قواعد المنهج السلفي – ضبط العلاقة بين النقل والعقل
ذكرنا سابقا؛ أن قواعد المنهج السلفي: هي الأسس التي وضعت لفهم النصوص الشرعية والاستدلال بها، وتتمثل من حيث الاتباع والاستقراء في ثلاث قواعد مميزة للمنهج السلفي في الفهم والاستدلال عن غيره من المناهج وهي: التمسك بفهم الصحابة -رضوان الله عليهم-، وضبط العلاقة بين النقل والعقل، ورفض التأويل الكلامي، وفي معلم واضح ومميز لهذا المنهج وهو كثرة الاستدلال بالآيات والأحاديث، واليوم نشرع بعون الله في بيان القاعدة الثانية ألا وهي: (ضبط العلاقة بين العقل والنقل).
ضبط العلاقة بين النقل والعقل
يقوم المنهج السلفي على ضبط العلاقة بين النقل (الذي نعني به نصوص الكتاب والسنة)، وبين العقل (أداة الفهم التي ميز الله بها بني آدم وجعله مناطا للتكليف)؛ وذلك بتعظيم النقل الصحيح، وتقدير العقل ووضعه في موضعه المناسب؛ فالنقل الصحيح عندهم لا يتعارض مع العقل الصحيح؛ لذا فأصحاب المنهج السلفي يحققون أولاً في صحة النص -ولاسيما السنة-ويستخدمون القواعد العقلية التي اتفق عليها العقلاء والنبهاء في إثبات صحة النقل؛ فإذا صح النقل عندهم، امتثل له العقل، وانشغل بفهم النص والاستضاءة بنوره والاستهداء بهديه.
حيثما صح النقل امتثل العقل
والقاعدة عندهم في ذلك: (حيثما صح النقل امتثل العقل)؛ فهم يبدؤون بالشرع، ويقتصرون في الاستدلال على نصوص الكتاب والسنة أولاً، ثم يلجؤون -إذا لم يجدوا نصًا أو إجماعا صحيحاً-إلى الاستدلال بالقياس العقلي، وهو «إثبات حكم لفرع لم يرد فيه نص بمثل حكم لأصل معلوم ورد فيه نص معلوم لاشتراكهما في العلة التي هي مناط الحكم»؛ فهم يثبتون الحكمة لله -تعالى- في أوامره ونواهيه وأفعاله قاطبة، ويُعملون العقل في النظر لتلك الحكم الإلهية؛ فالله -عز وجل- وصف نفسه بالحكيم في غير موضع من كتابه، ومقتضى ذلك أنه لا يأمر بشيء ولا ينهى عن شيء إلا لحكمة منه -سبحانه وتعالى-؛ فهم لا ينكرون دور العقل في التوصل إلى الحقائق والمعارف، ولا ينكرون قدرته على معرفة الحَسَن والقبيح من الأفعال، بل يستعملونه في الفكر والنظر في الآيات الكونية، وضرب الأمثلة العقلية الشاهدة على صدق الكتاب والسنة المؤيدة لما جاء به الشرع؛ فيلحقون النظر العقلي بالأدلة الشرعية الصحيحة بوصفه موافقا ومؤيدا لها، وموضحا لحكمتها لا معارضا لها، حاكمٍا عليها كما يفعل أهل الكلام الذين يؤولون النصوص الثابتة عن معانيها الواضحة، أو ينفونها لعجز عقولهم، أو ضعفها، أو لإعمالها في غير موضعها.
مواقف السلف
وقد سجلت مواقف السلف ومناظراتهم في هذا التطبيق العملي لهذا النهج الواضح من عدم تعارض العقل الصحيح مع النقل الصحيح واستخدام العقل في تأييد ما جاء به الشرع؛ فمن أمثلة ذلك:-
ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه أخبر بأحاديث رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة؛ فعارضه سائل بقوله -تعالى:- {لا تدركه الأبصار}؛ فقال له: «ألست ترى السماء»؟ فقال: بلى؛ فسأله أتراها كلها ؟ أجاب: لا.
معية الله
وكما جاء عن الإمام أحمد من أن أناسا تكلموا في معية الله مع العباد وإحاطته بهم مع كونه مستويًا على عرشه فوق سماواته؛ فضرب الإمام أحمد لذلك مثلا عقليا -ولله المثل الأعلى-؛ فقال: «لو أن رجلاً في يده قوارير فيها ماء صاف، لكان بصره قد أحاط بما فيها مع مباينته له؛ فالله -وله المثل الأعلى- قد أحاط بصره بخلقه وهو مستو على عرشه».
جماعة من الدهرية
وكما جاءت جماعة من الدهرية إلى الإمام أبي حنيفة؛ فقال لهم: أجيبوني عن مسألة؛ فقالوا: هات؛ فقال: ما تقولون في رجل يقول لكم: إني رأيت سفينة مشحونة بالأحمال، مملوءة من الأثقال، قد احتوشها في لجة البحر أمواج متلاطمة، ورياح مختلفة وهي من بينها تجري مستوية، ليس لها ملاح يجريها، ولا متعهد يدفعها، فهل يجوز ذلك في العقل؟ قالوا: لا هذا شيء لا يقبله العقل؛ فقال أبو حنيفة: يا سبحان الله إذا لم يجز في العقل سفينة تجري في البحر مستوية من غير متعهد ولا مجر؛ فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها، وتغير أعمالها، وسعة أطرافها، وتباين أكنافها، من غير صانع وحافظ؟ فقالوا: صدقت.
منهج أهل السنة
وهذا النهج الذي انتهجه أهل السنة الذي يضبط العلاقة بين النقل والعقل، يحفظ للنقل (الوحي من الكتاب والسنة) قدسيته ومكانته، ويعطي للعقل حقه ويضعه في مكانه الصحيح من العمل ومحله المناسب في إتاحة النظر.
تقديرًا للعقل الصحيح
وقد فهم أكثر الناس تقديرًا للعقل الصحيح الذي لا يتعارض عندهم مع النقل الصحيح، وإن بدا عندهم تعارضٌ ظاهريٌ بين النص الصحيح وبين العقل وإدراكه؛ فإنهم بحكم إيمانهم وبشريتهم وإقرارهم بتفاوت الأفهام والعقول يقدمون النقل على العقل في هذه الحالة لاعتبارات عدة، تعد ملزمة لكل مؤمن عاقل، صادق في ابتغائه الوصول لمراد الله، ومن ذلك:
الرد إلى الكتاب والسنة
1) أن القرآن جاء برد الناس عند التنازع إلى الكتاب والسنة (النقل)، لا إلى عقول الرجال المجردة، كما قال -تعالى-: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}(النساء: 59)؛ فلو رد التنازع إلى آراء الرجال وعقولهم وبراهينهم ومقاييسهم، لاختلفوا واضطربوا.
سنة خبيثة
2) أن تقديم العقل على النص الثابت، هي سنة خبيثة، ومنهج شيطاني، ودليل عجب وكبر؛ فهذا إبليس اللعين أعرض عن الأمر الصريح الصحيح الذي أمره الله -تعالى- به وهو السجود لآدم، وقابله بالرأي الفاسد لعقله القبيح، متكبرا بأصل خلقته وهى النار التي ظن -بضحالة عقله- أنها أفضل من أصل خلقة آدم وهى الطين، وهذا ديدن كل من يعارض نصوص الشرع المنزل من عند الله -تعالى- بقياسه وعقله؛ فيصدق فيه حال الكبر في الحال مع خيبة المسعى وضلاله في المآل، كما قال الله -عز وجل-: {إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه}(غافر: 56).
انقياد لأمر واحد
3) الرد إلى النصوص الشرعية الثابتة والانقياد للشرع يؤلف ويجمع؛ لأنه انقياد لأمر واحد، وأما الرد إلى العقل فيحيل الناس إلى آراء مختلفة؛ لتفاوت العقول والآراء والأفهام، ومن ثم يفضي ذلك إلى الفرقة والتنازع.
الشرع لا يأتي بالمستحيل
4)الشرع قد يأتي في نصوصه الصحيحة بما يحتار فيه العقل، لكن لا يأتي بما يستحيل على العقل أن يتقبله. و مثال ذلك:
الإيمان بالملائكة
فهذا إيمان بالغيب، عرف من النصوص الشرعية الثابتة وهى مخلوقات نورانية، تحتار العقول في إدراك حقيقتها، ولكن وجودها غير مستحيل عقلا، كما أن الهواء والكهرباء والفيروسات لا تُرى ولا تدرك حقيقتها، لكن يُرى آثارها وتعرف به.
-الإيمان بعذاب القبر؛ فهذا أيضا إيمان بالغيب، عُرف من النصوص الشرعية الثابتة؛ فمن يفتح قبرا لا يرى عذاباً أمام عينه؛ فقد تحتار العقول في هذا، لكن وجوده غير مستحيل عقلا؛ فالكهرباء تقتل الإنسان ويعذب بها وهو لا يراها، والأمراض تتمكن من الإنسان، وتتسبب في آلامه وهو لا يرى الفيروسات المسببة لها التي تفتك به.
قبول الحكم الشرعي
5) جَعل العقل حكما على قبول الحكم الشرعي الذى جاء بنقلٍ صحيح؛ يجعل الحكم يوما صحيحا مقبولا، ويوما مردودا لتغيير دلالة العقل بتغير أحوال صاحبه في القوة والضعف وفي العلم والدراية التي لا تبلغ حد الكمال أبدا.
الباطل المحض
لذا فإن من أعجب العجب ومن الباطل المحض أن تجد مؤمنين عقلاء نبهاء ينساقون وراء تلك العبارات المنقوشة التي يصدرها أهل الكلام، بوصفها قواعد عندهم يأسرون بها أتباعهم، ويرهبون بها من خلفهم ممن يسمعهم، أو يناقشهم وهى من الباطل المحض مثل قولهم: «حيثما ورد النص حكم العقل»؛ فهذه قاعدة باطلة من أمور عدة واضحة:
الخلط بين الصحيح والضعيف
أنهم يخلطون في هذه القاعدة بين الصحيح والضعيف والموضوع من النصوص؛ فـلا يحققون ابتداء في صحة النقل، بل يسارعون في تحكيم العقل في كل نص قبولا، أو ردا، أو ليا وتحريفا، متخذين من بعض النصوص غير الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والمصادمة لصريح العقل ذريعة في إثبات قاعدتهم الباطلة.
تقديس العقل
كما أنهم يجعلون النقل تابعا للعقل تقديسًا للعقل متغافلين عن السؤال البديهي: عقل مَن مِن الرجال يجب أن يكون النقل تابعا له؟، عقول المتقدمين أم المتأخرين؟ الأذكياء أم متوسطي الذكاء؟ عقول الرؤساء أم المرؤوسين؟، عقل الشخص الواحد في سن العشرين أم الثلاثين أم الستين؟، في حال الصحة أم المرض؟
دلالة العقل قطعية
كما أنهم يرون بهذه القاعدة أن دلالة العقل قطعية وبرهانية يقينية، ويجعلون له إحاطة كلية وإدراكاً واسعاً لكل ما في الكون وقدرة على الوصول إلى الحقائق الغيبية التي جاء بها الوحي، وكأن العقل صار إلها لا خلقاً من خلق الله، وهبه الله لعباده مناطا للتكليف، وآلة لإدراك ما جاء به الشرع الحكيم؛ لذا تجدهم -أعني أهل الكلام- يخوضون بعقولهم في أمور الإلهيات والغيبيات وما وراء الطبيعة، بل ويوجبون على الله -تعالى- ما توجبه عقولهم، ويمنعون عن الله ما تمنعه عقولهم؛ فيشبهون ويمثلون ومن ثم يحرفون ويعطلون ويتأولون نصوص الشرع من الكتاب والسنة، طبقا لما ذهبت إليه عقولهم القاصرة، بخلاف أهل السنة الذين يثبتون لله -عز وجل- أسماءه وصفاته من غير زيادة ولا نقصان، كما جاءت في كتاب الله -تعالى- وسنة نبيه[؛ فيثبتون ما أثبته الله -تعالى- لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم ، بلا تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل ولا تأويل، وقاعدتهم في ذلك (إثبات بلا تشبيه ولا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل ولا تأويل)، كما قال -تعالى-: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}(الشورى: 11).
العقل يصدق الشرع
6) العقل دائما ما يصدق الشرع في كل ما أخبر به عبر الزمان ولو بعد حين، بينما الشرع لا يصدق العقل في كل ما ذهب إليه عبر الزمان.
لاتوجد تعليقات