: «ولما كان القلبُ لهذه الأعضاء كالملِكِ المتصرِّف في الجنُود الَّذي تصدُرُ كلُّها عن أمرِه، ويستعمِلُها فيما شاءَ، فكلُّها تحتَ عبوديتِه وقهرِه وتكتسِبُ منه الاستقامَةَ والزَّيغ، وتَتْبَعه فيما يعقِدُه من العَزم أو يحلُّه، قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ»،هو مَلِكُها وهيَ المنفِّذَة لمَا يأمرُها به، القابلةُ لِمَا يأتِيها منْ هَديَّتِه، ولا يستقيمُ لها شيءٌ مِنْ أعمالها حتَّى تَصدُرَ عن قَصدِه ونيتِه، وهو المسؤول عنها كلِّها»، ولهذا قال الله -عزَّ وجلَّ-: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء:88-89)، وكانَ من دعاء نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْألُكَ قَلْباً سَلِيمًا».

القاعدة الثالثة

     الاستقامةُ المطلُوبَة منَ العبدِ هي السَّدَاد، فإنْ لم يقدر عليه فالمقارَبة، وقد جمعَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هذيْن الأمرينِ في قوله: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا»؛ فالمطلوب في باب الاستقامةِ السَّداد، والسَّدادُ: أن تصيبَ السُّنَّة، قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لعليٍّ - رضي الله عنه - لما طلبَ منه أنْ يعلِّمَه دعاءً يدعُو اللهَ به، قال: «قُلْ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي» قال: «وَاذْكُرْ بِالهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ، وَالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْمِ».

مجاهدة النفس

     فَالعبدُ مطلوبٌ منه أنْ يُجاهِدَ نفسَه على أنْ يُصيبَ السَّدادَ، أنْ يُصيبَ هَديَ النَّبيِّ صلوات الله وسلامه عليه ونهجَه وسُلوكَه، ويُجاهدَ نفسَه على ذلكَ، فإنْ لم يتمَكَّن فَعليه بالمقارَبة، وقد قال الله -تعالى-: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} (فصلت:6)، وهنا لطيفة: ذِكْرُ الاستغفارِ بعدَ الأمر بالاستقامَةِ فيه إشارةٌ إلى أنَّ العبدَ لابدَّ لهُ مِن تقصيرٍ مهمَا جاهدَ نفسَه على الاستقامةِ؛ ولهذا قال الحافظُ ابنُ رجَب -رحمه الله-: «وفي قوله -عز وجل- {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} إشارةٌ إلى أنَّه لابُدَّ من تقصيرٍ في الاستقامةِ المأمورِ بها، فيُجبَرُ ذلكَ بالاستغفارِ المقتَضِي للتَّوبة، والرُّجوعِ إلى الاستقامَةِ»، وقال -رحمه الله-: «وقد أخبر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الناس لن يُطيقوا الاستقامةَ حقَّ الاستقامةِ، كما خرَّجه الإمام أحمد وابن ماجه من حديثِ ثوبانَ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «استَقيموا ولن تُحْصوا».

السَّداد هو حقيقةُ الاستقامةِ

     وفي الصَّحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا»، فالسَّداد هو حقيقةُ الاستقامةِ، وهو الإصابةُ في الأقوالِ والأعمالِ والمقاصدِ كالَّذي يَرمي إلى غرضٍ فيصيبُه، وقد أمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عليًّا أن يسألَ اللهَ -عزَّ وجلَّ- السَّدادَ والهُدَى وقال له: «اذكُرْ بالسَّدَادِ تَسْدِيدَكَ السَّهْمَ، وبالهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ»، والمقارَبة أن يُصيب ما يقرُب منَ الغَرض إنْ لم يُصِب الغَرَض نفسَه، ولكنْ بشَرط أن يكونَ مصمِّمًا على قَصدِ السَّداد وإصابةِ الغَرَض، فتكونُ مقارَبتُه عن غير عَمْدٍ»؛ لا يتعمد العبد أن يترك السداد بل يجاهد نفسه، فإن لم يصب السداد فليكن في المقاربة منه، لا أن يتعمد العبد ترك السداد ولا يبالي بتحصيله.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك